أرشيف المقالات

الحكمة من بعض أنواع النسخ

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
2الحكمة من بعض أنواع النَّسخ
الأول: الحكمة من نسخ الحكم دون التلاوة: تكفل الإمام الزركشي ببيان ذلك؛ حيث قال: "وهنا سؤال، وهو أن يسأل: ما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أن القرآن كما يتلى ليُعرَف الحكم منه والعمل به، فيتلى لكونه كلام الله تعالى، فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.   وثانيهما: أن النَّسخ غالبًا يكون للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيرًا بالنعمة ورفع المشقة، وأما حكمة النَّسخ قبل العمل - كالصدقة عند النجوى - فيثاب على الإيمان به، وعلى نية طاعة الأمر"[1].   الثاني: الحكمة من نسخ التلاوة دون الحكم: فقد يقال: لِمَ نسخت التلاوة؟ وهلا بقيت مع الحكم ليثاب الإنسان على القراءة كما يثاب على العمل بالحكم؟ والحكمة من هذا النوع من النَّسخ هي اختبار الناس وابتلاؤهم؛ ليعلم من يسارع في الاستجابة والعمل بالحكم بمجرد ظهوره واشتهاره دون المتواني والمتقاعس.   وفي هذا المعنى يقول صاحب الفنون[2] - كما نقل عنه الإمام الزركشي -: "إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي"[3].   الثالث: الحكمة من النَّسخ إلى بدل أخف: ولعل الحكمة من هذا النوع من النَّسخ ظاهرة، وهي بيان رحمة الله تعالى بعباده؛ إذ رفع لهم حكمًا أثقل بحكم أخف عليهم، وذلك يستلزم شكره والمداومة على طاعته؛ فذلك عنوان محبته، وفي هذا المعنى يقول العلامة الزرقاني رحمه الله تعالى: "أما الحكمة في نسخ الحكم الأصعب بما هو أسهل منه، فالتخفيف على الناس ترفيهًا عنهم، وإظهارًا لفضل الله عليهم ورحمته بهم، وفي ذلك إغراءٌ لهم على المبالغة في شكره وتمجيده، وتحبيبٌ لهم فيه وفي دينه"[4].   الرابع: الحكمة من النَّسخ إلى بدل مساوٍ أو أثقل: لا ريب أن الحكمة من نسخ الحُكم إلى ما هو أثقل منه أو مساوٍ له في خفته أو صعوبته: الابتلاء والاختبار، وتمييز المؤمن الصادق المستجيب لأمر الله وأمر رسوله من المرتاب المتردد.   خاتمة القول في النسخ: تلك كانت بعض الأبواب التي ناقشت من خلالها موضوع "النَّسخ"، هذا الموضوع الهام الذي خصه العلماء بالبحث والدراسة والتحليل، سواء منهم الأصوليون، أو علماء الحديث، أو علماء القرآن وغيرهم، وما ذاك إلا لأهميته، وكيف لا يكون كذلك وقد تعلقت به بعض الأحكام الشرعية وجودًا وعدمًا، ثبوتًا ورفعًا.   ولا جرم - كما بينتُ بالأدلة والبراهين من الكتاب والسنة وأقوال العلماء الربانيين - أن النَّسخ حق ثابت، سواءٌ بين الشريعة المحمدية وما قبلها من الشرائع، أو داخل هذه الشريعة.   وهذا النَّسخ لا يقتضي جهلاً من الله تعالى ولا بَداءة - تعالى الله علوًّا كبيرًا عن ذلك - بل إن علم الله تعالى كامل، علِم ما كان وما سيكون، بل علم ما لم يكن كيف إن كان سيكون؛ فهو سبحانه يعلم أن بعض الأحكام تكون صالحة في زمان دون غيره، وفي أحوال دون غيرها، فينسخ ما شاء بما شاء؛ تبَعًا لعلمه وحكمته، وكل نسخ كيفما كان نوعه - سواءٌ إلى بدل أخف أو أثقل أو بدون بدل - فهو عند التأمل محقِّق لمصالح العباد، سواءٌ في دنياهم أو دار المعاد.   وكيفما كان فالمسلم الذي علم حقيقة العبودية، لا يعترض على ربه، بل يسلِّمُ ويخضع وينقاد، ولا يورد أسئلةَ المرتابين الشاكِّين، ورحم الله تعالى الإمام أبا جعفر الطحاوي إذ يقول في عقيدته: "ولا تثبُتُ قدمُ الإسلام إلا على ظهرِ التسليم والاستسلام".   وصدق الله إذ يقول: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23].   والله أعلم وأحكم، ونسبة العلم إليه سبحانه أسلم.  

[1] البرهان في علوم القرآن: 2 /39، وقد نقل هذا الجواب عنه الإمام السيوطي في الإتقان. [2] وهو الإمام علي بن عقيل البغدادي - 513هـ - صاحب كتاب الفنون في أربعمائة مجلد، وهو من أضخم الكتب. [3] البرهان في علوم القرآن: 2 /37. [4] مناهل العرفان: 2 /196.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير