أرشيف المقالات

مزالق الوعظ

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2مزالق الوعظ
نقصد بهذه المزالق - ونعوذ بالله منها - ما يزِلُّ فيه بعض الدعاة أحيانًا من متشابه القول، وفتنة الحديث، كدقائق الصفات، وأسرار القدر، وغرائب الأحكام، وألغاز التصوف، ومعميات الفلسفة، ومسائل الخلاف والجدل، إلى غير ذلك مما إثمه أكبر من نفعه، وشره أكثر من خيره.   وكل هذا وما يتصل به مما يجب على الداعي إلى الله أن يحذره ويتجنب الخوض فيه، وبخاصة إذا كان يتحدث إلى العامة وأشباه العامة، روى مسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما أنت بمحدِّث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، وروى البخاري عن علي رضي الله عنه قال: حدِّثوا الناس بما يعرفون[1]؛ أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله؟! ويؤثر عنه رضي الله عنه أنه أشار إلى صدره ثم قال: إن ههنا علومًا جمة، لو وجدت لها حملة.   ولا ريب أن الواعظ الكيس والمرشد الحكيم من ينزل الناس منازلهم، ويخاطبهم على قدر عقولهم، ويتوخى لهم أنفع الموضوعات وأمسها بهم، وأقوم الأساليب وأهداها لهم، ومن يغتنم الفرص، ويقدر المناسبات، ويحسن الاختيار، ويفاجئ الطوارئ ببداهة الحكمة، وبلاغة الموعظة، وحسن التأتي[2]، وصدق المدخل والمخرج.   ولست أرى للواعظ أن يترخص في شيء من هذه المزالق فيدخله إلا في إحدى الحالتين: 1- أن يسأله سائل لا يستطيع أن يصرفه، ويرى من الحكمة والحزامة وكبت العناد والثرثرة أن يجيبه بأسلوب حكيم، وهدي قويم، في حدود مداركه ودائرة فهمه، وقد تصل به لباقته وسرعة خاطره وذكاء لبه، إلى جواب يبهت السائل ويحيره ويفحمه، فلا يستطيع له ردًّا، سأل شيعي إمام الواعظين أبا الفرج بن الجوزي - رحمه الله -: أي الرجلين أفضل: أبو بكر أم علي؟ فأجاب على البداهة: من كانت ابنته تحته.   وقال نصراني لأحد العلماء: لِمَ أبحتم للمسلم أن يتزوج كتابية، ولم تبيحوا للمسلمة أن تتزوج كتابيًّا؟ فقال من فوره: لأن المسلم مؤمن بموسى وعيسى؛ فلا تخاف الكتابية على دينها منه، وأما الكتابي، فإنه كافر بمحمد؛ فلا يبعد أن تخاف المسلمة على دينها منه ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ [البقرة: 258].   2- أو أن يشهد قومًا خاضوا هذه المزالق، أو حكَّموه فيما شجر بينهم، ولم يجد بُدًّا من الحكومة والدفع بالتي هي أحسن، وحينئذٍ يسلك مسلك العدالة والإنصاف، غير منحرف لهوى، ولا متحيِّز إلى فئة، ولا محكِّم إلا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكفى الحكومة بهما عدلاً وهداية ورشادًا.   شاهدت مجلسًا لا بأس بثقافة أهله، تكلم فيه بعض الفضلاء بكلام يتصل بدقائق الوحي ولطائف المحبة، إلا أنه علا عن مستواهم، وكان يدخل بهم في مأزق حرج، ولما دعيت إلى الكلام، عرجت على الموضوع بإشارة خفيفة، ثم وعدت أن أشرحه شرحًا يتناسب ومستواهم.   ومن طرائف هذه المآزق ما وقع لي وأنا واعظ بالإسكندرية، دعيت إلى إلقاء موعظة لجماعة من النوبيين، والنوبيون قوم صادقو الإيمان ذوو غيرة وتعاون، فما هالني إلا جمع حاشد وقف أمامهم طالب من كلية الآداب يتلو عليهم محاضرة فلسفية تدق على كثير من الخواص، وأطال المحاضر ولم يتنبه إلى القوم وهم بين نائم ومتناوم، وشاخص وواجم، ولولا إجلالهم للعلم وأهله واستحياؤهم ممن دعوا، لخرجوا وتركوه يقرأ لنفسه، وما أن فرغ بعد لأيٍ حتى تنفسوا الصعداء، واشرأبت أعناقهم إليَّ تنتظر مني كلمة، كنا في العشر الأخير من رمضان، فمن البديهي أن تكون كلمتي في توديع هذا الشهر الكريم بمختلف الطاعات، وضروب القربات، وبيان عبادة النبي صلى الله عليه وسلم وجده في هذا العشر، وإحياء ليله، وإيقاظ أهله؛ ولكن ماذا أصنع وقد كان القوم في لجة من القلق والضجر والهم والاضطراب؟ لا بد لهم من طرفة مسلية، أو فكاهة منعشة، تجمع إلى الأدب والاحتفاظ بكرامة المحاضر، وتشعره من طرف خفي أن محاضرته لم تكن تنبغي إلا في مدرج كلية الآداب والفلسفة.   تداركني الله برحمته، فأذكَرَني قصة الفيلسوف المشهور أبي النصر الفارابي لما تخطى رقاب الناس وانتهى إلى سيف الدولة، وكان من أمره أن أخرج عيدانًا من خريطته وركبها ولعب بها حتى أضحك القوم جميعًا، ثم ركبها تركيبًا آخر ولعب بها حتى أبكاهم جميعًا، ثم ركبها ثالثة ولعب بها حتى أنامهم جميعًا وخرج، وكان المحاضر قد ذكره فيما ذكر في محاضرته، بدأت كلمتي بالثناء على المحاضر وشكره؛ إذ نقلنا من نادينا هذا إلى الجامعة المصرية، فمن لم يكن رآها ولا سمع بها، فحسبه أن سمع الأستاذ المحاضر، ثم ثنيت بقصة الفارابي[3] آنفًا.   ثم شرحنا الفلسفة ومعناها شرحًا واضحًا موجزًا، وبينت أنها تبحث عن هذا الكون وحقائقه وعجائبه، وتدعو إلى التأمل فيه، ثم تدرجت من هذا إلى آيات الله وعجائب صنعه وقدرته، وواجب العبد إزاء هذه الآيات، وكيف ينبغي له أن ينتهز فرصة مباركة في ليالٍ مباركة، ويودع هذا الشهر بالتفكر والذكر، والتدبر والشكر.   وهكذا كان الدرس مجموعة من الفلسفة الدينية، والآيات الكونية والقرآنية، والطرف التاريخية والصوفية، وبهذا أنقذ الموقف واستفاد الجميع، واعتذر المحاضر بأن كلمته قطعة من رسالة يقدمها للامتحان النهائي بالجامعة، وأنه ليس من رجال الوعظ والدعوة.   من هنا ندرك خطر الوعظ ومسؤولية الواعظ، وشدة حاجته إلى أسلحة من مختلف العلوم حادة، وإلى عدد من أنواع الفنون متينة، ثم إلى ضروب من الثقافات عامة وخاصة، من بعد تأييد من الله تعالى وحسن معونته.   ومن هنا يتبين خطأه من يظن أن الوعظ أمر هين، وأن الواعظ قاص، تجارته نوادر القصص وغرائب الحكايات.   ألا إن الوعظ علم وعمل، وجهاد وجلاد، لا يصلح له إلا ورثة النبيين، وشيعة الحكماء الربانيين ﴿ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 49][4].   مجلة نور الإسلام - العدد 24 - من السنة الثامنة - 15 ذي الحجة سنة 1361هـ / 23 ديسمبر سنة 1942م


[1] أي: بما يفهمونه، لا بما يشتبه عليهم فينكرونه.
انظر كتاب العلم وفتح الباري. [2] تأتَّى له شيء: تهيأ، وتأتَّى له: ترفق وأتاه من وجهه، وكلا المعنيين صحيح. [3] انظر ترجمة الفارابي في وفَيَات الأعيان. [4] انظر المشار إليه في تفسير الآية الكريمة.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢