أرشيف المقالات

الله يحب المطهرين والمتطهرين

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2الله يحب المطهرين والمتطهرين
قال تعالى: ﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222].   قال الزمخشري رحمه الله في أساس البلاغة: (وطَهُرَ واطَّهَّر وتطهَّر، وقد طهرت طُهورًا وطَهورًا، وما عندي طَهور أتطهر به؛ أي: وَضوء أتوضَّأ به، واطلب لي ماءً طَهورًا: بليغًا في الطَّهارة لا شبهة فيه، وامرأة طاهرٌ، ونساء طواهر، وطَهُرَت من الحيض، وهي ذاتُ طُهر، وهُنَّ ذوات أطهار....
وقال: ومن المجاز: تَطهَّر من الإثم: تنزَّه منه، وطهَّرهُ الله، وهو طاهرُ الثياب: نزه من مدانس الأخلاق، والتوبة طهور للمذنب)
[1].   فالمطَّهِّرون والمتطهِّرون كلمتان تنحدران من نفس الأصل، ولكن الفرق في أنَّ المطَّهِّرين أبلغ، وتدلُّ على المبالغة والمداومة على الطهارة، في حين أنَّ التَّطهرَ يكونُ في أوقات معينة، فيكون قبل بعض العبادات؛ كالصَّلاة والطواف مثلاً، وهو إما بالوضوء أو بالغسل، يقول الخازن في تفسيره: "إنَّ طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر عند الله جل جلاله إذا حصلت الطهارة الباطنية من الكفر والمعاصي، وقيل: يحتمل أنه محمول على كلا الأمرين؛ يعني: طهارة الباطن من الكفر والنفاق والمعاصي، وطهارة الظاهر من الأحداث والنجاسات بالماء، والله يحب المطَّهِّرين: فيه مدح لهم وثناء عليهم والرضا عنهم، بما اختاروه لأنفسهم من المداومة على محبة الطهارة"[2].   ولأنَّ للتطهُّر مكانةً عظيمة عند الله جل جلاله بما يحويه من معانٍ سامية؛ فإنَّ الله تعالى يُحبُّ كثيره وقليله؛ فلهذا جاء في كتاب الله العزيز أنَّ الله جل جلاله يحب المطَّهِّرين مثلما جاء أنه يحب المتَطهِّرين، والله تعالى أعلم.   لقد جعل الله جل جلاله التَّطهر نصف الإيمان؛ لعظمته وأهميته، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطُّهورُ شَطْرُ الإيمانِ، والحَمدُ للهِ تملأُ الميزانَ، وسُبحانَ الله والحمد لله تملأان - أو تملأ - ما بينَ السمواتِ والأرض، والصَّلاةُ نورٌ، والصَّدقةُ بُرهانٌ، والصَّبرُ ضِياءٌ، والقرآنُ حُجةٌ لكَ أو عَليكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغدو، فبايعٌ نفسَهُ؛ فمُعتِقُها، أو مُوبقُها))[3].   وعن عويم بن ساعدة الأنصاري رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاء، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطُّهُورِ فِي قِصَّةِ مَسْجِدِكُمْ، فَمَا هَذَا الطُّهُورُ الَّذِي تَطَّهَّرُونَ بِهِ؟))، قَالُوا: واللهِ يَا رَسُولَ الله مَا نَعْلَمُ شَيْئًا إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ لَنَا جِيرَانٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَكَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ، فَغَسَلْنَا كَمَا غَسَلُوا [4].   وإنَّ المطَّهرين والمتَطهِّرين بالماء إنما يعبِّرون عن مدى حرصهم على النَّقاء والظُّهور بمظهر لائق عندما يقفون بين يدي خالقهم جل جلاله، والإصرار على ذلك، بالرغم من أن رخصةً في التخفيف مُقرَّة في الشرع أصلاً، فإنَّ فرصتهم في الاستنجاء بالحجارة أو بغيرها قائمة، فربما كان الإصرار على التطهُّر والمداومة عليه واحدًا من أسباب حبِّ الله جل جلاله لهم.   ومن رحمة الله بعباده أنْ جعل الطهارة يسيرة، وجعل أجرها عظيمًا، فالغسل من الجنابة يطهِّرُ المرء، فإنْ غاب الماء أو خشي الهلكة، فصعيد الأرض بديل ورخصة ورحمة، وفرك المني من الثوب بعد جفافه يطهره، والوضوء من الحدث الأصغر يُطَهِّرُ المرء، وفي الغسل والوضوء تيسير عجيب، يقول الكاساني في بدائع الصنائع: "أما بيان مقدار الماء الذي يغتسل به، فقد ذكر في ظاهر الرواية، وقال: أدنى ما يكفي في الغسل من الماء صاع، وفي الوضوء مد؛ لما روي عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، فقيل له: إن لم يكفنا؟ فغضب، وقال: لقد كفى من هو خير منكم وأكثر شعرًا"[5]، كل هذا في الطهارة الحسية.   أما الطهارة الروحية، فهي الأصل، وهي المراد، فحين تكون النفس خبيثة، وتمتلئ بالشهوات الشيطانية، والشبهات الشركية، والحقد والكيد، وتمني هلاك الآخرين، فلا معنى للثوب النظيف والجلد النظيف.


[1] أساس البلاغة، الزمخشري، ج1، ص399. [2] لباب التأويل في معاني التنزيل، علاء الدين البغدادي (الخازن)، ج3، ص150. [3] صحيح مسلم - كتاب الطهارة، باب: فضل الوضوء، ج1، ص203، حديث: 223. [4] مسند أحمد بن حنبل، حديث عويم بن ساعدة، ج3، ص422، حديث: 15524. [5] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين الكاساني، ج1، ص37.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣