أرشيف المقالات

النصيحة لكتاب الله

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
2النصيحة لكتاب الله   الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمَّان على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن المسلم لَتأخذه الرَّهبة والرَّجفة عندما يُطلب منه لأول وهلة أن ينصح لكتاب الله تعالى، ويقول في نفسه: سبحان الله، لقد تعودنا أن يكون القرآن العظيم، كلام الله تعالى، هو الناصح الأول للمسلمين فما بال الناصح يُنصح له؟ وكيف تكون هذه النصيحة؟ وما حدودها؟ وما الذي يجب أن أستحضره في نفسي عندما يُطلب مني النصيحة لكتاب الله؟   ولكنه عندما يهدأ قليلاً ويفكِّر في الأمر يتذكَّر ابتداءً حديثاً عظيم الشَّأن، حديث تميمٍ الداريّ - رضي الله عنه - أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ» ثلاثاً، قلنا: لمن؟ قال: «للهِ ولِكِتَابِهِ ولِرَسُولِهِ ولأِئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعَامَّتِهِمْ»[1].   فعندما يتذكَّر المسلمُ هذا الحديثَ يعلم يقيناً أنها سُنَّة متبعة ومنقولة من السلف إلى الخلف، بل ويعلم أنَّ النَّصيحة لكتاب الله واجب على المسلمين، وفرض كفاية، يأثمون جميعاً إذا لم يقوموا به، ويقوم به مَنْ هم أهلٌ له؛ عِلماً ودرايةً، وعَمَلاً وسلوكاً.   معنى النَّصيحة لكتاب الله: أ- معنى «النَّصيحة»: 1- قال المازَرِيُّ - رحمه الله -: «النَّصيحة مشتقةٌ من نصحت العسل إذا صَفَّيته.
ويقال: نَصَحَ الشيءُ إذا خَلَصَ، ونصح له القول إذا أخلصه له.
أو مشتقة من النُّصْحِ، وهو الخياطة بالمِنْصَحَةِ وهي الإبرة.
والمعنى: أنه يَلُمُّ شَعْثَ أخيه بالنَّصْحِ كما تلُمُّ المِنْصَحَةُ، ومنه: التَّوبةُ النَّصُوحُ، كأنَّ الذَّنبَ يُمَزِّقُ الدِّينَ والتوبة تُخَيِّطُه»
[2].   2- وقال الخطَّابي - رحمه الله -: «النَّصيحة كلمةٌ جامعةٌ معناها حيازة الحظِّ للمنصوح له، ويقال: هو من وجيز الأسماء ومختصر الكلام، وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح: ليس في كلام العرب أجمع لخير الدنيا والآخرة منه»[3].   ب- معنى «النَّصيحة لكتاب الله»: مما جاء عن أهل العلم في تعريفهم للنَّصيحة لكتاب الله تعالى ما يلي: 1- قال الإمام محمد بن نصر المَرْوزيُّ - رحمه الله -: «النَّصيحة لكتاب الله: شدة حبه وتعظيم قدره، إذ هو كلام الخالق، وشدة الرغبة في فهمه، وشدة العناية في تدبره، والوقوف عند تلاوته لِطلب معاني ما أحبَّ مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم به له بعدما يفهمه.   وكذلك الناصح من العباد يتفهم وصية من ينصحه، وإن ورد عليه كتابٌ منه عُنِي بفهمه ليقوم عليه بما كتب به فيه إليه، فكذلك الناصحُ لكتاب ربِّه يُعْنى بفهمه ليقوم لله بما أمر به كما يحب ويرضى، ثُمَّ يَنْشُرُ ما فهمه في العباد، ويديم دراسته بالمحبة له، والتخلُّق بأخلاقه، والتأدب بآدابه»[4].   2- وقال النووي - رحمه الله -: «النَّصيحة لكتاب الله تعالى: هي الإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله، لا يُشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله الخلق بأسرهم، ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوة، وتحسينها، والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، والذَّبُّ عنه من تأويل المحرِّفين وتعرُّض الطاعنين، والتصديق بما جاء فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهُّم معانيه، وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه، والدعاء إليه وإلى ما ذكره من النصيحة»[5].   3- وقال ابن حجر - رحمه الله -: «النَّصيحة لكتاب الله: تعلمه وتعليمه، وإقامة حروفه في التلاوة وتحريرها في الكتابة، وتفهم معانيه، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذَبُّ تحريف المبطلين عنه»[6].   خلاصة القول في معنى «النَّصيحة لكتاب الله» أنها تعني: 1- الإيمان بأنَّه كلامُ الله تعالى، والتَّصديق بما جاء فيه. 2- شِدَّةُ حُبِّه وتعظيمُ قدرِه. 3- العملُ بمحكمِه، والتَّسليمُ لمتشابهه. 4- حِفْظُ حدودِه، والعملُ بما فيه. 5- شِدَّةُ الرَّغبةِ في فهمِه وتدبُّرِه، وتلاوتِه، وتعلُّمِه وتعليمِه. 6- الاعتبارُ بمواعِظه، والتَّخلُّقُ بأخلاقِه، والتأدُّبُ بآدابِه. 7- ذَبُّ تحريفِ المُبطلين عنه.   تحقيقُ النَّصيحةِ لكتاب الله: مَرَّ بنا ما ذكره الأئمة الأعلام في تعريفهم النَّصيحةَ لكتاب الله تعالى، وهي صورة مشرقة ووضيئة لما كانوا عليه من النَّصيحة لكتاب الله تعالى، إذا ما قورنت بحال المسلمين اليوم في النصيحة لكتاب الله، وحقًّا توجد جهود تُبذل في النصيحة لكتاب الله تعالى على مستوى الفرد أو المجتمع أو الأمة، لكنها قليلة لا تليق بكتابٍ نزل من عند الله تعالى مهيمنٍ على ما سبقه من كتب سماوية، وهو كتاب خاتم يقود إلى سعادة الدارين.
والمتأمِّل اليوم لحال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، يرى تقصيراً واضحاً بل تفريطاً عظيماً في هذا الجانب، والهُوَّة سحيقة وكبيرة بين حالنا وحال أسلافنا الصالحين على جميع المستويات.   ويصف شيئاً من هذه الحال العلامةُ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - فيقول: «إن أكثر المنتسبين للإسلام اليوم في أقطار الدنيا مُعرِضون عن التدبر في آياته [أي: القرآن] غير مُكترثين بقول مَنْ خَلَقَهم: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24].
لا يتأدبون بآدابه ولا يتخلَّقون بما فيه من مكارم الأخلاق، يطلبون الأحكام في التشريعات الضالة المخالفة له، غير مكترثين بقولِ ربِّهم: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44].
وقوله: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 60]؛ بل المتأدِّبُ بآداب القرآن، المتخلِّقُ بما فيه من مكارم الأخلاق، مُحْتَقَرٌ مغموز فيه عند جُلِّهم إلاَّ من عصمه الله، فهم يحتقرونه، واحتقاره لهم أشد، كما قال الشافعي - رحمه الله -: فهذا زاهد في قرب هذا   *** وهذا فيه أزهد منه فيه   وإياك يا أخي ثم إياك، أن يُزَهِّدَكَ في كتاب الله تعالى كثرة الزاهدين فيه، ولا كثرة المحتقرين لمن يعمل به ويدعو إليه، واعلم أن العاقل الكيِّس الحكيم لا يكترث بانتقاد المجانين»
[7].   وما ذكر الشَّيخ - رحمه الله - من واقع المسلمين أوضح من فلق الصبح، لا يحتاج إلى برهان ودليل، بل الأمر كما قيل: وليس يصحُّ في الأذهان شيء *** إذا احتاج النهار إلى دليل[8]   سبب التَّقصير: الفصام النَّكد بين تعلُّم القرآن وحفظه من جهة، وبين العمل به من جهة أخرى هو السَّبب الرَّئيس في هذا التَّقصير، فأصبحت الوسيلة غاية، فاتَّخذ الناس - في هذا الزمان - تلاوة القرآن عملاً، وأصبح شعارهم: التِّلاوة للتِّلاوة، فهذا لسان الحال عند المسلمين اليوم إلاَّ مَنْ رحم الله تعالى.   وصَدَقَ فينا قولُ الحسن البصري - رحمه الله -: «نزل القرآن ليُتدبر ويُعمل به، فاتَّخِذوا تلاوته عملاً»[9].
وقال أيضاً: «إنَّ مَنْ كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربِّهم، فكانوا يتدبَّرونها باللَّيل، وينفِّذونها بالنَّهار»[10].   ولقد استقرت حقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، في نفوس الصحابة رضوان الله عليهم - فرأوا ضرورة تلازم تعلم كتاب الله تعالى والعمل به، وأنه لا يمكن الفصل بينهما، وأن التمازج بينهما كما بين اللحم والعظم، فكانوا يُلَقِّنون تلاميذهم من التابعين هذا المفهوم الصحيح للنصيحة لكتاب الله تعالى، قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: «لقد عشنا برهة من دهرنا وإنَّ أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السُّورة على محمد صلّى الله عليه وسلّم فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن نقف عنده منها كما تُعَلَّمون أنتم القرآن، ثم لقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمِرُه ولا زاجِرُه وما ينبغي أن يقف عنده منه، ينثره نَثْرَ الدَّقَل»[11].   فالإيمان الذي أشار إليه ابن عمر رضي الله عنهما بقوله: «وإنَّ أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن...» هو الإيمان بأن القرآن إنما أُنزل لتدبر آياته والعمل بما فيه.   وذلك الإيمان هو الذي دفع الصحابة رضوان الله عليهم لتحقيق النصيحة لكتاب الله على ذلك النحو، فكانوا فور نزول السورة أو الآية يبادرون لتعلمها والعمل بها، كما قال ابن عمر - رضي الله عنهما - في حديثه السابق: «وتنزل السورة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنتعلم حلالها وحرامها وما ينبغي أن نقف عنده منها».   وهذا التابعي الجليل أبو عبد الرحمن السُّلَمِي - رحمه الله - ينقل ذلك عن ثلاثةٍ من كبار الصحابة - رضي الله عنهم، فيروي عن عثمان وابن مسعود وأُبِيِّ بن كعب - رضي الله عنهم: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرئهم العشر آيات فلا يجاوزونها إلى عشرٍ أُخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، [قالوا:] فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً»[12].   وأفاد أثر ابن عمر السَّابق أيضاً: أن سبب التقصير في العمل بكتاب الله يرجع إلى عدم تمكن ذلك الإيمان من القلوب، فقد جاء فيه قوله: «ولقد رأيت رجالاً يُؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتابة إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره...».   فالصحابة - رضي الله عنهم - لم يكونوا يقرؤون القرآن بقصد الثَّقافة والاطلاع، ولا بقصد التَّذوق والمتاع، لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة فحسب، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلميَّة والفقهية محصولاً يملأ به جعبته، وإنما كان يتلقَّى القرآن ليعرف أمرَ الله في خاصة شأنه وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته، يتلقى الأمر ليعمل به فور سماعه، كما يتلقى الجندي في الميدان الأمر اليومي ليعمل به فور تلقيه.   إن هذا القرآن لم يأت ليكون كتابَ متاعٍ عقلي، ولا كتاب أدب وفن، ولا كتاب قصة وتاريخ، وإن كان هذا كله من محتوياته، إنما جاء ليكون منهاج حياة.   فقد ظهر لنا - مما سبق - أن إيمان السَّلف الصَّالح بتلازم تعلم كتاب الله والعمل به هو الذي جعلهم في رأس قائمة الذين يحققون النصيحة لكتاب الله تعالى، وكما أن ضعف الإيمان بذلك في قلوب مسلمي اليوم، هو الذي حملهم على التقصير في تحقيق النصيحة.   إذاً هي سُنَّة ماضية، فبقدر نسبة الإيمان في قلوب المسلمين اليوم يكون تحقيقهم للنصيحة وقربهم من حال أسلافهم، وبقدر ما يضعف ذلك الإيمان في قلوبهم يكون تقصيرهم في تحقيق هذه النصيحة وبعدهم من حال أسلافهم[13].


[1] رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة (1 /74)، (ح55). [2] لمُعْلِم بفوائد مسلم (1 /197).
وانظر: فتح الباري (1 /138)؛ جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1 /207). [3] صحيح مسلم بشرح النووي (2 /226).
وانظر: فتح الباري (1 /138)؛ لسان العرب (7 /4438)؛ الصحاح (1 /410، 411)؛ المصباح المنير (2 /276)؛ معجم مقاييس اللغة (5 /435)؛ المفردات في غريب القرآن (ص494). [4] عظيم قدر الصلاة (2 /639)؛ جامع العلوم والحكم (1 /209). [5] لتبيان في آداب حملة القرآن (ص201، 202)؛ صحيح مسلم بشرح النووي (2 /38). [6] تح الباري (1 /138).
وانظر: جامع العلوم والحكم (1 /210، 211)؛ روائع من أقوال الرسول صلّى الله عليه وسلّم (ص513-515). [7] أضواء البيان (1 /2). [8] نظر: النصيحة لكتاب الله (ص84، 85). [9] دارج السالكين، لابن القيم (1 /451).
ونحوه في تلبيس إبليس، لابن الجوزي (ص109)، ونُقل أيضاً عن الفضيل بن عياض.
انظر: اقتضاء العلم العمل (ص76). [10] لتبيان في آداب حملة القرآن (ص72). [11] رواه الحاكم في «المستدرك» (1 /91)، (ح101) وقال: «صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه» ووافقه الذَّهبي.
ورواه البيهقي في «الكبرى» (3 /120)، (ح5073)؛ والطبراني في «الأوسط» (6 /187)، (ح6144).
وانظر: مجمع البحرين بزوائد المعجمين (1 /482)، وحَسَّنَهُ المحقق. [12] نظر: مقدمة تفسير القرطبي (1 /56)؛ وعزاه إلى كتاب أبي عمرو الداني: «جامع البيان في القراءات السبع»؛ تفسير الطبري (1 /60، 82)، مقدمة تفسير ابن كثير (1 /13). [13] نظر: النصيحة لكتاب الله (ص86-89).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن