أكبر الكبائر
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
أكبر الكبائرالوصية الأولى: الإيمان بالله تعالى وعدم الشرك به (2)
ذلكم وصاكم به (الوصايا العشر )
الشرك بالله من أكبر الكبائر، بل هو أكبرُها على الإطلاق؛ قال الله تعالى: ((يا ابن آدمَ، إنك ما دعوتَني ورجوتني، غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدمَ، لو بلغت ذنوبُك عَنان السماء، ثم استغفرتَني غفرتُ لك، يا ابن آدمَ، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتَني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتُك بقرابها مغفرةً))[1]، في هذا يتبين أن الشركَ من أكبر الكبائر، ولا ينفع معه عمل صالح، ولقد كان مدارُ القرآن المكي تقبيحَ الشرك، وذمَّه، وحربه بلا هوادة، والعمل على الدعوة إلى الإيمان بالله وحده، حتى إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يذكر سواه في مكة، وسعى في دعوتِه لنيل الاعتراف بالتوحيد، والانسلاخ عن الشرك؛ لأنه إن تمَّ له ذلك، فإن المهتديَ إلى الله يقبَلُ بعدها كلَّ مطالب الإيمان، وقصتُه مع أبي طالب توضِّحُ ذلك، ففي صحيح مسلم: "لَمَّا حضرت أبا طالبٍ الوفاةُ جاءه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهلٍ وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهد لك بها عند الله))، فقال أبو جهلٍ وعبدالله بن أبي أمية: يا أبا طالبٍ، أترغبُ عن ملة عبدالمطلب؟ فلم يزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعرِضُها عليه ويعيد تلك المقالة، حتى قال أبو طالبٍ آخر ما كلمهم: هو على ملَّة عبدالمطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما والله لأستغفرنَّ لك ما لَم أُنْهَ عنك))، فأنزل الله عز وجل: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113]، وأنزَل الله تعالى في أبي طالبٍ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56][2]".
وفي رواية أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعمِّه عند الموت: ((قل: لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة، فأبى، فأنزَل الله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ﴾ [القصص: 56]..
الآيةَ".
إن الشِّركَ من أكبر الكبائر، فلا ينفع المشركَ عملٌ صالح، ولا استغفار نَبي؛ لذلك قال الله تعالى: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ [النساء: 31]، وفي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أنبِّئكم بأكبر الكبائر؟))، قلنا: بلى يا رسول الله، فقال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدينِ، وشَهادة الزور))[3]، وفي الصحيح أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم، أنه سئل: أيُّ الذنب أكبر عند الله؟ قال: ((أن تجعلَ لله ندًّا وهو خلَقك))، قيل: ثم أي؟ قال: ((أن تقتلَ ولَدَك مخافة أن يطعَمَ معك))، قيل: ثم أي؟ قال: ((أن تزانيَ بحليلةِ جارك))[4]، فتبيَّن من هذا عِظَمُ الشِّرك، على أنه علينا أن نضعَ آية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 116] في الحسبان؛ لنعلَمَ أن غيرَ الشرك وإن قبُح في الإثم، فإنه دون الشِّرك، فيحتمل أن يغفرَ اللهُ لصاحب الكبيرة من غير الشرك، كما هو مفهوم هذه الآية، ثم لنعلم أن من قال: ((لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه دخل الجنة))[5]، كما في الصحيح، فحامل كلمة التوحيد لا يُخلَّد في النار إن ارتكب ما يوجب عقابَه بها، وفي شرح صحيح مسلم للنووي على هذا الحديث وأمثاله قال: "وأن كل من مات على الإيمان وتشهَّد مخلصًا من قلبه بالشهادتين، فإنه يدخُل الجنة، فإن كان تائبًا أو سليمًا من المعاصي، دخَل الجنة برحمة ربه، وحرُم على النار"، قال: "وإن كان هذا من المخلطين بتضييع ما أوجَب اللهُ تعالى عليه، أو بفعل ما حرَّم عليه، فهو في المشيئةِ، لا يُقطَع في أمره بتحريمه على النار، ولا باستحقاقه الجنةَ لأول وهلة، بل يُقطَع بأنه لا بد من دخوله الجنةَ آخرًا، وحالُه قبل ذلك في خطر المشيئة، إن شاء الله عذَّبه بذَنْبه، وإن شاء عفا عنه بفضله"[6]، وفي الحديث الذي يرويه مسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنتُ رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم على حِمار يقال له: عُفَير، قال: فقال: ((يا معاذ، تدري ما حقُّ الله على العباد، وما حق العباد على الله؟))، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حقَّ الله على العباد أن يعبُدوا اللهَ، ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله عز وجل ألا يعذِّبَ من لا يشرك به شيئًا))، قال: قلت: يا رسول الله، أفلا أُبشِّرُ الناس؟ قال: ((لا تُبشِّرْهم فيتَّكِلوا))[7].
فالإيمان هو الأساس في عفو الله عن المقصِّرين من عباده، وأما الشرك فلا ينفع معه عملٌ صالح، ولا ينفع معه حُسن الخُلق، ولا لِين الجانب، ولا الكلام المعسول، ولا الظُّهور بمظهر المُحسِن الساعي في الخير، أو المنفِق في وجوه البِر، كما نشهد من أعمال بعض غير المؤمنين، أو نسمع عن أخبارهم ومساهماتهم في أعمال الخير، أو نقرأ ما في كتبهم من أخبار وآراء منصفة حول دفاعهم عن المظلومين، أو إشادتهم بالحق، كل هذا لا ينفعُ في الآخرة، لقد اختلط الأمر هذا على بعض المثقَّفين في التمييز بين المؤمن وغير المؤمن؛ حيث ادعى بعضُهم إيمانَ تولستوي وغاندي، وذلك من خلال ما قرؤوا لهما من بعض المقالات المنصفة، أو المواقف العملية التي تميل إلى جانب الحق، وحكَموا على نجاتهما ودخولهما الجنة، والآية التي سأوردها تبيِّن أنه لا نجاة لمشرك من عقاب النار والخلود فيها؛ لأنه لا نفعَ لعمل الخير مع اعتقاد الشرك أو الكفر؛ فالشرك جريمة لا تعدِلها جريمة، وطالما أن هذين الأديبين لم يصرِّحا بالإيمان، وبقيا على معتقدهما، فلا نجاة لهما، وهذا ما تحكُم به النصوص، ولا يغيِّر من حقيقة هذا الأمر دعوى مَن يدَّعي عكسه بغير علم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65]؛ فإن هذا تهديدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن كان قبْلَه من الأنبياء بأنهم إن أشركوا - وهذا من باب ضربِ المثل بأعز الناس؛ لبيان عِظَم هذا الأمر، وعدم التساهل فيه - ليحبطَنَّ عملُهم السابق، وما قدموا من جهد، فيكون هباءً منثورًا، كأنهم لم يفعلوا خيرًا قط، وتكون النتيجة خسرانًا مبينًا، وقال تعالى أيضًا: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾ [إبراهيم: 18]، فهل بعد هذا المَثَل والتشبيه من قول لقائل؟ فقد حُسِم الأمر، فأنَّى لإنسان أن يجمع رمادًا في يوم عاصف؟ وعلى هذا فلا تجتمع له الحسناتُ؛ لأنها لا تجتمع على أساس، كالذي يبني في الهواء، إذًا لا تعد شيئًا، وقال تعالى - وذلك لمزيد من البيان والتوضيح -: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 103 - 105]، وقال أيضًا: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ﴾ [النور: 39]، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، إن ابنَ جُدْعان كان في الجاهلية يصِلُ الرحِم، ويُطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: ((لا ينفَعُه؛ إنه لم يقل يومًا: رب اغفِرْ لي خطيئتي يوم الدين))[8]، وبالمقابل، فإن باب التوبة مفتوح لِمَن كفَر أو أشرك؛ لكي ينيبَ إلى الله، ويتوبَ، ويؤمن به، فتحط عنه ذنوبه السابقة، وتفتح له صفحة جديدة، ففي الصحيحين عن عبدالله بن مسعود قال: قال رجل: يا رسول الله، أنؤاخَذُ بما عمِلْناه في الجاهلية؟ قال: ((من أحسَن في الإسلام، لم يؤاخَذْ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلامِ، أُخِذ بالأول والآخِرِ))[9]، ومعنى: ((في الإسلام))؛ أي: في العهد الذي ظهر فيه الإسلام؛ فالإسلامُ يجُبُّ ما كان قبله، ومما تقدم نجد عِظَم جريمة الشرك بالله، كما نجد بالمقابل مقدارَ الإيمان بالله، وسَعة عفو الله لخطايا عبادِه.
قصة مخيريق اليهودي:
نذكر هذه القصة التي وقعت أحداثُها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لنتبين منها أن غيرَ المؤمن لا يُقبَل منه العمل الصالح، قال ابن إسحاق: "وكان - مخيريق - حبرًا عالمًا، ورجلاً غنيًّا كثيرَ الأموال من النخل، وكان يعرف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بصفتِه، وما يجد في علمه، وغلَب عليه إِلفُ دِينه، فلم يزل على ذلك حتى كان يوم أُحدٍ، وكان يوم السبت، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لَتعلَمون أن نصر محمدٍ عليكم لحقٌّ، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، ثم أخَذ سلاحه فخرَج حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأُحدٍ، وعهِد إلى مَن وراءه من قومه: إن قُتِلْتُ هذا اليوم، فأموالي لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم يصنعُ فيها ما أراه اللهُ، فلما اقتتل الناس، قاتَل حتى قتل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - يقول: ((مُخَيْرِيقُ خيرُ يهودَ))، وقبَض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمواله؛ فعامة صدقات رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ منها"[10].
فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يقُلْ: إنه من أهل الجنَّة، ولا ذكَر في هذا الموقف ما كان يذكُرُه للصحابة عندما كان يبشِّرُهم بالجنة، وإنما اكتفى أن قال: "مخيريقُ خير يهود"، فجعَله خيرَ بني دِينه فقط.
[1] رواه الترمذي وقال: حديث حَسَن صحيح.
[2] صحيح مسلم ص214 ج1.
[3] جامع الأصول: 8226.
[4] صحيح مسلم.
[5] صحيح مسلم.
[6] صحيح مسلم ص220 ج1.
[7] صحيح مسلم ص232 ج1.
[8] جامع الأصول 232.
[9] جامع الأصول 7982.
[10] ابن هشام السيرة النبوية، ص840 ج2.