أرشيف المقالات

عدم البدء بقتال من لم يقاتل

مدة قراءة المادة : 21 دقائق .
2من القواعد الأخلاقية للحروب النبوية عدم قتال من لم يقاتل
هذه القاعدة - كما ذكرنا - تابعة لقاعدة عدم الاعتداء؛ حيث إن قتال الذين لا يشتركون في القتال ولا يقدرون عليه هو نوع من الاعتداء الذي نهى الإسلام عنه، ومن الأدلة على ذلك: قال الله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمَن منَع هذا قُوتل باتفاق المسلمين.
وأما من لم يكن مِن أهل الممانعة والمقاتلة؛ كالنساء، والصبيان، والراهب، والشيخ الكبير، والأعمى، والزَّمِن ونحوهم، فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان؛ لكونهم مالاً للمسلمين.
والأول هو الصواب؛ لأن القتال هو لمَن يُقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]"[1].
وقد قال جَماعة من العلماء: إن هذه الآية نُسخت بقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ﴾ [التوبة: 36]، فأمر بالقتال لجميع الكفار.
ولكن دعوى النسخ مردودة؛ لأنه لا دليل عليها، والراجح ما ذهب إليه ابن عباس وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد، وهو أن هذه الآية محكمة؛ أي: قاتلوا الذين هم بحالة مَن يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم، وهذا هو الأصح من جهة النظر، ولأنه الذي دلت عليه مجموع النصوص الأخرى.
قال القرطبي: "أما النظر، فإن (فَاعَل) لا يكون في الغالب إلا من اثنين؛ كالمقاتَلة، والمشاتمة، والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومَن أشبههم كالرهبان والزمني والشيوخ والأجراء، فلا يقتلون، وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يَزيدَ بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية؛ أخرجه مالك وغيره"[2].
ومن الأدلة الأخرى: ما جاء في الصحيحين عن نافع أن عبدالله رضي الله عنه أخبره أن امرأة وُجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان[3]، وفي لفظ: "فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان"[4].
ومثله ما أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرَج في غزوة غَزاها، وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فمرَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدِّمة، فوقَفوا ينظرون إليها ويتعجبون من خلقها، حتى لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما كانت هذه لتقاتل))، فقال لأحدهم: ((الحَقْ خالدًا فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا))[5].
وقد ذكر المحقِّقون أن هذه الواقعة كانت في غزوة حنين.
ومنها أيضًا ما رواه مسلم وأبو داود عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغدروا، ولا تغلُّوا، ولا تمثِّلوا، ولا تَقتلوا وليدًا))[6].
وفي رواية عند البيهقي وغيره: ((ولا تقتلوا وليدًا طفلاً، ولا امرأة، ولا شيخًا كبيرًا...))[7].
وفي شرح معاني الآثار للطحاوي بسند صحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعَث جيوشه قال: ((لا تقتلوا الولدان))، وفي رواية: ((لا تَقتلوا شيخًا كبيرًا))، وفي رواية: ((لا تقتلوا وليدًا ولا امرأة))[8].
وعن ابن عمر قال: كتب عمر إلى الأجناد: "لا تقتلوا امرأة ولا صبيًّا".
ومن وصايا أبي بكر لأمراء الجند: "[لا تقتل امرأة، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هَرِمًا، ولا تقطع شجَرًا مُثمرًا، ولا تخرِّبنَّ عامرًا، ولا تعقرنَّ شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تغرقنَّ نخلاً ولا تحرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن"[9].
وعن يزيد بن هُرْمُز، أن نجدَةَ كتب إلى ابن عباس يسأله عن قتل أطفال المشركين، فكتب إليه ابن عباس: إنك كتبتَ إليَّ تسأل عن قتل أطفال المشركين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم، وأنت فلا تقتلهم، إلا أن تعلم منهم ما علم الخَضِرُ من الغلام حين قتله[10].
فلا يقتل أحد بذنب غيره، ولا يؤخذ ابنٌ بجريرة أبيه، أو امرأة بجريرة زوجها، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وهذا أسمى معاني العدالة والرحمة.
روى النسائي بسند صحيح عن مسروق عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه))[11].
والأحاديث والآثار التي تمنع من قصد قتل أطفال ونساء المشركين وشيوخهم ومن ليس بأهل القتال منهم - أكثر من أن تُحصر، ولعل فيما أوردناه كفاية.
ومن الناحية العملية التطبيقية، فإننا نجد بتصفُّح السيرة النبوية ودراستها أنه على الرغم من كثرة عدد الحروب والغزوات التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم التي خاضها أصحابه رضوان الله تعالى عنهم، فإنه لم يُعرف عنهم أنهم قصدوا قتل ذراريِّ وأطفال المشركين أو قتل نسائهم أو شيوخهم، رغم ما تعرَّض له المسلمون من اعتداءات سافرة.
وقد جمع العلماء أصناف الذين لا يجوز قتالهم أو التعرض له بالاعتداء، فذكروا منهم: النساء، والأطفال، والرهبان ورجال الدين، والشيوخ كبار السن، والزمنى[12]، والعسفاء وهم الأجراء والفلاحون، ويشترط في الجميع ألا يشتركوا في القتال ولا يعينوا عليه بحال.
قال القرطبي: "وللعلماء فيهم صور ستٌّ: الأولى: النساء: إن قاتلن قُتلن؛ قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدها؛ لعموم قوله: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [البقرة: 190]، وقوله تعالى: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ [البقرة: 191].
وللمرأة آثار عظيمة في القتال؛ منها: الإمداد بالأموال، ومنها التحريض على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهنَّ نادبات مثيرات معيِّرات بالفرار، وذلك يبيح قتلهنَّ.
غير أنهن إذا حصلنَ في الأسر، فالاسترقاق أنفع؛ لسرعة إسلامهنَّ ورجوعهن عن أديانهن، وتعذُّر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجل.
الثانية: الصبيان: فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم، فإن قاتل الصبي قُتل.
الثالثة: الرهبان: لا يقتلون ولا يُسترقُّون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر؛ لقول أبي بكر ليزيد: وستجد أقوامًا زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له.
فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا.
ولو ترهَّبت المرأة فروى أشهب أنها لا تُهاج - أي: لا تزعج ولا تنفَّر - وقال سحنون: لا يغير الترهُّبُ حكمها.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: والصحيح عندي رواية أشهب؛ لأنها داخلة تحت قوله: فذرهم وما حبسوا أنفسهم له.
الرابعة: الزمنى: قال سحنون: يقتلون، وقال ابن حبيب: لا يقتلون، والصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم إذاية قُتلوا، وإلا تُركوا وما هم بسبيله من الزمانة، وصاروا مالاً على حالهم وحشوة.
الخامسة: الشيوخ: قال مالك في كتاب محمد: لا يُقتلون، والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخًا كبيرًا لا يطيق القتال ولا يَنتفع به في رأي ولا مدافعة، فإنه لا يُقتل، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول الجماعة، والثاني: يُقتل هو والراهب، والصحيح الأول؛ لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالف له، فثبتَ أنه إجماع.
وأيضًا فإنه ممَّن لا يُقاتل ولا يعين العدو، فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرَّته بالحرب أو الرأي أو المال، فهذا إذا أُسر يكون الإمام فيه مخيرًا بين خمسة أشياء: القتل، أو المنُّ، أو الفداء، أو الاسترقاق، أو عقد الذمة على أداء الجزية.
السادسة: العسفاء: وهم الأُجراء والفلاحون، فقال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون، وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار، إلا أن يُسلموا أو يؤدُّوا الجزية.
والأول أصح؛ لقوله عليه السلام في حديث رباح بن الربيع: ((الحَقْ بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفًا)).
وقال عمر بن الخطاب: "اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب".
وكان عمر بن عبدالعزيز لا يقتل حراثًا؛ ذكره ابن المنذر"[13].
وقال ابن قدامة: "وإذا فُتح حصن، لم يُقتل مَن لم يَحتلم أو يُنبِت أو يبلغ خمس عشرة سنة.
وجملة ذلك أن الإمام إذا ظفر بالكفار، لم يَجز أن يَقتُل صبيًّا لم يبلغ بغير خلاف، وقد روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان؛ متفق عليه.
ولا تُقتل امرأة ولا شيخ فانٍ، وبذلك قال مالك وأصحاب الرأي، ورُوي ذلك عن أبي بكر الصديق ومجاهد، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 190] يقول: لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير.
وقال الشافعي في أحد قوليه وابن المنذر: يجوز قتل الشيوخ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم))؛ رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
ولأن الله تعالى قال: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 5]، وهذا عامٌّ يتناول بعمومه الشيوخ، وقال ابن المنذر: لا أعرف حجة في ترك قتل الشيوخ يُستثنى بها من عموم قوله: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 5]، ولأنه كافر لا نفع في حياته فيُقتَل كالشاب.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً، ولا امرأة))؛ رواه أبو داود في سننه.
ورُوي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه وصى يزيد حين وجهه إلى الشام فقال: لا تقتل صبيًّا، ولا امرأة، ولا هرمًا.
وعن عمر أنه وصى سلمة بن قيس فقال: لا تقتلوا امرأة، ولا صبيًّا، ولا شيخًا هرمًا؛ رواهما سعيد.
ولأنه ليس من أهل القتال؛ فلا يُقتل كالمرأة، وقد أومأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه العلة في المرأة فقال: ((ما بال هذه قُتلت وهي لا تقاتل؟)).
والآية مخصوصة بما روينا، ولأنه قد خرج من عمومها المرأة، والشيخ الهرم في معناها؛ فنقيسه عليها.
وأما حديثهم، فأراد به الشيوخ الذين فيهم قوة على القتال، أو معونة عليه برأي أو تدبير؛ جمعًا بين الأحاديث.
ولأن أحاديثنا خاصة في الهرم، وحديثهم عام في الشيوخ كلهم، والخاص يقدَّم على العام، وقياسهم ينتقض بالعجوز التي لا نفع فيها.
ولا يقتل زَمِنٌ ولا أعمى ولا راهب، والخلاف فيهم هو كالخلاف في الشيخ، وحُجَّتهم ههنا حجتهم فيه.
ولنا في الزمن والأعمى أنهما ليسا من أهل القتال؛ فأشبَهَا المرأة.
وفي الراهب ما رُوي في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: وستمرون على أقوام في الصوامع قد حبسوا أنفسهم فيها، فدعوهم حتى يميتهم الله على ضلالهم، ولأنهم لا يُقاتِلون تدينًا؛ فأشبهوا من لا يقدر على القتال.
ولا يُقتَل العبيد، وبه قال الشافعي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أدركوا خالدًا فمروه ألا يقتل ذرية ولا عسيفًا))، وهم العبيد؛ لأنهم يصيرون رقيقًا للمسلمين بنفس السبي، فأشبهوا النساء والصبيان..".
ثم قال: "ومن قاتل ممن ذكرنا جميعهم جاز قتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتَل يوم قريظة امرأةً ألقت رحى على محمود بن سلمة.
ومن كان من هؤلاء الرجال المذكورين ذا رأي يعين به في الحرب، جاز قتله؛ لأن دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ قُتل يوم حُنين، وهو شيخ لا قتال فيه، وكانوا خرجوا به معهم يتيمنون به ويستعينون برأيه، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قتله، ولأن الرأي من أعظم المعونة في الحرب.
وقد جاء عن معاوية أنه قال لمروان والأسوَد: أمددتُما عليًّا بقيس بن سعد وبرأيه ومكايدته؟ فو الله لو أنكما أمددتماه بثمانية آلاف مقاتل ما كان بأغيظ لي من ذلك.
ومن قاتل من هؤلاء النساء والمشايخ والرهبان في المعركة قُتل، لا نعلم فيه خلافًا، وبهذا قال الأوزاعي والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي.
وقد جاء عن ابن عباس قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة مقتولة يوم الخندق فقال: ((مَن قَتل هذه؟))، قال رجل: أنا يا رسول الله، قال: ((ولمَ؟)) قال: نازعتني قائم سيفي قال: فسكَت.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على امرأة مقتولة فقال: ((ما بالُها قُتلت وهي لا تُقاتِل؟!))، وهذا يدل على أنه إنما نهى عن قتلِ المرأة إذا لم تُقاتِل؛ ولأن هؤلاء إنما لم يُقتَلوا لأنهم في العادة لا يُقاتِلون".
ثم قال: "أما الفلاح الذي لا يقاتل، فينبغي ألا يُقتَل؛ لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب.
وقال الأوزاعي: لا يقتل الحراث إذا علم أنه ليس من المقاتلة، وقال الشافعي: يقتل إلا أن يؤدي الجزية؛ لدخوله في عموم المشركين.
ولنا قول عمر وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَقتلوهم حين فتحوا البلاد، ولأنهم لا يُقاتلون؛ فأشبهوا الشيوخ والرهبان"[14].
والخلاصة أنه لا يجوز أن يُقصد بالقتال من ليسوا بأهل له؛ كالنساء والأطفال والشيوخ والزمنى والعمي والعجزة، والذين لا يباشرونه عادةً كالرهبان والفلاحين، إلا إذا اشترك هؤلاء في القتال وبدؤوا هم بالاعتداء، فعندها يجوز قتالهم.
ولم يقتصر النهي عن الاعتداء على بني البشر فقط؛ وإنما تَجاوَزَ ذلك ليَشمل النهي الإتلافَ، وقطع الشجر، وقتل الحيوانات، وتَخريب الممتلكات بغير مصلحة أو ضرورة تَقتضي الإقدام على ذلك، وهذا سموٌّ أخلاقي لم تَعرف له البشرية مثيلاً في تاريخها قديمًا وحديثًا.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه لما بعث يَزيد بن أبي سفيان إلى الشام على ربع من الأرباع، خرَج رضي الله عنه معه يُوصيه، ويزيدُ راكبٌ، وأبو بكر يمشي.
فقال يزيد: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما أن تركب وإما أن أنزل.
فقال: "ما أنت بنازل، وما أنا براكب، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله.
يا يزيد، إنكم ستقدمون بلادًا تؤتون فيها بأصناف من الطعام، فسموا الله على أولها، واحمدوه على آخرها.
وإنكم ستجدون أقوامًا قد حبسوا أنفسهم في هذه الصوامع، فاتركوهم وما حبَسوا له أنفسهم، وستجدون أقوامًا قد اتخذ الشيطان على رؤوسهم مقاعد - يعني الشمامسة - فاضربوا تلك الأعناق، ولا تقتلوا كبيرًا هرمًا، ولا امرأة ولا وليدًا.
ولا تخربوا عمرانًا، ولا تقطعوا شجرة إلا لنفع، ولا تعقرن بهيمة إلا لنفع، ولا تحرقنَّ نخلاً ولا تغرقنه، ولا تغدر، ولا تمثِّل، ولا تَجبُن، ولا تغلل، ولينصرنَّ الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله قوي عزيز"[15].
وإن هذا ينسجم تمامًا مع الهدف السامي للحرب في الإسلام؛ فإنها - كما ذكرنا - وسيلة لإصلاح الناس وإرشادهم، وإزالة العوائق التي تحول دون اطلاعهم على الدين الصحيح؛ ولذلك فلا يجوز في دين الإسلام أن يقاتل المسلمون رغبة في التدمير، أو إذلالاً للناس، أو تعذيبًا لهم كما كانت تفعل جيوش الأمم الأخرى كاليهود والنصارى الذين كانوا يذلون الشعوب ويدمِّرون كل شيء لأعدائهم؛ مدنِهم ومزارِعهم وحيواناتهم.
فأين دعاة التحضر والمتشدِّقون بالمبادئ والقيم الإنسانية الذين اخترعوا أسلحة الدمار الشامل، وقذفوا الشعوب بالقنابل الذرية التي أتت على الأخضر واليابس، وسبَّبت من الدمار والإفساد ما امتد أثره لعشرات السنين.
ومن العجب أن تراهم في تبجح وحمق يقذفون الإسلام والمسلمين بتُهم الإرهاب وسفك الدماء، ويتطاول بعضُهم في جهل وغفلة، أو صلف وحقد - لا ينزه عن الأغراض الوضيعة - لينسب ذلك إلى الدين الإسلامي نفسه.
ونصوص هذا الدين ومقرراته وتاريخه: شاهدة على سموه الأخلاقي سلمًا وحربًا، سمو لا يكون إلا ربانيًّا في مورده ومصدره.


[1] السياسة الشرعية؛ لابن تيمية (ص: 105)، مكتبة المعارف. [2] الجامع لأحكام القرآن (2 / 348). [3] البخاري (3014) ومسلم (1744). [4] البخاري (2792) ومسلم (3280). [5] أحمد (17158)، وأبو داود (2669). [6] أخرجه مسلم (1731)، وأبو داود (2613). [7] البيهقي في الكبرى (17934). [8] شرح معاني الآثار للطحاوي (3 / 221). [9] قال ابن كثير في كتابه إرشاد الفقيه (2 / 320): روي هذا عن أبي بكرٍ من وجوه كثيرة. [10] أخرجه مسلم (1812). [11] النسائي (4127). [12] زمن زمنًا وزمنة وزمانة: مرض مرضًا يدوم زمانًا طويلاً، أو ضعف بكبر سن أو مطاولة علة، فهو زمِن (بكسر الميم) وزمين، والجمع زمني؛ انظر: المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، (ص: 426)، مادة زمن، دار الفكر - بيروت. [13] الجامع لأحكام القرآن (2 / 348 - 350). [14] المغني؛ لابن قدامة المقدسي (10 / 530 - 535) دار الفكر، بيروت، باختصار وتصرف. [15] البيهقي في الكبرى (17929).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣