أرشيف المقالات

الأصلد العرضوم

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2الأصلد العرضوم
  بسم الله، والحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعدُ: فإنَّ من الصِّفات القبيحة التي يتَّصف بها بعض الأصدقاء صفة: (البخل)، وللأسف نحن في زمان كَثُر فيه البخلاء الذين لا يَعرفون للكرم طريقًا، ولا يَهتدون إليه سبيلًا.   ومما يبيِّن قبحَ صِفة البخل كثرةُ الأسماء التي أوردَتْها العرب عليه؛ فقد ورد ما يزيد على خمسين اسمًا، ومن أسماء البخيل: • (الأَصْلَدُ) و(العُرْضُومُ). • البخل لغة: منعٌ وإمساك، وهو ضدُّ الكَرم والجود، مصدر بَخِل يَبْخَل بَخلًا وبُخْلًا، ورجلٌ بَخيلٌ وبَخَّالٌ ومُبَخَّلٌ، والبَخْلَةُ: بُخْلُ مرَّةٍ واحدة، وجمع البخيل: بُخَلاء، ورَجلٌ باخلٌ: ذُو بُخْلٍ، ورِجَالٌ بَاخِلُون، وأبْخلْتُ فلانًا: وَجَدْتُه بخيلًا، وبَخَّلْتُ فُلانًا: نَسَبْتُه إلى البخل[1]، والشُّحُّ: هو البُخْل مع الحِرْص، ويُقَال: تَشَاحَّ الرَّجُلانِ على الأمر؛ إذا أراد كُلُّ واحدٍ منهما الفَوزَ به ومنْعَه من صاحبه[2]، وقيل: البخل هو نفس المنع، والشُّحُّ: الحالة النفسية التي تقتضي ذلك المنع[3].   البخل من الصِّفات المذمومة التي ذمَّها الله في كتابه العزيز، قال تعالى: ﴿ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ﴾ [الأحزاب: 19]. قال ابن كثير: "وهم مع ذلك أشحَّة على الخير؛ أي: ليس فيهم خير، قد جمعوا الجبن والكذب وقلَّة الخير"[4].   قال سبحانه: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 180].   قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: "أي: ولا يظن الذين يَبخلون؛ أي: يمنعون ما عندهم ممَّا آتاهم الله من فضله من المال، والجاه، والعلم...
وغير ذلك ممَّا منحهم الله وأحسن إليهم به، وأمرهم ببَذل ما لا يضرهم منه لعباده، فبخلوا بذلك وأمسكوه وضنوا به على عباد الله، وظنوا أنَّه خير لهم؛ بل هو شرٌّ لهم في دينهم ودنياهم، وعاجلهم وآجلهم"[5].   وقال تعالى: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 128]. قال السعدي: (اعلم أنَّ كلَّ حكم من الأحكام لا يتمُّ ولا يكمل إلَّا بوجود مقتضيه وانتفاء موانعه؛ فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصُّلح، فذكر تعالى المقتضي لذلك، ونبَّه على أنَّه خير، والخير كلُّ عاقل يَطلبه ويرغب فيه؛ فإن كان - مع ذلك - قد أمر الله به وحثَّ عليه، ازداد المؤمن طلبًا له ورغبة فيه، وذكر المانعَ بقوله: ﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾ [النساء: 128]؛ أي: جُبلَت النفوس على الشحِّ، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحقِّ الذي له، فالنفوس مجبولة على ذلك طبعًا؛ أي: فينبغي لكم أن تَحرصوا على قلع هذا الخُلق الدنيء من نفوسكم، وتستبدلوا به ضدَّه، وهو السماحة، وهو بَذل الحقِّ الذي عليك، والاقتناع ببعض الحقِّ الذي لك، فمتى وُفِّق الإنسان لهذا الخلق الحسن، سَهل حينئذٍ عليه الصلح بينه وبين خصمه ومعامله، وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب، بخلاف مَن لم يجتهد في إزالة الشح من نفسه؛ فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة؛ لأنَّه لا يرضيه إلَّا جميع ماله، ولا يرضى أن يؤدِّي ما عليه؛ فإن كان خصمه مثله، اشتدَّ الأمر)[6].   وقد ورد النَّهي والذم عن هذه الصِّفة في السنة النبوية، ومن ذلك: • عن أنس بن مالك، قال: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهمَّ إني أعوذ بك من الهمِّ والحزن، والعجزِ والكسَل، والجبنِ والبخل، وضَلَع الدَّين، وغلَبةِ الرجال))[7].   قال ابن حجر: "وفيه ذم الخِصال المذكورة، وهي: البخل، والكذب، والجبن، وأن إمام المسلمين لا يَصلح أن يكون فيه خصلة منها"[8].   فالشخص البخيل دائمًا يفكِّر في نفسه فقط، منغلق على نفسه، لا يحبُّ نفع الآخرين؛ ولذا يَلجأ إلى الهرب عندما يرى أنَّ شخصًا ما يحتاجه، لا يقدِّم منفعة، لا يساعِد أحدًا أبدًا، إذا رأى فقيرًا محتاجًا يبتعد عنه ولا يعطيه، والأدهى والأمَرُّ أنَّه قد يمنع غيره من الإنفاق على ذاك المحتاج؛ لظنِّه السيئ فيه، فيمنع نفسه وغيرَه من الإنفاق وتقديمِ المساعدة لِمن هو في حاجة إليها.   قال ابن مفلح رحمه الله: "عجبًا للبخيل المتعجِّل للفقر الذي منه هرب، والمؤخِّر للسَّعة التي إيَّاها طلَب، ولعلَّه يموت بين هربه وطلبه، فيكون عيشه في الدنيا عيش الفقراء، وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء، مع أنك لم ترَ بخيلًا إلا غيره أسعد بمالِه منه؛ لأنه في الدنيا مُهتمٌّ بجمعه، وفي الآخرة آثِم بمنعه، وغيره آمِن في الدنيا من همِّه، وناجٍ في الآخرة من إثمه"[9].   قال ابن قدامة المقدسي: (وأشد درجات البخل أن يَبخل الإنسان على نفسه مع الحاجَة، فكم من بخيل يمسِك المال، ويَمرض فلا يتداوى! ويشتهي الشهوةَ فيمنعه منها البخل، فكم بين مَن يبخل على نفسه مع الحاجة، وبين من يؤثِر على نفسه مع الحاجة؟! فالأخلاق عطايا يَضعها الله عزَّ وجلَّ حيث يشاء)[10].   • وأنواع البخل كثيرة، فمنها: بخلٌ بالمال، أو الجسد، أو العلم، أو الجاه، أو السلام، أو الصَّلاة على النبي صلى اللهُ عليه وسلم. وقد وردَت بذلك نصوص كثيرة؛ منها ما رواه البيهقي في شُعب الإيمان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ أعجز النَّاس مَن عجز في الدُّعاء، وإنَّ أبخل النَّاس من بخل بالسَّلام))[11].   وقال الماوردي: (الحرص والشحُّ أصل لكلِّ ذَم، وسبب لكلِّ لؤم؛ لأنَّ الشحَّ يمنع من أداء الحقوق، ويبعث على القطيعة والعقوق)[12].   ♦ أسباب الوقوع في الشح والبخل: 1 - ضعف إيمان البخيل وسوء ظنِّه بالله، فهو يَستثقل أمرَ الإنفاق، ويغفل عن تعويض الله له على ما أنفق، كما أنَّه يغيب عنه أنَّ هذا المال هو مال الله، وأنَّه لم يأتِ إلى الدُّنيا وبيده شيء منه. 2 - الظلم سبب آخر من أسباب البخل؛ حيث يَنتج عنه تعطيل لحقوق الآخرين. 3 - حب المال والتعلُّق به يورث هذه الصِّفة الدنيئة، والسجية القبيحة. 4 - الظنُّ بأنَّ البخل نوع من الذَّكاء والفِطنة والتدبير لأمور الدنيا. 5 - الخوف من المستقبل، والهلع من الفقر والحاجة التي يَعِد بها الشيطان الرجيم. 6 - الخوف على الأبناء؛ فالأبناء مَبخلة مَجبنة. 7 - النَّشأة والتربية؛ فقد يَنشأ الشخص بين والدَين بخيلين، أو مجتمعٍ يتَّصف بالبخل؛ فيتشرَّب هذه الصفة ممن حوله، وتصبح سجيَّة له. 8 - عدم استشعار ما ينتظر البخيل من العقوبة يوم القيامة. 9 - الغفلة عن الأجور المترتبة على الإنفاق، والقيام بالحقوق الواجبة. 10 - طول الأمل، والتشبُّث بالحياة[13].   ♦ الوسائل المعينة على ترك البخل والشح: 1 - أن يحسن المرء الظنَّ بالله عزَّ وجل. 2 - الإكثار من الصدقة. 3 - الاستعاذة بالله من البخل والشح. 4 - التأمُّل في حال البخلاء الذين تَعبوا في جَمع المال، والحِرصِ عليه، ثمَّ تَرْكهم له يتقاسمه الورثة، وربَّما استخدموه في غير طاعة الله، فكان وَبالًا عليهم. 5 - التأمُّل في الآيات الواردة في ذمِّ البخل، وما أعدَّه الله للمتَّصفين بهذه الصفة القبيحة. 6 - صرف القلب إلى عبادة المولى تبارك وتعالى؛ حتى لا ينشغِل بعبادة المال والحرص عليه. 7 - معرفة أن المستقبل بيَد الله، إن شاء أغناك، وإن شاء أفقرك، وإن كنت أحرص الناس. 8 - عدم الخوف على مستقبل الأبناء، والتيقُّن أنَّ مَن خلَقهم قد خلَق أرزاقهم معهم، ولن يضيِّعهم، فكم من ولد لم يرث من والده مالًا صار أحسن حالًا ممَّن ورث الأموال الطائلة! 9 - علاج القَلب بكثرة التأمُّل في الأخبار الواردة في ذمِّ البخل، ومدح السخاء، وما توعَّد الله به البخيل من العِقاب العظيم. 10 - التأمُّل في أحوال البخلاء، ونفرة الطبع منهم، وبغض الناس لهم، وبقاء الذِّكر السيِّئ من بعدهم[14].   وصدَق الشاعر حينما قال: إِذَا جَادَتِ الدُّنيَا عَلَيْكَ فَجُدْ بِهَا عَلَى النَّاسِ طُرًّا إِنَّهَا تَتَقَلَّبُ فَلَا الجُودُ يُفْنِيهَا إِذَا هِيَ أَقْبَلَتْ وَلَا البُخلُ يُبقِيهَا إِذَا هِيَ تَذهَبُ   وقال إسحاق الموصلي: وآمرة بالبخلِ قلتُ لها: اقصري فليس إلى ما تأمرين سبيلُ أرى الناسَ خلانَ الجوادِ ولا أرى بخيلًا له في العالمين خليلُ ومن خيرِ حالاتِ الفتى لو علمته إذا قال شيئًا أن يكون ينيلُ فإني رأيتُ البخلَ يُزري بأهلِه فأكرمتُ نفسي أن يُقالَ: بخيلُ عطائي عطاءُ المكثرين تجمُّلًا ومالي كما قد تعلمين قليلُ


[1] انظر: معجم مقاييس اللغة (1/ 207)، مختار الصحاح ص (73)، لسان العرب (11/ 47). [2] انظر: معجم مقاييس اللغة (3/ 178). [3] انظر: الكليات لأبي البقاء ص (361). [4] تفسير القرآن العظيم (6/ 391). [5] "تفسير السعدي" (ص141). [6] المصدر السابق: (ص 206). [7] "صحيح البخاري" (برقم 3148). [8] "فتح الباري" (6 / 254). [9] "الآداب الشرعية" (3 / 318). [10] مختصر منهاج القاصدين (ص 265). [11] "شعب الإيمان" (13 / 22) (برقم 8392)، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (برقم 601)، ورجَّح بعضهم وقفه. [12] أدب الدنيا والدين (ص 224). [13] انظر: الدرر السنية - موسوعة الأخلاق. [14] المصدر السابق.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ١