أرشيف المقالات

الصور الصادمة في آي الذكر المحكمة (1) ذكرا وليس حصرا

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
الصور الصادمة في آي الذِكرِ المٌحكمة (1)

ذكرًا وليس حصرًا


الحمد لله الذي استهل سورة هود بعد حرف الإعجاز – ﴿ الر ﴾ - بإيجاز المراد الأسمى من قرآنه العظيم بقوله: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1]، وشرفه عظيم التشريف بانتسابه لذاته العليا وصفاته الكبرى فجعل الإحكام بروعة السرد وبديع الألفاظ والمعاني وذكر الأوامر والنواهي، وكان التفصيل بذكر الثواب والعقاب، ((ذكر الْحَسَنُ: أَحُكِمَتْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، ثُمَّ فُصِّلَتْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
قَالَ قَتَادَةُ: أُحْكِمَتْ؛ أَحْكَمَهَا اللَّهُ فَلَيْسَ فِيهَا اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فُصِّلَتْ أَيْ: فُسِّرَتْ.
وَقِيلَ: فُصِّلَتْ أَيْ: أُنْزِلَتْ شَيْئًا فَشَيْئًا، ﴿ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾.
تفسير القرآن الكريم [1].
 
وبعد:
فإن هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين هو ذاته الذي ينبَّأ بالتي هي أشأم وٌينذر المعرضين، ومن حاد وماد عن جادة الصواب، واستهان بالعذاب وأستخف بالأمثال التي ساقها لنا في قرآنه الكبيرٌ المتعال وما حاق بأمم غابرة وقرون كافرة جَزمَ القرآن الكريم بخروجهم من رحمته تعالى خروجًا لا مرد له ومالهم من دونه من وال....
اِذكروا إن شئتم قول ربكم قول ربكم: ﴿ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ﴾ [هود: 60]، أو قوله تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ﴾ [هود: 68]، وما أكثر فعل الأمر " واذكر " في القرآن الكريم للتنبيه والاتعاظ وتمر تلك الآيات على الأسماع ليل نهار ربما مرات عديدة وبأصوات شجَّية وندَّية وقليل من يتدبر المعاني والمفاد!.
 
• ونسأل أنفسنا قبل أن نٌسأل: لما ذلك العنوان الصادم وفي القرآن الكريم الصور المبهجة كقوله: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]..
والعديد من أمثالها؟! نقول بعد الحمد لله رب العالمين اجتهادًا واستنادًا إن ذكر القرآن الكريم لموبقات وعقوبات أهل المعاصي وضرب الأمثال بهم حقيق على ألا يصرف المتقين عن عبادته وجدير بهم أن يتبعوا سبل السلامة من كل غي، والنجاة من أدنى شرك؛ ألم يقل الله تعالى: ﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ ﴾ [الرحمن: 35]، وقوله: ﴿ فَلَا تَنْتَصِرَانِ ﴾؛ يقول تعالى ذكره: فلا تنتصران أيها الجنّ والإنس منه، إذا هو عاقبكما هذه العقوبة، ولا تُستنقذان منه.
كما حدثنا ابن عبد الأعلى قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: ﴿ فَلا تَنْتَصِرَانِ ﴾، قال: يعني الجنّ والإنس.
(تفسير الطبري) ثم يعقبها....
﴿ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [الرحمن: 38]، وما الآية بذاكرة لنعمة أو صورة من صور الجنة التي أفاضت بها عروس القرآن الرحمن لكنه التذكير بالعذاب قبل الترويح بعطايا الجنة وهبات الرحمن كفيل بصرف كثير من الناس عن المعاصي وإشراك الفتن.
 
• وأيضًا سندٌ ثانِ وهو أن غالب السور المكَّية التي نزلت على قلب المصطفى في بدايات الدعوة فيها من ذكر كثير للأمم الغابرة التي حقت عليها كلمة العذاب وفيها حكمة الله العالية للزجر والردع لمن لم يعتبر وهذا اجتهادٌ والله أعلى وأعلم وسبحان الله عما يصفون علوًا كبيرًا.
 
• و يمكننا القول مثلًا بأن من العباد عبادًا لا يلج أبواب الاستغفار إلا بذكر مآل أهل النار وسياق الأماثل التي تٌهيب بحتمية التوحيد لرب العبيد وتلك ليست بقاعدة عامة قَدر ماهي جائزة وقائمة والقاعدة الشرعية للدعوة المحمدية نصًا تقول: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125] - وإن إهداء وإسداء النصح يستوجب قراءة الشخصية ومعرفة مكامن سير العظة فيها وإن الإمعان في قسوة التصوير والتشبيه كاف بان يٌبطل المعاذير ويفَّعل العقول مع القلوب ليستيقن الذين كفروا ويزداد الذين أمنوا اِيمانا والله أعلى وأعلم.
 
الفارق بين المشهد والصورة في القرآن الكريم:
• كل حرف في النص القرآني العظيم صدق وحق ولا ينبغي لمارق أن يدعي فيه الخلل أو أن يختلق في صدق بيانه العِلل ومع صدق بيانه وسمو حديثه فهو مشتمل على كافة دروب البلاغة والبيان والبديع من تشبيه واستعارة ومجاز وتقديم وتأخير وتضمين وحذف وقصر.
وقد استغنى عن الاطناب تصفيدًا لكل باب يحرك الهواجس والفتن حتى ولو كانت الريبة التي هي أدنى درجات الشك؛ والقاعدة في بيان الشعر وبديعه تقول: أن أروع الشعر وأعذبه أكذبه أو ما اشتمل على صور لن تتحقق وأخيلة كاذبة جذابة، لكن صور القرآن الكريم السامية والتي هي من اختيار الله العظيم تتسامى فوق تلك القواعد الأرضية والافتراءات البشرية لتقديم تصوير.
وهذا الكلام مٌسَلم به أزلًا ومقطوع بصدقه منذ الوهلة الأولى لنزول القرآن الكريم على قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
 
• وقبيل سياق الفارق بين الصورة القرآنية والمشهد القرآني يجدر بنا التسليم التام بوشيجة الارتباط القوية بينهما من الصدق ووقوع الحقيقة على معانيهما لأنهما من كلام ربنا عز وجل الذي تعالى عن الشبيه والمثيل وقديمًا سلَّم علماؤنا الأجلاء الراحلين بأنه لا يجوز قياس بلاغة القرآن على بلاغة الشعر! فليس من اللائق قياس الأعلى على الأدني.
 
والمشهد في القرآن الكريم نوعان:
• الأول: ما وقع فعلًا وسجله القرآن الكريم للعظة والاعتبار به كوصف القرآن الكريم لنا بمشهد" الطوفان وسفينة نبيه نوح عليه السلام وصرعة ولده "كنعان " الذي كتبت عليه الشقاوة من ذرية نوح ..
أو غرق فرعون وجنوده باليم عقابًا لهم ونجاة موسى وقومه...
إلى غير ذلك من مشهدية أورد القران الكريم ذكرها وأفرد نصها صدقًا وحقًا لم يعاصرها الرعين الأول من فجر الاسلام، ولنا أيضا ً لقيام الساعة من مواقف ومشاهد حياة النبي والصحابة رضوان الله عليهم جميعاَ وغزواته صلى الله عليه وسلم كغزوة "بدر " مثلًا تلك التي ٌفرض على المؤمنين فيها القتال ولم تكن نية النبي ولا اصحابه لكنها إرادة الله ليحق الحق ويمحق الباطل ولو نظرت لمشهدية الغزوة في سور القرآن وهو يصور لك مشهد المعركة وهم بالعدوة الدنيا والمشركون بالقصوى والركب أسفل منهم ..وهذا النقل ثلاثي الأبعاد بما يحمل من جماليات التمثيل وصدق والتصوير والثقة بنصر الله لعباده ونصرة نبيه ..والعديد من المشاهد التي أجملها القرآن في مواضع وفصَّلها في أخريات .تبصرة وذكرى لكل عبد منيب.
 
• والثاني: وهو مٌنتَظر وقوعه وحدوثه وهو الاعلى إعجازًا ولا يكذب بذلك إلا كل كفور ...
وهو تلك المشاهد التي سوف تحدث يوم القيامة وأهوال الحساب والبعث ذكرا وليس حصرًا " مثال لما يحدث في القيامة كحديث أصحاب الأعراف، أو تخاصم أهل النار.
أو خطبة إبليس التي سوف يلقيها على أشياعه وأتباعه يوم القيامة أو ما سوف يحدث في الدنيا بعلم الله العليم كخروج الدابة من علامات الساعة الكبرى إلى غير ذلك.
 
• فأما الصورة فهي كل وصف صادق بديع بليغ عميق الأثر من رب العالمين فما ينبغي لبشر أن يأتي بمثله إلا على سبيل الاقتباس والتنَّاص وهذا جائز شرعيًا وأدبيًا مع مراعاة قدسية المقارنة بينهما.
وصور القرآن الكريم عديدة وكثيرة لن نستطع لها حصرًا ولا عدا حتى ولو تبدت لنا أننا قد أحطنا بها جمعًا لكن معاصرة مفردات القرآن وتجدد معانيه وتزاحم العطاش على موارد بيانه كفيلٌ بألا ينقطع إعجازه وتبيانه، ولا يزال معينه ينبض ويتدفق حتى قيام الساعة.
وحتى لا نطيل فيستطيل بنا مقام الاسهاب والاسترسال ونعود لمبتدأ القول فخير المقال ما فيه الايجاز والانجاز نلتف سويًا حول مجموعة من الصورة البليغة عالية الاعجاز اللغوي والتوظيف الأمثل التي ساقها الرحمن الرحيم في كتابه العزيز وليكن الولوج من صورتين فيهما من البديع والتبيان ما يؤكد على معاصرة القرآن لكل عصر وَمصر!.
 
وقبل الاتحاف بالصور والتشبيه التمثيلي البليغ في القرآن العزيز يجدر بنا أن نسوق المقومات الرئيسية لبلاغة الصورة الفنية بشكل عام والقران العظيم بشكل خاص ويمكن قياس أي نص يريد صاحبه به الارتقاء والبلاغة على جماليات التصوير القرآني العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي أعيا ببراعته البلغاء وشهدوا له بالصدق مع البلاغة والحق مع البيان.
 
اللغة:
هي أداة تشييد البناء التمثيلي وصناعة الصورة البيانية ومقوم رئيس لها وإن لم تكن الغالب في انتاج الصورة البيانية النقية الخالصة من شوائب التعقيد والخلط بين ما هو محسوس وجيه الشبه وبين ما هو مٌنفر غير مقنع ولا نجد بدًا من الإقرار بأن معيارية اللغة هي الفارق الأمثل في الحكم على نقاء الصورة وجودة العرض فإن كانت اللغة مثلًا هي العربية الفصحى فنعما هي وإن كانت من سياقات النص القرآني فلا توجد أدنى مساحة للمقارنة مع ما دونها حتى من تصويرات البشر متى ابدعوا.
 
طبيعة الرمز:
ويٌعنى بطبيعة وفيزيائية الرمز العناصر المحسوسة والملموسة والموظفة والأكثر اقناعا ً للمتلقي لإظهار الفكرة حتى ولو بدت بعيدة الشبه والمقاربة كالمجاز مثلًا شريطة ألا تكون منفرة للفهم ولا تتوفر تلك الرمزية أو تلك الأدوات إلا في لغة كالعربية العظمى ذات المجازات العالية.
فإن العربية ذات المجازات المركبة والادوات الوفيرة كفيلة بأن تأتي بالرمز الأكثر إقناعًا والأجدى إفادة.
ويعنى بالرمز النظر في مفردات الطبيعة وصناعة علاقة ربط تمثيلية بينها وبين فكرة مرجوة حتى ولو بدت بعيدة الشبة لكنها قريبة المشابهة لمن كان ذا ذائقة أدبية ومن بديع الاعجاز القرآني هو التصوير البليغ مع اتضاح الصورة الملفتة للقضية محل الايضاح، والرمز لابد وأن يكون معروفًا أو مألوفًا أو مرتبطًا بصلة تذكير بما سوف يضرب به المثل او بما سوف تعرج إليه أفهام الخلق.
 
التوظيف أو حبكة التركيب:
مَن الله على الٌمبدع بقاموس لغوي وأولاه رمزًا مبتكرًا فاصبح لديه معيارين رئيسيين يؤهلان نصه للوصول إلى منصة الإبداع، ويبقى حٌسن التوظيف وتسكين المفردات في مكامنها فجدير به أن يوظف تلك المفردات في مرابعها و يهيأ الأنظار والعقول والقلوب لمعابر العبرة فيها فتكون قد أدت دورها على أكمل وجه وأحسن صورة ولنسوق مثالًا للتقريب (النجار مثلًا الذي يجمع الأخشاب وأدوات العمل ودٌسر الربط الوشيج إن لم يكن لديه المقدرة على الاتيان بقطعة اثاث تقف عندها العيون ذاهلة من حسن التشكيل والتكوين فقد اضاع مقومين رئيسين من مقومات الابتكار والإبداع فكذلك صاحب القلم أيًا كانت أصناف وأجناس الكتابة لديه إن لم يوظفها التوظيف الأمثل أهدر مفردات لغوية وأساء انتخاب الرمز المعبر.
 
وهنا يمكننا القول تسليمًا وطواعية أن اكتمال المقومات الثلاثة معًا حقيق على صاحبهما ألا يخرج من دائرة الإبداع الفني والتصويري للنصوص الأرضية.
 
• وللمقال بقية من الأنوار القرآنية والتصوير القرآني العظيم لبعض الأمثلة التي سيقت للاعتبار استنادًا لتفاسير أجلاء علماء المسلمين حتى لا نحيد عن الحق أو تميد بنا الاقلام لهوى متبع ..
والله المستعان في بدء وفي مختتم.



[1] شبكة الألوكة / تفسير: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير).

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن