أرشيف المقالات

الرواية بالمعنى بين المانعين والمجيزين

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
2الرواية بالمعنى بين المانعين والمجيزين
اختلف أهلُ العلم والمختصُّون من العلماء في مسألة رِواية الحديث بالمعنى إلى فريقين: فريق يرى أنَّه لا تجوز رِواية الحديث بالمعنى، وأنَّه ينبغي للرَّاوي تأدية الذي سمِعه بحروفه دون تدخُّل منه، وفريق يرى جوازَ ذلك بشروطٍ اختلفوا فيها اختلافًا بيِّنًا.   وقد استدلَّ كلُّ فريق بأدلَّةٍ عقليَّة ونقلية لتأييد مَذهبه، غير أنَّهم اتَّفقوا على أنه لا يجوز للجاهِل بمعاني المفردات والأساليب العربيَّة روايةُ الحديث على المعنى[1].   وخلاف العلماء في مَسألة الرواية بالمعنى، فيما قبل عصر التدوين، أمَّا بعد تدوين الحديث وكتابتِه في المصنَّفات، فلا خِلاف بين العلماء في عدم تجويزه.   قال ابن الصلاح: "ثُم إنَّ هذا الخلاف لا نراه جاريًا - ولا أجراه النَّاسُ فيما نعلمُ - فيما تضمَّنَته بُطون الكُتب، فليس لأحدٍ أن يُغيِّر لفظَ شيءٍ من كتابٍ مُصنَّفٍ، ويُثبت بدله فيه لفظًا آخر بمعناه؛ فإنَّ الرِّواية بالمعنى رخَّص فيها مَن رخَّص؛ لما كان عليهم في ضبط الألفاظ والجُمود عليها من الحرج والنَّصَب، وذلك غيرُ موجودٍ فيما اشتملَت عليه بطونُ الأوراق والكُتب، ولأنَّه إن ملك تغيير اللَّفظ، فليس يملكُ تغيير تصنيف غيره، والله أعلم"[2]؛ إذًا الكلام وخِلاف العلماء فيما قَبل التصنيف، أمَّا بعده، فلا.   أولًا: مَن منع رواية الحديث بالمعنى، وأدلَّتهم: ذهبت طائفةٌ من المُحدِّثين والفُقهاء والأُصوليين من الشَّافعية وغيرهم، إلى مَنع الرواية بالمعنى مطلقًا، قال القُرطبيُّ: وهو الصَّحيحُ من مذهب مالكٍ، حتى إنَّ بعض مَن ذهب لهذا شدَّد فيه أكثرَ التَّشديد، فلم يُجز تقديمَ كلمةٍ على كلمةٍ، وحرفٍ على آخر، ولا إبدال حرفٍ بآخر، ولا زيادة حرفٍ ولا حذفه، فضلًا عن أكثر، ولا تخفيف ثقيلٍ، ولا تثقيل خفيفٍ، ولا رفع منصوبٍ، ولا نصب مجرورٍ أو مرفوعٍ، ولو لم يتغيَّر المعنى في ذلك كله، بل اقتصر بعضُهم على اللَّفظ ولو خالَف اللُّغةَ الفصيحة[3].   وهؤلاء مع منعهم رِواية الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمعنى، فقد أجازوا الروايةَ بالمعنى عن غيره، وهو مرويٌّ عن مالك بن أنسٍ، يقولُ: "ما كان من حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فلا تَعْدُ اللَّفظ، وما كان عن غيره فأصبتَ المعنى، فلا بأس"[4].   ومثل هذا التشدُّد مروي عن بعض الصَّحابة؛ كابن عمر، كان "إذا سمِع الحديثَ لم يزِد فيه ولم ينقُص منه، ولم يُجاوزه ولم يقصُر عنه"[5]، بل كان ينكِر ويشدِّد على مَن بدَّل كلمة بكلمة؛ مثل إنكاره على عُبيد بن عُميرٍ، وهو يقُصُّ يقولُ: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مثلُ المُنافق مثلُ الشَّاة الرَّابضة بين الغنمين))، فقال ابنُ عمر: ويلَكم لا تكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، إنَّما قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مثل المُنافِق مثلُ الشَّاة العائرة بين الغنَمين))[6]، ومروي عن عمر: "مَن سمع حديثًا فحدَّث به كما سمِع، فقد سَلم"[7].   أدلَّتهم في ذلك: 1- استدلَّ مَن قال بهذا بما يُروى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((نضَّر الله امرأً سمِع منَّا حديثًا، فحفِظه حتَّى يُبلِّغه غيرَه، فرُبَّ حامل فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فقهٍ ليس بفقيهٍ))[8].   2- أيضًا من أدلَّتهم توجيه النبيِّ صلى الله عليه وسلم للبراء بن عازب عندما قال: "ورسولك"، فقال له النَّبي: ((لا، ونبيك))؛ وهو ما أخرجه البخاريُّ كما سيأتي.   ثانيًا: مَن أجاز الرِّواية بالمعنى، وأدلَّتهم، وشروطهم في ذلك: جاء جواز الرِّواية عن كثير من السَّلَف؛ من التابعين والمحدِّثين، قال الترمذي: "فأما مَن أقام الإسناد وحفظه، وغيَّر اللفظ، فإنَّ هذا واسِع عند أهل العلم إذا لم يتغيَّر به المعنى"[9]، وساق عدَّةَ آثار في ذلك؛ فعن واثِلَة بن الأسقع قال: "إذا حدَّثناكم على المعنى، فحسبكم"، وعن ابن سيرين: "كنتُ أسمع من عشرةٍ اللَّفظ مختلف والمعنى واحد"، وعن وكيع: "إن لم يكن المعنى واسعًا، فقد هلَك الناس"[10].   قال ابن رجب معلِّقًا وشارحًا كلامَ الترمذي: "ومقصود التِّرمذي رحمه الله بهذا الفَصل الذي ذكَره هنا أنَّ مَن أقام الأسانيد وحفظها، وغيَّر المتونَ تغييرًا لا يغيِّر المعنى - أنه حافِظ ثِقة يعتبر بحديثه، وبنى ذلك على أنَّ رواية الحديث بالمعنى جائزة...، وكلامه يشعر بأنه إجماع؛ وليس كذلك، بل هو قول كثيرٍ من العلماء، ونصَّ عليه أحمد، وقال: (ما زال الحفَّاظ يحدِّثون بالمعنى)"[11].   أدلتهم في ذلك: 1- استدلَّ بما روي عن الحسن أنَّه استدلَّ لذلك بأنَّ الله يقصُّ قصصَ القرون السالفة بغير لغاتها.   2- أيضًا بما روي عن بعض الصَّحابة؛ كما قال زرارة بن أوفى: "لقيت عدَّةً من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا عليَّ في اللفظ، واجتمعوا في المعنى".   3- وبما روي عن ابن مسعود وأبي الدرداء وأنسٍ أنهم كانوا يحدِّثون عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمَّ يقولون: "أو نحو هذا، أو شبهه"، وكان أنس يقول: "أو كما قال"[12].   • شروط الرواية بالمعنى: شروط الرِّواية بالمعنى منها ما يتعلَّق بالراوي، ومنها ما يتعلق بالرِّواية. أ- أمَّا الشروط التي تتعلق بالراوي، فهي: 1- أن يكون عالمًا بلغات العرب، بصيرًا بالمعاني، عالمًا بما يحيل المعنى وما لا يحيله[13].   2- ألَّا يكون الراوي حافظًا للفظ الحديث حين أدائه له، ولكنه عالم بفحواه، مستحضر لمعناه، قال الماوردي: "والذي أراه أنَّه إن كان يحفظ اللفظَ لم يجز أن يرويه بغير ألفاظه؛ لأنَّ في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من الفصاحَة ما لا يوجد في كلام غيرِه، وإن لم يَحفظ اللفظَ جاز أن يورد معناه بغير لفظِه؛ لأنَّ الراوي قد تحمَّل أمرين اللفظ والمعنى؛ فإن قدر عليهما لزمَه أداؤهما، وإن عجز عن اللَّفظ وقدر على المعنى لزمه أداؤه؛ لئلَّا يكون مقصِّرًا في نقل ما تحمَّل، فربما تعلَّق بالمعنى من الأحكام ما لا يجوز أن يَكتمه، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [البقرة: 283].   قال الحافظ العراقي في ألفيَّته[14]: وليروِ بالألفاظ مَن لا يعلمُ مدلولَها وغيرُه فالمُعظمُ أجاز بالمعنى وقيل: لا الخبر والشَّيخُ في التَّصنيف قطعًا قد حظَر وليقُل الرَّاوي بمعنًى أو كما قال ونحوه كشكٍّ أُبهما   ب - الشروط التي تتعلق بالرواية: 1- ألَّا يجعل الحلال حرامًا أو الحرامَ حلالًا، قال عبدُالله بنُ عُبيد بن عُميرٍ: "هي واحدةٌ، إذا لم تجعل الحرامَ حلالًا والحلالَ حرامًا، فلا يضُرُّك أن قدَّمت شيئًا أو أخَّرته، فهو واحدٌ"، فالمهم أن يحافِظ على معنى الحديث، ومراد النَّبي صلى الله عليه وسلم.   2- أن تكون قبل عَصر التدوين، أمَّا بعده فلا، وأن تكون مما نقل شفاهة؛ كما مرَّ من قول ابن الصلاح.   3- ألَّا تكون في النصوص التوقيفيَّة والألفاظ التعبُّدية؛ كالأذكار مثلًا، وهذا فيما جاء في الصَّحيح عن البراء بن عازبٍ، قال: قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إذا أتيتَ مضجعك، فتوضَّأ وُضوءك للصَّلاة، ثُم اضطجع على شقِّك الأيمن، ثم قُل: اللهمَّ أسلمتُ وجهي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلَّا إليك، اللهمَّ آمنتُ بكتابك الَّذي أنزلت، وبنبيِّك الَّذي أرسلت؛ فإن مُتَّ من ليلتك، فأنت على الفِطرة، واجعلهنَّ آخرَ ما تتكلَّمُ به))، قال: فرددتُها على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلمَّا بلغتُ: اللهمَّ آمنتُ بكتابك الَّذي أنزلت، قُلتُ: ورسولك، قال: ((لا، ونبيِّك الَّذي أرسلتَ))[15]، فأخذ من هذا عدم جواز الرِّواية بالمعنى في النصوص التعبُّدية.   • بعد النَّظر في هذه الآراء، نرى جوازَ الرِّواية بالمعنى، بل هو ما تقوم عليه الأدلَّة، ولا أدل على جوازه من وقوعه وحصوله، ولكن بالشروط التي ذكرها العلماءُ التي يجب أن تتوفَّر في الرَّاوي والمروي، وأداء الرِّواية وتبليغها يكون بالمعنى كما يكون باللَّفظ؛ ولهذا مَن بلَّغ الرواية بمعناها يكون قد أدَّى ما سمِع إذا قامت المعاني مقام الألفاظ، بخلاف ألفاظ التعبُّد؛ فقد شرَط مَن أجاز الرِّوايةَ بالمعنى ألا تكون من ألفاظ التعبُّد؛ نحو ألفاظ الأذكار.   ولهذا؛ فرأيُ من أجاز الرِّوايةَ بالمعنى هو الرأي الرَّاجح والمعول عليه.


[1] انظر: "شرح علل الترمذي"؛ لابن رجب الحنبلي (1/ 145)، و"تدريب الراوي"؛ للسيوطي (2 / 98)، و"توجيه النظر إلى أصول الأثر"؛ لطاهر الجزائري (2/ 671). [2] ابن الصلاح، أبو عمرو عثمان بن عبدالرحمن (ت: 643 هـ)، معرفة أنواع علوم الحديث، نشر: دار الفكر - سوريا، دار الفكر المعاصر - بيروت، سنة النشر: 1406هـ - 1986م، تحقيق: نور الدين عتر، ص (214). [3] انظر: "فتح المغيث بشرح ألفية الحديث"؛ للسخاوي، شمس الدين أبي الخير محمد بن عبدالرحمن بن محمد بن أبي بكر (المتوفى: 902هـ)، الناشر: مكتبة السنة - مصر، الطبعة: الأولى، 1424هـ / 2003م، ت: علي حسين علي، ج (3)، ص (140). [4] البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب (المتوفى: 463هـ)، الكفاية في علم الرواية، المكتبة العلمية - المدينة المنورة، (بلا سنة نشر) تحقيق: أبي عبدالله السورقي وإبراهيم حمدي المدني (ص 188). [5] البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب (المتوفى: 463هـ)، الكفاية في علم الرواية، المكتبة العلمية - المدينة المنورة، (بلا سنة نشر) تحقيق: أبي عبدالله السورقي وإبراهيم حمدي المدني (ص 171). [6] السابق ص 173. [7] السابق، ص 172. [8] أخرجه الترمذي، محمد بن عيسى (ت: 279 هـ) باب ما جاء في الحثِّ على تبليغ السماع، (ج 5، ص 33)، حديث رقم (2656)، تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر وآخرين، الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر، الطبعة: الثانية، 1395 هـ - 1975م. [9] ابن رجب، زين الدين أبو الفرج عبدالرحمن بن أحمد البغدادي الحنبلي، (ت: 795 هـ)، شرح علل الترمذي، دار السلام، ط: 2، 2014 م، ت: نور الدين عتر، (ج 1، ص 145). [10] السابق، ص 145، وما بعدها. [11] السابق، ص (147). [12] السابق ص (149)، وانظر: الكفاية في علم الرواية ص (203)، وما بعدها. [13] ابن رجب، زين الدين أبو الفرج عبدالرحمن بن أحمد البغدادي الحنبلي، (ت: 795 هـ) شرح علل الترمذي، دار السلام، ط: 2 - 2014 م، ت: نور الدين عتر، (ج 1، ص 147). [14] السخاوي، شمس الدين أبو الخير محمد بن عبدالرحمن بن محمد بن أبي بكر (المتوفى: 902هـ): فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي، الناشر: مكتبة السنة - مصر، الطبعة: الأولى، 1424هـ / 2003م، ت: علي حسين علي، (ج 3، ص 137). [15] أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب فضل من بات على الوضوء، (ج 1، ص 58)، رقم (247)، ت: محمد زهير بن ناصر الناصر، نشر: دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422هـ.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢