أرشيف المقالات

في سبيل الإصلاح

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
8 الحلقة المفقودة للأستاذ علي الطنطاوي نحن اليوم (في الشرق الإسلامي) في دور انتقال ليس له وضع ثابت، ولا صفة معروفة، فلا نحن نعيش حياة إسلامية شرقية كما كان يعيش أجدادنا، ولا نحن نعيش حياة غربية خالصة كالتي يحياها الأوربيون، ولكنا نعيش حياة مختلطة مضطربة متناقضة فيها ما هو شرقي إسلامي، وفيها ما هو غربي أجنبي، وفيها ما ليس بالشرقي ولا بالغربي، ولكنه منقول نقلاً محرفاً مشوهاً عن هذا أو ذاك.
بل أنت إذا دققت وأنعمت النظر في حياتنا وجدت لها جانبين مختلفين، ولونين متباينين: الجانب الذي يميل إلى المحافظة، والجانب الذي يجنح إلى التجديد.
وهذان الجانبان تلقاهما في كل عهد من عهود الانتقال في التاريخ؛ ففي مطلع العصر العباسي كنت تجد في بغداد المحدثين والزهاد والفقهاء كسفيان والفضيل وأبي حنيفة، وإلى جانبهم الفساق والمجان كبشار وأبي نواس، والمتعصبين للعربية والشعوبيين، ومن كل صفة زوجان، ولكل أمر ناحيتان، وكذلك كان شأن الرومان أول اختلاطهم باليونان قف ساعة في أي شارع كبير في أي مدينة من مدن الشرق الإسلامي واعرض الأزياء، تر الإزار والعقال إلى جانب العمة، إلى الطربوش، إلى القبعة، إلى اللاطية.
حتى أن أجنبياً وقف مرة هذا الموقف فظن أن القوم في عيد المساخر (الكارنفال).
وادخل عشرة بيوت تجد البيت الشرقي ذا الصحن الواسع والإيوان المشمخر والبركة ذات النوافير، إلى جانب البيت الأوربي المسقوف المتداخل الذي لا ترى فيه السماء إلا من الشرف.
ولج البيت الواحد تجد الغرفة ذات الفرش العربي: الأسرّة والمتكات والوسائد والبسط والنمارق، إلى جانب الغرفة الأوربية ذات المقاعد والمناضد.

واعرض أهل الدار تجد بين الأب وابنه قرناً كاملاً في اللباس والتفكير والعادات.
وفتش عن الأب المساء تَلْقَهُ في المسجد أو قهوة الحي، ثم انظر الابن تجده في أحدث مرقص أو أكبر ناد للقمار أو للتمثيل أو المحاضرات.
وانظر إلى الأم المحتجبة المصلية الصائمة، وابنتها السافرة التي لا تعرف من أين القبلة، ولا تدري ما هو الصيام.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكنه تعداه إلى الثقافة والعلم وسائر الأمور التي تتصل بحياة الأمة اتصالا ماساً، فجعل فيها هذا الازدواج وهذا التناقض.
اجتمع باثنين من المثقفين بالثقافة الإسلامية والثقافة الغربية، تر الثاني ينكر المكتبة العربية جملة، ويجحدها مرة واحدة، وينبزها بالكتب الصفراء والثقافة الرجعية الجامدة، لا يدري أن المكتبة العربية أجل تراث علمي عرفه البشر وأعظمه، وأنها رغم ما أصابها من نكبات: منها نكبة هولاكو حين ألقى الكتب في دجلة حتى اسود ماؤه - فيما نقلوا - من خبرها، ونكبة الأسبان حين أحرقوا الكتب وفيها حصاد أدمغة البشر قروناً طويلة، ولبثوا ليالي يستضيئون بنورها إلى الصباح؛ ورغم ما أضاعه الجهل والإهمال لا تزال مخطوطاتها تغذي المطبعات في الشرق والغرب من خمسين سنة إلى الآن دأباً بلا انقطاع، ولا يزال فيها ما يغذيها خمسين سنة أخرى في ناحية من نواحي التفكير وفي كل فرع من فروع العلم وتجد الأول ينكر العلم الحديث كله ويجحده بجملته ويعيش اليوم بعقل جدّه الذي كان قبل ثلاثمائة سنة، فلا علم عنده إلا علم العربية والدين والمنطق، ولا أدب إلا الأدب العربي، ولا كتب إلا هذه الحواشي والشروح التي لم تصلح أبداً حتى تصلح اليوم، والتي لا يتصور العقل طريقة في التأليف أشد عقماً منها، إذ تذهب ثلاثة أرباع جهود المدرس والتلميذ في فهم عبارتها وحل رموزها والربع الباقي في فهم مادة العلم التي لا يخرج منها التلميذ على الغالب بطائل فرجالنا المثقفون وعلماؤنا بين رجلين: رجل درس الثقافة الإسلامية، ولكنه لم يفهم شيئاً من روح العصر، ولا سمع بالعلم الحديث، ورجل فهم روح العصر ودرس العلم الحديث، ولكنه لم يدر أن في الدنيا شيئاً اسمه ثقافة إسلامية.

فمن أي هذين الرجلين ننظر النفع؟ لا من هذا ولا من ذاك، ولكننا ننظر النفع من الرجل الذي عرف الإسلام وعلومه، وفهم روح العصر وألم بالعلم الحديث، هذه الطبقة المنتظرة من العلماء، هذه الحلقة المفقودة هي التي يرجى منها أن تقوم بكل شيء، وهي التي سينشئها الأزهر المعمور ودار العلوم العليا، والمدارس التي شيدت لتجمع بين الثقافتين كالكلية الشرعية في بيروت، ودار العلوم في بغداد، وبنشئها من يتخرج في المدارس العليا والجامعات ويكون ذا ميل إلى الدين، ويكون له إلمام بعلومه من هذه الطبقة ينتظر النفع والفلاح، وعلى هذه الطبقة واجبات كثيرة يجمعها أصل واحد، هو دراسة الإسلام على أساس العلم الحديث واستخراج رأيه في مشاكل العصر، وحكمه في الأحداث التي لم يعرفها الفقهاء ولم تحدث في أيامهم.
وأهم من هذا كله الآن استخراج القوانين الأساسية والحقوقية والجزائية من الفقه الإسلامي، بدلاً من أخذ القوانين الأجنبية برمتها وتطبيقها في البلاد الإسلامية التي انبثق منها أعظم تشريع عرف إلى الآن وأرقاه.
وهذا العمل يبدأ بالدراسات العلمية الفردية ثم يصل إلى الغاية المتوخاة، وهي أن تتم إحدى الحكومات الإسلامية العمل الذي بدأته لجنة المجلة (مجلة الأحكام العدلية) لكن بمقياس أوسع ونسبة أكبر، فلا تتقيد هذه اللجنة بمذهب واحد من المذاهب الأربعة، بل لا بأس أن تأخذ بعض الأقوال من مذهب آخر، ولا تقيد بالمذاهب الأربعة بل لا بأس أن تأخذ بقول لبعض الأئمة الذين اندثرت مذاهبهم، كالثوري والأوزاعي والليث والبطري والظاهري، إن صح مستند هذا القول، ولا تتقيد أيضاً بهذه الأقوال بل تجتهد كما اجتهد الأئمة، وتأخذ الأحكام من الكتاب والسنة رأساً، وأن تبحث عن المصلحة التي يقتضيها النص، فإن الشريعة ما أنزلت عبثاً، والأحكام لم تشرع لغواً، ولكن لكل حكم مصلحة.
ومن دقق في اجتهادات الخلفاء الراشدين وجد أنهم يدورون مع المصلحة أينما دارت.
هذا عمر رضي الله عنه علم أن المصلحة المرادة من إعطاء المؤلفة قلوبهم سهماً من الزكاة إنما هي تقوية الإسلام وإعزازه، فلما حصلت المصلحة وعز الإسلام أسقط سهم المؤلفة وهو منصوص عليه في القرآن الكريم.
وهذه مسألة طلاق الثلاث بكلمة واحدة كان يقع واحدة على عهد النبي ﷺ وعلى عهد أبي بكر وصدراً من خلافة عمر، فرأى عمر أن المصلحة (في أيامه) في إيقاعه ثلاثاً فأوقعه مع أن الآية صريحة في أن الطلاق مرتان (وقد عادت المصلحة اليوم في إيقاعه طلاقاً واحداً والرجوع إلى الأصل المعروف من الكتاب والسنة).
وعطل عمر حد السارق في عام المجاعة.
وهذا عثمان جمع الناس على حرف واحد من حروف القرآن، مع أن القرآن أنزل على سبعة أحرف لأن المصلحة تقتضي هذا الجمع.
وهذا عليّ حرّق وهو يعلم حكم الله في القتل لأنه رأى المصلحة في هذا العقاب البليغ.
والحكومة الإسلامية التي يؤمل منها تحقيق هذا المشروع العظيم هي مصر وحدها، لأنها الحكومة الإسلامية الكبرى، ولأنها وحدها التي ينص دستورها على أن دينها الرسمي الإسلام، ولأن فيها الملك المسلم التقي فاروق أعز الله به الإسلام، ولأن فيها الأزهر المعمور وفيها العلماء، ولأن فيها اتجاهاً إسلامياً قوياً ظهر في السنين الأخيرة، ودعوة قوية إلى استبدال القوانين الإسلامية بالقوانين الأجنبية ولو أني وجهت هذه الدعوة قبل عشر سنين مثلا لعرضت لها المعارضة من ناحيتين: ناحية المشايخ الجامدين، وناحية الشباب الجاحدين.
أما الأول فلأنهم كانوا يعتقدون أن الاجتهاد سد بابه إلى يوم القيامة، وأن الفقهاء لم يدعوا شيئاً إلا بينوا حكمه مع أن المسألتين مردودتان، لأن سدّ باب الاجتهاد معناه الحظر على الله أن يخلق مثل أبي حنيفة، وهذا محال.
ومادامت الأرحام تمتلئ، والنساء تلد، فليس مستحيلاً أن ينشأ مجتهدون وأئمة ونابغون يفوقون الأولين - ولأن الفقهاء وإن بذلوا الجهد، وفرضوا في كثير من المسائل أبعد الفرضيات، وبينوا حكمها، فإن من البديهي أنهم لم يتكلموا في المسائل التي ظهرت الآن ولم يعرفوها.
وإذا كان الإمام الشافعي قد غير رأيه في أكثر مسائل المذهب، حين انتقل إلى مصر، ورأى أفقاً جديداً، حتى صار له مذهبان قديم وجديد، فلم لا يتغير الرأي في كثير من المسائل، وقد تغير العالم كله، وتبدلت الدنيا، والإسلام صالح لكل زمان ومكان، والأحكام تتغير بتغير الأزمان؟ أما الشباب الجاحدون فقد كانوا يعارضون هذه الدعوة لأنهم كانوا ينفرون من كل ما يتصل بالإسلام، أو يمتّ إلى الدين بسبب، ويموتون عشقاً لأوربة، ولكل ما له علاقة بأوربة أما الآن فقد اعتدلت الطائفتان، فلم يبق على وجه الأرض عالم مسلم يقول بسد باب الاجتهاد، ويدعي أن الفقهاء لم يتركوا شيئاً كان أو يكون إلا بينوا حكم الله فيه؛ ولم يبق في الشباب المتعلمين (والمثقفين حقاً) من ينفر من الدين، ويفزع من اسمه، بل إن العقلية العربية (ولاسيما في مصر) قد اتجهت نحو الإسلام اتجاهاً قوياً ملموساً؛ فعلماء مصر، وطلاب مصر، ورجالات مصر، مؤيدون للإسلام متجهون إليه، وهذا مما يسر، ويبعث الأمل في نشوء هذه الحلقة المفقودة، وإنجاز هذه الواجبات كلها والمسائل التي تحتاج إلى نظر وبحث واجتهاد كثيرة لا أستطيع الآن - ولا أريد - أن أستقريها كلها، ولكني أمثل لها بأمثلة قليلة قريبة هذا رمضان قد جاء.
أفلا يجب إعادة النظر (مثلاً) في مسألة ثبوت الهلال؟ أليست هذه الطريقة المتبعة اليوم في أكثر البلدان الإسلامية مؤدية إلى الفوضى الظاهرة والنتائج الغريبة المضحكة؟ ألم تمر سنوات ثبت فيها رمضان في بعض البلدان الإسلامية السبت، وفي غيرها الأحد، وفي أخرى الاثنين.

إلى الأربعاء فاختلف ابتداء رمضان، من السبت إلى الأربعاء، وهو يبدأ في الواقع في يوم واحد؟ ألا يبدو هذا مخالفاً لجوهر الدين؟ أنا لا أدعو إلى بدعة جديدة، فقد تكلم الفقهاء في هذه المسألة، فمن فقهاء الحنفية من قال بأن رؤية الهلال في قطر توجب الصيام على الجميع، فلماذا لا نتخذ مرصداً منتظماً في إحدى البلدان الإسلامية، ثم تذاع نتائج رصده على البلدان الإسلامية كافة فيعمل بها؟ أنكون بذلك مخالفين أو مبتدعين، والفقهاء قد قالوا بهذا؟ ومن فقهاء الشافعية كالقفال والرملي وابن سريج من قال بالأخذ بالحساب، والاعتماد على العلم الثابت، فلماذا لا نأخذ بهذه الأقوال، ونحن في عصر ترقى فيه العلم، وصار يعرف موعد الخسوف مثلاً، بالدقيقة والثانية، ويثبت خبره عياناً، أفلا يعرف موعد ولادة القمر وظهوره؟ إن الاعتماد على الشهادة في رؤية الهلال ينتج أموراً عجيبة، من ذلك أن جماعة من قرية دوما شهدوا عند القاضي بدمشق أنهم رأوا الهلال، وأثبت القاضي رمضان اعتماداً على شهادتهم، فقال عمي الشيخ عبد القادر الطنطاوي (وهو شيخ انتهى إليه الآن علم الفلك الإسلامي في الشام) قال للقاضي: إن هذه الشهادة كاذبة وإن الهلال لا يمكن أن يرى الليلة الثانية، فضلاً عن الأولى.
وذهب مع القاضي وجماعة من وجه الشام إلى دوما، وأحضر الشهود، ووقف معهم في المكان الذي زعموا أنهم رأوا منه الهلال في الجهة عينها، والساعة ذاتها، وسألهم: أين الهلال؟ فلم يروا شيئا.
ثم قال واحد: هاهو، فقال الجميع: هاهو، فأخرج عمي نظارة مكبرة وأراهم، فإذا الذي رأوا غمامة طولها متران، انقشعت بعد ثوان! وقد حدث مثل هذا كثيراً.
سمعت من مشايخي، ولم أر ذلك في كتاب، أن أنس بن مالك رضي الله عنه شهد عند شريح القاضي أنه رأى الهلال، فقال له: هلم أرنيه يا عم.
وذهب معه، فقال: هاهو.
فنظر شريح وهو الشاب الحديد البصر، فلم ير شيئاً وأنس يقول: هاهو.

فنظر شريح فإذا شعرة من حاجب أنس بيضاء متدلية يراها فيحسبها هلالا.
فأزاحها فلم يعد يرى شيئا ومنها مسألة الطلاق، لقد بلغت مسألة الطلاق حداً لا يجوز السكوت عنه، ولابدّ من إعادة النظر فيها.
وشرع قانون لها يؤمن المصلحة العامة، ويحقق غرض الشارع يكون الرجل في السوق يبيع أو يشتري، فيحلف بالطلاق على أمر، فتطلق امرأته وهي في دارها، ويتشرد أولادها، وتنهدم دار على رؤوس أهلها؛ أو يغضب من أمر فيحلف بالطلاق، مع أن الذي أفهمه أنا أن الزواج عقد يعقد قصداً يراد به ضم حياة الرجل إلى حياة المرأة، وأن الطلاق عقد مثله يراد به حلّ العقد الأول، ولا بأس أن يكون حلّ العقد بيد الرجل وحده ولكن لابدّ من ثبوت القصد، وأعني بالقصد أن يطلق الرجل وهو يفكر في معنى الطلاق ونتائجه، ويقصد فك الرابطة الزوجية فيجب أن يكون القصد شرطاً في وقوع الطلاق، ويجب أن نجد طريقة مادية لإثبات القصد، كأن يشترط تبليغ الزوجة الطلاق بواسطة موظف مخصوص ينصبه القاضي فإن طلق رجل وهو قاصد من غير واسطة هذا الموظف، يقع الطلاق ديناً، ولا تسمع به الدعوى هذا وأنا لا أجتهد في هذه المسألة ولكن أدعو إلى الاجتهاد فيها ودرسها وهناك مسائل كثيرة، لا أعمد الآن إلى استقصائها متى وجدت هذه الحلقة المفقودة درست هذه المسائل كلها، فحققت حاجات العصر وأجابت مطالبه، ولم تخرج على أصول الإسلام، ولم تخالف قواعده، ودرست الإسلام من كافة النواحي العلمية والفنية والاجتماعية، فإن درسنا الحقوق الأساسية العامة، درسنا الحقوق الأساسية في الإسلام، وإن بحثنا في الاشتراكية بحثنا عن رأي الإسلام في الاشتراكية، وإن انقطعنا إلى التاريخ درسنا التاريخ الإسلامي درساً حديثاً، وإن اشتغلنا بالفلسفة درسنا تاريخها في الإسلام، وحكم الإسلام في نظرياتها ومسائلها.
عند ذلك يمحى هذا الازدواج، وهذا التناقض من حياتنا، ونحيا حياة كاملة قد اصطبغت كل ناحية فيها بالصبغة الإسلامية وهذا هو مثلنا الأعلى الذي يجب أن نطمح إليه.
(دمشق) علي الطنطاوي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١