أرشيف المقالات

الكلام على قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا)

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
باب قول الله تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ﴾ [الروم: 30].
 
قال المصَنِّفُ: قال الله تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30].
 
معنى قوله تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلِّدينِ حَنِيفًا...الآية ﴾:
قال ابن كثير: في "تفسيره" (6/313): فسدد وجهك واستمر على الذي شرعه الله لك، من الحنيفية ملة إبراهيم، الذي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة، التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره، كما تقدم عند قوله تعالى: ﴿ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾ [الأعراف:172].


وفي الحديث: «إني خلقت عبادي حُنَفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم»، وسنذكر في الأحاديث أن الله تعالى فطر خلقه على الإسلام، ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة، كاليهودية أو النصرانية أو المجوسية.

وقوله: ﴿ لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ﴾ قال بعضهم: معناه لا تبدلوا خلق الله، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، فيكون خبرًا بمعنى الطلب، كقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [آل عمران:97]، وهذا معنى حسن صحيح.


وقال آخرون: هو خبر على بابه، ومعناه: أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، لا يولد أحد إلا على ذلك، ولا تفاوت بين الناس في ذلك؛ ولهذا قال ابن عباس، وإبراهيم النَّخَعي، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد، وعِكْرِمة، وقتادة، والضحاك، وابن زيد في قوله: ﴿ لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ﴾ أي: لدين الله.

وقال البخاري ـ (4775) ـ: قوله: ﴿ لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ﴾: لدين الله، خَلْقُ الأولين: دين الأولين والدين والفطرة: الإسلام ـ ثم ساق بسنده ـ: عن أبي هريرة س قال: قال رسول الله ق: «ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدَانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجسانه، كما تَنْتِج البهيمة بهيمة جَمْعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟»، ثم يقول: ﴿ فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾، ورواه مسلم ـ (2658).

وفي معنى هذا الحديث قد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة:
فمنهم: الأسودُ بن سَرِيع: قال الإمام أحمد ـ (3/435) وساق بسنده ـ: عن الأسود بن سَرِيع قال: أتيت رسول الله ق وغزوت معه، فأصبت ظهرًا، فقتل الناس يومئذ، حتى قتلوا الولدان، فبلغ ذلك رسول الله ق، فقال: «ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية؟.
فقال رجل: يا رسول الله، أما هم أبناء المشركين؟، فقال: «ألا إنما خياركم أبناء المشركين»، ثم قال: «لا تقتلوا ذرية، لا تقتلوا ذرية».

وقال: «كل نسمة تولد على الفطرة، حتى يُعرب عنها لسانها، فأبواها يهوِّدانها أو ينصِّرانها».

ومنهم جابر بن عبد الله: قال الإمام أحمد ـ في "المسند" (3/353) وساق بسنده ـ: عن جابر مرفوعًا: «كل مولود يولد على الفطرة، حتى يُعرب عنه لسانه، فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرًا وإما كفورُّا[1]».

ومنهم ابن عباس: قال الإمام أحمد ـ في "المسند" (1/328) وساق بسنده ـ: عن ابن عباس م أن رسول الله ق سُئل عن أولاد المشركين، فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم»، أخرجه البخاري (1383)، ومسلم (2660).

وقال الإمام أحمد: ـ أيضًا ـ في "المسند" (5/73) وساق بسنده ـ: عن ابن عباس قال: أتى عليَّ زمان وأنا أقول: أولاد المسلمين مع أولاد المسلمين، وأولاد المشركين مع المشركين، حتى حدثني فلان عن فلان: أن رسول الله ق سئل عنهم، فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين».
قال: فلقيت الرجل فأخبرني، فأمسكت عن قولي[2].

ومنهم عياض بن حِمار المجاشعي: قال الإمام أحمد ـ (4/162) وساق بسنده ـ: عن عياض س أن رسول الله ق قال في خطبته: «إن ربي ﻷ قال: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا...»، أخرجه مسلم (2865).

وقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ أي: التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القويم المستقيم.
﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ أي: فلهذا لا يعرفه أكثر الناس، فهم عنه ناكبون، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف:103].


وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ الله ﴾ الآية [الأنعام: 116].اهـ

بعض ما في قوله تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله...
الآية ﴾ من الفوائد:
الأولى: تعريف الفطرة وقد ساق ابن كثير: قبل أسطر بعضًا منه، وله تتمة موسعة تأتي بإذن الله في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)، قبل آخر هذا الباب بحدثين.


الثانية: عدم التأثر بالكثرة في سلوك طرق الغي والظلال.

الثالثة: حرمة التبديل في دين الله، وفي مخلوقات الله، وقد فصلت ذلك بما فيه الكفاية ـ إن شاء الله.
في كتابي (الشامل في العقيدة والتوحيد)، نفع الله به الإسلام والمسلمين، وجعله خالصًا لوجهه الكريم.



 

[1] قال الهيثمي: في "مجمع الزوائد" (7 /218): فيه أبو جعفر الرازي، وهو ثقة وفيه خلاف، وبقية رجاله ثقات.اهـ
[2] قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7 /218): رجاله رجال الصحيح؛ اهـ.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن