أرشيف المقالات

كيف تسقط عقوبة جهنم عن فاعل السيئات؟

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2كيف تسقط عقوبة جهنم عن فاعل السيئات؟!
قال ابن أبي العز[1]: "إن فاعلَ السيئات يسقطُ عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب[2]، عُرِفت بالاستقراء من الكتاب والسنة: السبب الأول: التوبة، قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ ﴾ [مريم: 60]، ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا ﴾ [البقرة: 160].
والتوبة النصوح: وهي الخالصة، لا يختصُّ بها ذنب دون ذنب، لكن هل تتوقف صحتُها على أن تكون عامة، حتى لو تاب من ذنب وأصرَّ على آخر لا تُقبل؟ والصحيح: أنها تُقبل[3].

وهل يَجبُّ الإسلامُ ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يُتَبْ منها؟ أم لا بد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك؟ حتى لو أسلم وهو مصرٌّ على الزنا وشرب الخمر مثلًا، هل يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر؟ أم لا بد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه؟ أو يتوب توبةً عامة من كل ذنب؟
وهذا هو الأصح: أنه لا بد من التوبة مع الإسلام، وكون التوبة سببًا لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها - مما لا خلاف فيه بين الأمة، وليس شيء يكون سببًا لغفران جميع الذنوب إلا التوبة؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وهذا لمن تاب، ولهذا قال: ﴿ لَا تَقْنَطُوا ﴾ [الزمر: 53] وقال بعدها: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾ [الزمر: 54].
السبب الثاني: الاستغفار؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33]، لكن الاستغفار تارةً يذكر وحدَه، وتارة يقرن بالتوبة؛ فإن ذكر وحده دخل معه التوبة، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار، فالتوبة تتضمن الاستغفارَ، والاستغفار يتضمن التوبة، وكل واحد منهما يدخل في مسمَّى الآخر عند الإطلاق[4]، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى، فالاستغفار: طلب وقاية شرٍّ ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافُه في المستقبل من سيئات أعماله[5].
ونظير هذا[6]: الفقير والمسكين، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر، وإذا ذكرا معًا كان لكل منهما معنًى، قال تعالى: ﴿ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ﴾ [المائدة: 89]، وقال: ﴿ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ﴾ [المجادلة: 4]، وقال: ﴿ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 271]، ولا خلاف[7] أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لمَّا أفرد شَمِل المُقلَّ والمُعدِم، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ [التوبة: 60] - كان المراد بأحدهما المُقلَّ، والآخر المُعدِم، على خلاف فيه.
وكذلك: الإثم والعدوان، والبر والتقوى، والفسوق والعصيان[8].
ويقرب من هذا المعنى: الكفر والنفاق[9]؛ فإن الكفرَ أعمُّ[10]، فإذا ذكر الكفر شَمِل النفاق، وإن ذكرا معًا كان لكل منهما معنى، وكذلك الإيمان والإسلام، على ما يأتي الكلام فيه[11]، إن شاء الله تعالى.
السبب الثالث: الحسنات، فإن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فالويلُ لمن غلبت آحادُه عشراتِه، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((وأَتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها))[12].
السبب الرابع: المصائبُ الدنيوية، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما يُصيبُ المؤمنَ من وصبٍ ولا نَصَب، ولا غمٍّ ولا همٍّ ولا حزنٍ، حتى الشوكةُ يُشاكها إلا كفر بها من خطاياه))[13]، وفي المسند[14]: (أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه ﴾ [النساء: 123]، قال أبو بكر: يا رسول الله، نزلت قاصمةُ الظهر، وأيُّنا لم يعمل سوءًا؟! فقال: ((يا أبا بكر، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست يصيبُك الَّلأْواء؟ فذلك ما تجزون به)).
فالمصائب نفسها مكفِّرة، وبالصبر عليها يُثاب العبد، وبالتسخُّط يأثمُ، والصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد،وهي جزاءٌ من الله للعبد على ذنبه، ويكفِّر ذنبَه بها، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله، والصبر والسخط من فعله، وإن كان الأجر قد يحصل بغير عمل من العبد، بل هدية من الغير[15]، أو فضل من الله من غير سبب، قال تعالى: ﴿ وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]، فنفس المرض جزاءٌ وكفارة لما تقدم،وكثيرًا ما يُفهَم من الأجر غفران الذنوب، وليس ذلك مدلولَه، وإنما يكون من لازمه.
السبب الخامس: عذاب القبر، وسيأتي الكلام عليه، إن شاء الله تعالى.
السبب السادس: دعاء المؤمنين[16] واستغفارهم في الحياة وبعد الممات.
السبب السابع: ما يُهدَى إليه بعد الموت؛ من ثواب صدقة أو قراءة[17] أو حج، ونحو ذلك، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.
السبب الثامن: أهوال يوم القيامة وشدائده.
السبب التاسع: ما ثبت في الصحيحين[18]: أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتَصُّ لبعضهم من بعض، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجنة.
السبب العاشر: شفاعة الشافعين، كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها.
السبب الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة[19]، كما قال تعالى: ﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، فإن كان ممن لم يَشَأِ الله أن يغفر له - لِعِظَمِ جُرمه - فلا بد من دخوله إلى الكير؛ ليَخْلُصَ طيبُ إيمانه من خَبَث معاصيه، فلا يبقى في النار مَن في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، بل مَن قال: لا إله إلا الله، كما تقدَّم من حديث أنس رضي الله عنه.
وإذا كان الأمر كذلك، امتنع القطعُ لأحدٍ مُعيَّن من الأمة[20]، غير مَن شَهِد له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - بالجنة[21]، ولكن نرجو للمحسنين، ونخاف عليهم"[22].


[1] شرح الطحاوية (ص: 327 - 330 ط المكتب الإسلامي الطبعة الثامنة 1404هـ).
[2] لقد ذكر رحمه الله أحد عشر سببًا، كما سنرى، ويأتي التنبيه على السبب لاحقًا. [3] مدارج السالكين (1/ 273 - 276)، [4] أي: عند ذكره وحده.
[5] انظر: مدارج السالكين (1/ 308). [6] مما قد يعبر عنه جماعة من أهل العلم بالقاعدة المشهورة: أنهما متى اقترنا في الذكر اختلفا - أي: في المعنى - ومتى افترقا في الذكر اتحدا.
[7] لعله يعني: بين أهل التفسير، والله أعلم. [8] وكذا: الإسلام والإيمان، ونظائره كثيرة. [9] انظر الفتاوى (7/ 53 - 54)، وشرح الطحاوية (ص: 348).
[10] وهذا تعليل لقوله: "ويقرب من هذا المعنى: الكفر والنفاق"؛ ولذلك لم يقل: وكذلك الكفر والنفاق، ويمكن أن يقال - أيضًا: ولأن النفاق كفر خاص يتعلق بالباطن، أما الكفر عند الكافر فهو كفر يتساوى فيه الظاهر والباطن؛ ولهذا متى ذكر الكفر شمل الظاهر والباطن، وأما النفاق فلا يشمل إلا الباطن، والله أعلم.
[11] شرح الطحاوية (ص: 348)، وانظر - أيضًا - الفتاوى (7/ 162 - 170). [12] حسنه الشيخ الألباني. [13] أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وأبي هريرة رضي الله عنه معًا.
[14] قال الشيخ الألباني: "ضعيف الإسناد، صحيح المعنى".
[15] المراد: أنه قد يعمل الإنسان عملًا وينتفع به غيره؛ كحجِّ الولد عن والده مثلًا.
[16] أو دعاء الملائكة كقوله عز وجل ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [غافر: 7]. [17] ثواب إهداء قراءة القرآن للميت أمر مختلف فيه بين العلماء، فلا يصح إلحاقها بثواب الصدقة أو الحج هكذا مطلقًا دون التنبيه كما فعل المصنف هنا؛ فالحنفية والحنابلة يقولون: بجواز القراءة والإهداء، والمالكية بكراهة القراءة وعدم الوصول، والمشهور من مذهبنا الشافعي: أنه لا يصل ثوابها إلى الميت، وسبب هذا الخلاف ناشئ لعدم ورود النص؛ ولأنهم - أعني: من أجاز - إنما قاسوا القراءة على الصدقة والحج، وفي نظري أن هذا قياس غير صحيح، وليس هذا مقام تحرير المسألة.
فنكتفي بما أشرنا - والله أعلم. [18] أخرجه البخاري، وقال الألباني: ولم أره في صحيح مسلم، ولا عزاه السيوطي إليه. [19] يقول بعض أهل العلم: إن هذا السبب ليس له متعلق بأي أحد، وإنما هو محض رحمة من أرحم الراحمين، أقول ولعله لذلك قال ابن أبي العز - فيما سبق: إن الأسباب عشرة.
والله أعلم. [20] بأنه من أهل الجنة.
[21] انظر: شرح الطحاوية (ص: 378). [22] انظر: أمراض القلب وشفاؤها (ص: 79)، الإيمان الأوسط (ص: 33)، والتحفة العراقية في الأعمال القلبية (ص: 20)، ومجموع الفتاوى (7/ 487)، (10/ 45)، ومنهاج السنة النبوية (4/ 325) (6/ 205)، وإعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 360).




شارك الخبر

ساهم - قرآن ١