دور السؤال التعليمي الإرشادي في تعلم ونشر علم العقيدة
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
دور السؤال التعليمي الإرشادي في تعلم ونشر علم العقيدة
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ آمين، ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على النبيِّ محمدٍ، وآل بيته، وصحابته أجمعين.
أما بعد:
قَدَّمَتْ دِراساتٌ عِدَّة موضوعَ الأسئلة في العمليَّة التعليميَّة على أنَّه أساسٌ من أُسسها، لكنَّ تعليمَ عِلْمِ العقيدة لم يحظَ بالاهتمام الأمْثَل، والمماثل للجهود المبذولة في غيره من العلوم مِن قِبَل المؤسسات التعليميَّة - أو غيرها - التي تُعنَى بتطوير التعليم؛ حيث كانتْ جلُّ الجهود المبذولة في مجال الأسئلة التدريبيَّة والتوضيحيَّة والإرشاديَّة والتقويميَّة الخاصة باللغة العربية والشريعة الإسلاميَّة - وخاصة العقيدة والتوحيد - يشوبها النقصُ، وعدمُ الجِديَّة والإدراكِ الكامل لأهميَّة السؤال التقويمي والإرشادي في العمليَّة التعليميَّة؛ نظرًا للتهميش الذي أصابَ علومَ الدِّين في المؤسَّسات الحكوميَّة وغَيْر الحكوميَّة في كثيرٍ من البلدان العربيَّة.
وأنواع السؤال متعددة؛ منها: الاستفهامي، ومنها الاستنكاري التعجُّبي، ومنها التقريري الإرشادي.
وكلُّ تلك الأنواع استُخدمتْ في القرآن والسُّنَّة، وتمَّ توظيفُها لحُسْنِ التأثير على القارئ وإفهامه، وتثبيت المعرفة الإلهيَّة في نفسِ القارئ.
ذلك، وقد أمرنا اللهُ أنْ نسألَ أهْلَ العلمِ عمَّا نجهله، فقال: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]؛ وذلك لِمَا للسؤال من مكانةٍ في إنارة منارة العِلْم، وكَشْفِ غياهب شبهات الجهْلِ.
استخدام جبريل أسلوبَ السؤال التعليمي في تعليم صحابة الرسول أمرَ دينِهم.
((ذاك جبريلُ، أتاكم يعلمكم دينَكم)).
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يومٍ جالسًا، إذ جاء رجلٌ شديدُ سوادِ اللِّحْيَة، شديدُ بياض الثياب، فوضَعَ ركْبَته على رُكْبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، ما الإسلام؟ قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصَوْم رمضان، وحج البيت))، قال: صدقْتَ، قال: فعَجِبْنَا من سؤاله إيَّاه وتصديقه إيَّاه، قال: فأخْبِرْني: ما الإيمانُ؟ قال: ((أنْ تُؤْمِنَ بالله وملائكته، وكتبه، ورُسله، والبعثِ بعد الموت، والقَدَر خَيْرِه وشرِّه، حُلْوه ومُرِّه، قال: صدقتَ، قال: فَعَجِبْنَا من سؤاله إيَّاه وتصديقه إيَّاه، قال: فأخْبِرْني ما الإحسانُ؟ قال: ((أنْ تَعْبدَ اللهَ كأنَّك تراه؛ فإنْ لم تكنْ تراه، فإنَّه يراك))، قال: فأخْبِرْني متى الساعةُ؟ قال: ((ما المسؤول عنها بأعْلَم من السائل))، قال: فما أمارتُها؟ قال: ((أنْ تَلِدَ الأمةُ ربَّتَها، وأنْ تَرى الحُفَاةَ العُرَاة، رُعَاء الشَّاء يتطاولون في البنيان))، قال: فتولَّى وذَهَبَ".
فقال عمر: فلَقِيَني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد ثالثة، فقال: ((يا عمر، أتدري مَن الرجل؟)) قلت: لا، قال: ((ذاك جبريل، أتاكم يعلِّمُكم دينَكم))[1].
في هذا الحديث فوائدُ كثيرةٌ، وحِكَم بليغة؛ منها: أنَّ الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكونوا يسألون إلا عمَّا كانوا يجهلون؛ وذلك لأنَّهم تعجَّبوا مِن سؤال جبريل وتصديقه للرسولِ، فهو أمرٌ غريبٌ لا يعرفونه.
وفي هذا الحديث استخدم جبريلُ - عليه السلام - أسلوبَ السؤالِ التعليمي الإرشادي في تعليم الصحابة أمْرَ الدين.
والسؤال التعليمي الإرشادي: هو أنْ يسألَ الرجلُ العالمَ لا ليعْلمَ الإجابة؛ بل ليُعَلِّمَ الحاضرين مِنَ الناس.
فجبريل أمينُ الوحي يَعْلَمُ الإجابة مسبقًا، لكنَّه سألَ ليُعَلِّم الصحابةَ والمسلمين جميعًا أمْرَ دينِهم.
واختيار جبريل لهذه الطريقة يدلُّنا على أهميتها وأثرِها البالغ في التعلُّم والتعليم.
وجبريل - عليه السلام - أمينُ الوحي لا يصدرُ إلا عن أمْرِ ربِّه - سبحانه - ولذلك نقرِّرُ أنَّ طريقةَ السؤال الإرشادي محبوبةٌ لله - تعالى - لأنه أَمَرَ جبريلَ باستخدامها في تعليمنا أمرَ ديننا؛ أي: أعظمه وأصله وأُسه ولبه، كما هو واضحٌ مِنَ الحديثِ؛ وذلك إذ سألَ جبريلُ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام، وعن الإيمان، وعن الإحسان، وعن الساعة، وصدَّقه فيما قال.
فهذا كنه الإسلام كدين، ومراتب العلو فيه، وهذا أمرٌ شريف يُستخدَم في تبليغه طريقةٌ شريفة، فقد اجتمع جبريل أمين وحي السماء، ومحمد خاتم الأنبياء، في مجلس تعليم أمر دين الإسلام وعماده، ولم يستخدما إلا أسلوبَ السؤال التعليمي الإرشادي، وفي هذا دليل على شرف طريقة السؤال ودورها المؤثِّر على فهم المستمع والمتلقي.
ولشرف العربية شرُفت بالقرآن، فإن الله أنزل القرآن باللغة العربية؛ لأنها أجلُّ اللغات وأقدرُها على احتواء المعاني الإلهية.
وهذا أمرٌ طريفٌ قد كَانَ ينبغي أنْ يفطنَ له المعلِّمون في مختلف العلوم.
ومن فوائده: وضوح إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإيجازُها وتركيزُها على الموضوع.
ومن فوائده: سؤال جبريل عمَّا أراد السؤال عنه بمباشرةٍ ووضوحٍ أيضًا، فقال: ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟
وكذلك نرى أنَّ جبريلَ - عليه السلام - قد قسَّم الأسئلة، وتدرَّج في عَرْضِها؛ فبدأَ بالإسلامِ العام، ثُمَّ شَفَعَ بالإيمان الخاص وحُدودِه، ثُمَّ سألَ عنِ الإحْسان.
ثم سَأَلَ عن وقتِ الساعة، وانتقلَ منها إلى السؤال عن أشراطِها، وكلُّ ذلك من مباشرة أسئلة جبريل وتدرُّجِها، ووضوحُ إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتركيزها ما هو إلا تطبيقٌ لأعلى المعايير العالميَّة في صياغة السؤال التعليمي.
طرحَ الإمامُ المسألةَ على أصحابه؛ ليختبرَ ما عندَهم من العِلْم ويُعلِّمهم.
كذلك استُخدمَ أسلوبُ السؤال التعليمي مِن قِبَل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما ينطقُ عن الهوى، والله هاديه إلى ما فيه خير أُمَّته، فكان كثيرًا ما يَستخدمُ السؤالَ الإرشادي في تعليم صَحَابته؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : ((أتدرون ما الإيمان بالله وحدَه؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأنْ تعطوا مِنَ المغْنَمِ الخُمْس، ....))[2].
وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقطُ ورقُها، وإنَّها مثلُ المسلم، حَدِّثُوني ما هي؟))، قال: فَوَقَعَ الناسُ في شجر البوادي، قال عبدالله: فَوَقَعَ في نفسي أنَّها النخلة، ثُمَّ قالوا: حِدِّثْنا ما هي يا رسول الله؟ قال: ((هي النخلة))[3].
والرسول - صلى الله عليه وسلم - قُدْوَتُنا في كلِّ شيءٍ، حتى في صياغة الأسئلة والإجابة، فلا يحبَّّذ أنْ تكونَ الإجابة طويلة ولا متضمِّنة إطنابًا قد لا يُفيدُ كثيرًا من المتعلِّمين.
وهذا مما يدلُّ على أنَّ هذا الطريقَ التعليمي مُحَبَّبٌ إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلينا أنْ نقتديَ بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ونحاولَ تطويرَ التعليم الديني بما يُواكبُ العصرَ الحديث، ويَنْشُرُ العِلْمَ في ربوع العالم بيُسْرٍ لجميع الفئات العُمْريَّة أو الثقافيَّة.
والتوحيد والعقيدة هما أشرف العِلْم وغاية الخلقِ؛ لذلك كان لزامًا على الناصحين للأمة أنْ يَنْهَجوا نَهْجَ رسولِهم في حُسْنِ التعليم والتدرُّج فيه.
وكذلك على كلِّ مَن يستطيع نَشْرَ عِلْم العقيدة والتوحيد بِصُوَرٍ متطورة تناسبُ العَصْرَ الحديث، واستخدام الوسائل الحديثة، والاستفادة مِن مناهجِ التعليم الحديثة، ومنهجِ صياغة السؤال التعليمي عُمومًا؛ لأجل إعلاء كلمة الله خفَّاقة تفتحُ أرجاءَ البسيطة المعمورة.
فعلينا أنْ نهتمَّ في عَرْض علوم الشريعة - خاصة لطلاب العِلْم الصِّغار - بطريقة السؤال الإرشادي، وأنْ نقتديَ برسولِنا في ذلك، ونتَّبعَ المعايير الفنيَّة في صياغة الأسئلة والأجْوِبَة.
وأرى أنَّ من أسباب انحرافِ كثيرٍ مِن شباب الأُمَّة عن الجادَّة: قِلَّةَ العلماء الربَّانيين العاملين، وصعوبة التعليم، وعدمَ تطوير صُوَر عَرْضِه على هؤلاء الشباب؛ فمنهم مَن يشتطُّ ويفرِّط في أمْرِ دينه، ومنهم مَن يتشدَّدُ ويتَّخِذُ الإرهاب مَرْكبًا يُعَبِّر فيه عن نقائصِ ذَاته، وعدم فَهْمه للدين الحنيف - دينِ السلامِ - الإسلام.
ولذلك؛ يجبُ على كلِّ قادرٍ ومسؤول أنْ يسعى إلى تطوير عَرْض العِلْم الشرعي بما يواكبُ العَصْرَ الحديث بمحْدَثَاته، وكلٌّ في حَقْلِه؛ فالمعَلِّمُ في فَصْله، والشيخُ في حَلَقَته، والدكتور في دَرْسه، والناشر في دَاره، والمؤلِّف في كتابه.
لكنَّنا نجدُ كُتبَ هذا النوع من التعليم قليلة، وهذا القليل لم يكنْ على الوجه الأكمل؛ من دِقَّة الأسئلة، والصياغة، ووضوح الأهداف المرجوَّة مِن تدريس هذا المحتوى العِلْمي أو ذاك بأسلوبِ الأسئلة الإرشاديَّة المصحوبة بأجْوِبَة.
وكذلك لم يُدْرِكْ كثيرٌ ممن تَصدَّر لصُنْعِ مِثْلِ هذه الكتب التعليميَّة في مجال العقيدة مدى أهميَّة أنْ تكونَ الإجابات واضحة، ومستوفية لجميع أجزاءِ السؤالِ؛ فنجدُ في بعضها قصورًا في الإجابة، وإيجازًا مُخِلاًّ.
وذلك يرجعُ إلى عدمِ اعتمادهم على منهج واضحٍ، وطرائقَ علميَّة مدروسة، وكذلك عدمُ الاستفادة من العلوم التربويَّة والتعليميَّة الحديثة، والحِكْمة ضالَّة المسلم، وعلينا تحويرها بما يوافقُ شَرْعَنا الحنيف، ويجعل التعَلُّمَ سهلاً ميسورًا.
وكذلك دورُ النَّشْرِ لم تبذلِ المجهود المرجوّ منها في عَرْض مِثْل تلك الكتب التعليميَّة؛ فعليها تطوير صُوَر العَرْض؛ مما يشجعُ الدارسين على احتواء المحتوى التعليمي الذي يتضمنه الكتابُ.
الأسئلة والأجوبة وحدة تعليميَّة متكاملة:
تُكوِّن الأسئلة والأجوبةُ وحدةً تعليميَّة متكاملة، وأسلوب السؤال التعليمي أسلوبٌ نبويٌّ فريدٌ، استخدَمَه مع الصحابة وأدَّى إلى حِفْظِهم العِلْمَ.
وللأسئلة دورٌ كبيرٌ في إثارة انتباه الدارسين وتنشيطهم، وعَقْدِ الصلة بين أذهانهم وحقائقِ العِلْم المدروس، والمحتوى التعليمي المطروح.
[1] قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين، "صحيح ابن حِبَّان"، (1 / 389).
[2] "صحيح البخاري"، طوق النجاة، (1/ 20)، باب أداء الخمس من الإيمان.
[3] "صحيح البخاري"، طوق النجاة، (1/ 22)، باب طَرْحِ الإمام المسألةَ على أصحابه؛ ليختبرَ ما عندهم من العِلْم.