أرشيف المقالات

تفصيل ثلاثة أصول من أصول العقائد (2)

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
تفصيل ثلاثة أصول من أصول العقائد (2)

عرف من الكلمة السابقة أن دخول الجنة والخلود فيها ودخول النار والخلود فيها: جزاء وفضل في الأولى.
وجزاء وعدل في الثانية.
وأن العمل سبب في دخول الجنة.
 
وفي الصحيحين واللفظ للبخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته".
 
وظاهره معارض لمثل قوله عز وجل ﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32].
 
والجواب: أن الباء في مثل هذه الآية للسببية، أي أن العمل سبب في دخول الجنة.
أما النفي في الحديث فهو المقابلة والمعاوضة؛ أي أن دخول الجنة ليس في مقابلة العمل، ولا لمجرده.
بل لابد مع العمل من تفضل الله تعالى بقبوله.
وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم "إلا أن يتغمدني الله برحمته" فرجع الأمر إلى محض فضل الله عز وجل وأنه هو الذي جعل الدخول جزاء على العمل.
وإلا فلو حاسب الله تعالى عباده على أعمالهم وعلى ما أولاهم من نعمه في دار الدنيا لما وفت الأعمال ببعض تلك النعم.
 
وبهذا البيان يعلم أنه لا معارضة بين الآيات وبين هذا الحديث الصحيح.
وهنا نشرع في إيراد الأدلة على أن خلود أهل الدارين فيهما جزاء على العمل.
 
فمنها قوله عز وجل في سورة الأحقاف ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأحقاف: 13، 14] وقوله تعالى  ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة:7، 8].
فهاتان الآيتان تبينان أوضح البيان أن خلود أهل الجنة فيها إنما هو جزاء على ما عملوا.
وفي قوله سبحانه ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ إشارة لطيفة إلى عمل المؤمنين الدائم بدوام الجنة، وهو خشيتهم الله عز وجل مع وجود أعمال صالحة غير تلك الخشية، لا تنقطع في الجنة وإن لم تكن على سبيل التكليف، كحمدهم لله تعالى وتسبيحهم ودوام شكرهم.
كما يشير إليه قوله تعالى في سورة يونس ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [يونس: 10] وقوله تعالى في سورة فاطر ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ [فاطر: 34، 35] وقوله تعالى في سورة الزمر ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [الزمر: 74].
 
ويوضح لك أن إعطاء الأجر لا يشترط أن يكون على عمل تكليفي أن عمل الصبي قبل بلوغه أعمالا صالحة يعطيه الله سبحانه وتعالى عليها الأجر وإن لم يكن مكلفاً رحمة منه وفضلاً فكذلك عمل المؤمنين في الجنة.
فظهر بهذا أن الخلود لأهل الجنة فيها جزاء على أعمالهم مع كونه فضلا من الله عز وجل.
 
بيان الأدلة على أن خلود أهل النار فيها جزاء على أعمالهم:
1- قوله تعالى ﴿ سيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [التوبة: 95] فقوله ﴿ مَأْوَاهُمْ ﴾ أي سكنهم الذي لا يخرجون منه؛ وذلك معنى الخلود.
 
2- وقوله عز وجل ﴿ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [فصلت: 28] وهذه الآية من أصرح الدلائل على أن خلود الكفار في دار العذاب إنما هو جزاء وفاق؛ فإن الجحود المشار إليه في آخر الآية عمل لا يفارق قلوبهم ما دامت الدار الآخرة حتى لو ردهم الله إلى دار الدنيا وبعث إليهم رسله بأضعاف المعجزات التي بعثهم بها إليهم في هذه الدار التي نحن فيها، لم يؤمنوا كما بيّن الله عز وجل في ذلك في سورة الأنعام بقوله عز وجل ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾  [الأنعام: 27 ،28 ] فهذا الجحود الذي لا يفارقهم، وذلك الكفر الذي لا يغادر قلوبهم، يستلزمان خلودهم في جهنم بالا انتهاء.
 
3– وقوله تعالى في المثل الذي ضربه ليهود بني قريظة والمنافقين من أهل المدينة حين خذلوهم وأخلفوهم وما وعدوهم به ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾ [الحشر: 16، 17] أي الكافرين.
فالإشارة في الآية راجعة إلى الخلود وهو جزاء كل كافر لأن المبتدأ والخبر منصبان على شيء واحد.
 
4- وقال تعالى في سورة النبأ ﴿ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآَبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ [النبأ:21، 26] وهذه الآيات المحكمات التي سقناها من سورة براءة وفاطر والحشر والنبأ تضع بين عينيك وفي صحيفة قلبك أن الخلود في العذاب لمن استحقوه جزاء مساو لأعمالهم، وعدل موافق لاستمرار كفرهم.
 
فاحفظ هذه الأدلة في أهل الدارين؛ وتأمل هدانا الله وإياك فيما علقنا به عليها، فإنك واصل به إن شاء الله تعالى إلى صحة ما تضمنته الكلمة الأولى من الحق في بعض أصول العقائد.
والله يتولى هدانا وهداك إلى صراطه المستقيم.
 
للبحث بقية..





المجلة


السنة


العدد


التاريخ




الهدي النبوي


الثانية


الخامس عشر


جمادى الاخر سنة 1357 هـ

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢