أشفق على المغرضين
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
أَشفِق على المغرضينتمتلئ الحياةُ بأضدادٍ وتناقُضاتٍ لا يَملِك المرءُ حصرَها، ولا تلخيصَها في مقالة واحدة، ولا حتى بحَفنة كتبٍ، أو بأكوام من المجلدات؛ فالحياةُ كبحرٍ واسعٍ، فيه كلُّ أنواع الأسماك والحشائش والمخلوقات المتعددة الأنواع، فيها المفيدُ وفيها الضارُّ، فيها الخبيث وفيها الحميد، فيها القبيح وفيها الجميل، فيها الخيِّر وفيها الشرِّير، فيها القوي وفيها الضَّعيف، وما بين الثنائيَّات تجد دائمًا تدرُّجاتٍ متعددةً من التعدُّدات والشواذِّ التي تنسحب وتتولَّد بحسب الظروف والأحوال التي يعيشها كلُّ إنسان كحالة تُمثِّل نفسها.
وفي الحياة، علينا أن نتعلَّم تقبُّل وجود كل هذه التبايُنات والتدرُّجات والحالات، سواء المرضية منها أو المنفِّرة - بغَضِّ النظر عن محاولة نُصْحِها أو علاجِها، فبعضُها ميؤوسٌ منه - ففي كلا الحالتين، تلك الشخصيات على تعدُّدها وتناقُضِها وتبايُناتها وشواذِّ بعضها، وُجِدتْ لتختبر صبرَنا وحُسْن احتمالنا، وانبثَقت بقدرٍ بالغٍ الإحكام من لدن عليم خبير يودُّ لنا أن نتعلَّم من شتَّى التجارب والخبرات، سواء الإيجابي المفرح منها أو السلبي المحبِط.
فإن كنت تتألَّم عند التقائك ببعض الشخصيات القبيحة المنفِّرة، الفاشلة المغمورة في الحياة - رغم كل محاولاتها للظهور والاشتهار، ولو على حساب الدين والتنازُل عن كل مبدأ وخُلق وقيمة - وإن كانت تَصدمك بعض النفسيَّات المغرضة التي لا هَمَّ لها إلا إيذاءُ الناس والتحريشُ فيما بينهم، والتربُّص بهم، وانتظار الأذى أن يحلَّ بهم لتشمت وتَطمئن، وإن كان يَسوؤك أن ترى تلك الفئة الطفيليَّة الحاسدة من البشر التي لو تسنَّى لها سَلْبُ أنفاسِكَ وقَطْعُ ورِيدك، وإسكات نبضات قلبك - لَما تردَّدت، إن كنت حقًّا تُستفَزُّ من هذه الشخصيات المريضة القَلِقة الميؤوس من حالها، التي يستفزُّها فرحُ الناس ونجاحُهم وسعادتُهم، واطمئنانهم وغِبْطتُهم، وكونُهم محاطين بقلوب محبَّة تُعجَبُ بهم، وتَمتدح فيهم ما يستحق الثناء، فأنت لم تفهَم حقيقة الحياة بعدُ.
ولا أُخفِيكَ سِرًّا أني كنتُ في السابق أتضايق من بعض هذه الشخصيات المزعجة، الممتلئة بشهوة الشرِّ، التي تَحور وتدور لتُمسك لنا خيطًا من خيوط الأذى، وتَسحَبه وتَكُرُّه بمكر وخُبْث وسفاهةٍ؛ حتى تُوقِعنا في وَحْل مكائدها، وتتابُع شريط حياتنا بأدقِّ حذافيره، وتتربَّص وتُتابع أدقَّ تفاصيل تفاصيلنا، وتُراقِبُ بحِقْدٍ وتألُّمٍ وعذابٍ وغيظٍ حياتَنا، وحياةَ أقربائنا وعوائلنا وأبنائنا، وعددَهم وأسماءَهم، وفصول أفراحهم وأتراحهم، ونشاطاتهم ومأكلهم ومشربهم؛ بل تُراقِب حتى أعداءَنا الذين كانوا أصدقاءنا يومًا ما، والذين ربما لم نفقدهم إلَّا بفضل سهمٍ من سهام حَسَدٍ تَطايَرَ من عينها الخارقة الحاسدة، وشرارة مُحرقة انطلقتْ مِن قلبها الأسود المُفحم المحترق بنار غِلِّه، الذي لا همَّ له في الحياة إلا إسقاط الآخرين، أو تمنِّي هلاكهم، ورمْيهم بحجارة الحِقْد والبغضاء؛ حتى يَنسحبوا ويتراجعوا ويتوقَّفُوا عن كونهم جميلين ورائعين، ومميَّزين ومُنتجين!
كنتُ في السابق أتألَّم فِعْلًا من هذه الفئة المهزوزة المستفزَّة، النرجسية المتوتِّرة، المحبَّة لاحتكار الأضواء والتفرُّد بالتميُّز ولَفْتِ الانتباه، وكنتُ أعتبرها كالحشرات الضارَّة التي تُزعِج مَنْ حولها، وتُؤذِي دون أن تأتيَ بشيء نافع؛ لكني بعد خبرة أعوام وتجارب طويلة في الحياة، أيقنتُ أن هذه الفئة أَوْلى بالشفقة من النَّبْذ والاحتقار أو النفور؛ فقد عرَفْتُ مع مرور الوقت أنها فئة فاقدةٌ للثقة بالنفس، فقدراتُها محدودةٌ، وطاقاتُها مبدَّدةٌ بالأذيَّة والتربُّص، ولا قدرة لها على تجميع هذه الطاقة لصُنْع إنجازٍ بالمعنى الحقيقي المتقَن؛ لذا ترى معظم أفراد هذه الفئة مشغولين بسرقة إنجازات الآخرين، ونِسْبتها لأنفسهم؛ بل تراهم لا يتوانون حتى عن سرقة كتاب كامل مع عنوانه من كُتَّاب غربيِّين لمجرد كونهم فاقدين للثقة بكل ما عندهم، وما يمثِّلهم من دينٍ ولُغةٍ وشِرْعةٍ وأعرافٍ، وتقاليدَ وانتماءاتٍ وتوجُّهات، لم يُقدِّروها حَقَّ قَدْرِها، ولا غرابة فكيف يثق بأسباب تقدُّمه وفلاحه وفوزه مَنْ لا يثق بنفسه ابتداءً؟!
وترى مِن ضمن هذه الفئة أصحابَ النفوس المتشبِّعة بحُبِّ التنافُس غير الشريف، وهوس المقارنات ووسواس التسابُق القهري، وتجد منها أيضًا ذاك الذي لو نطَقت أمامه باسم حُلمك قبل أن تُقْدِم على تحقيقه، لسَبقك إليه، وسرَقه من بين شفاهِكَ، ولو كان لا يعني له شيئًا، سوى أنه وصل إليه قبلَك، وأخذه من بين يديك ليردعَكَ عن تحقيقه.
أدركت بعدها أن هذه الفئة فاقدةٌ للسعادة بكل معانيها، وهذا ما فسَّر لي بعد ذلك انكبابَها على قراءة بعض كتب التنمية البشرية التي تُوهِم بالسعادة والثراء والغِنى والنجاح الذي لا يقدِر الفاشلُ والجاهلُ والتافِهُ على لمسه حتى في عالم الأوهام.
وفهِمتُ أيضًا أنها فئةٌ مسلوبةُ الإرادة، مشلولةُ اليقين، مُساقةٌ بسياط الشهوة والشُّبْهة والنزوات، تجري في فيافي الحياة وما بين قِفارها جرْيَ البهيمة التي لا تدري لها محطَّةً للوصول، ولا تُدرك لها مُستقَرًّا، ولا تفهَم من أين جاءت، أو إلى أين ستصل، فهي فئةٌ التذبذُبُ دَيْدَنُها؛ لذا تراها تميل غالبًا إلى تقليب رأيها وتغييره وتعدُّده، وتبحث دومًا عن تحليلات وتفسيرات جديدة سطحيَّة عند مفكِّرين تافهين لا عقل لهم ولا دين ولا خشية، وعن تشريع مُضلِّلٍ جاهلٍ يُخرِجها عن كلِّ التزام فرضَه اللهُ، ويُعطيها الحقَّ في الاجتهاد والتفكير الحُرِّ والتحديث المستهام، وإن كانت لا تملِك أدنى درجات القدرة على الإحاطة بقوانين الإملاء والتعبير، وأبسط قواعد النحو! وتجدها تَميل دومًا لمن يُوهِمُها بالحرية والتحضُّر؛ لأنها تفتقِدُ هذين الفعلين في قرارة نفسها الفاقدة لعنصر الرُّوح الأساسي الذي بدونه لا يتحرَّر المرء، ولا يتخطَّى حدودَ لذَّته وشهوته والهوى والمادة، وتقديسه لنفسه وذاته.
ثم وجدت تلك الفئة غائصةً في بحرٍ من الانفصام والتناقُض وعدم الاتِّساق؛ إذ تراها تارةً تنتقد الإعلام وتأثيره السيئ الذي يلعب على وَتَر الشهوات، وتعترف بانحطاط المستوى المعروض للجمهور، الذي يهدف إلى سَوق الناس، ثم تُفاجَأ بعد هذا فتجدها تُمجِّد الموسيقا والأغنيات المنحطَّة، وتعرض مقاطع العُري والمجون الذي كانت تنتقده، مُسَوِّقةً إيَّاه في صفحاتها وحياتها، ومُشجِّعةً الآخرين عليه، وتجدها لا تتوانى عن عرض صور السافرات، ووضعها صورةً شخصية تُمثِّلها وتتمثَّلها، وكأنَّ الأمور مُفكَّكة في فِكْرها، ولا علاقة للقول بالفعل أو التطبيق، ولا للموقف بالجد أو التحقيق، أو العمل الذي يصدِّق الإيمان أو ينفيه.
فلم أعُد بعد رؤيتي الكاملة وإلمامي بكامل جوانب الصورة المائلة هذه - أستغرب أو أَنفِرُ، بل صار عندي ميلٌ للتعاطُف مع هذه الفئة، ولا سيَّما أني لمستُ حاجتها الكبيرة لمن يُعطيها الاهتمام والتقدير الذي تفتقده في قرارة ذاتها، والثقة المنعدمة التي تُفتِّش عنها، وتبحث عنها عبثًا بين كتب علم النفس والتنمية البشرية، فلا تزيدها إلَّا ضياعًا، فالثقة والسعادة لا تستمدُّ من الأشياء السطحيَّة البالية الخالية من القيمةِ والجوهر؛ إنما هي دَفْقٌ ينبُع من قلب المؤمن المستيقن بالله ودينه، ويتلخَّص في احترامه لنفسه ولغيره، واقتناعه بما أعطاه الله، واكتشافه لما يُميِّزه بعيدًا عن تقليد الآخرين ونسخهم، ومحاولة رَصْد تحرُّكاتهم وأقوالهم وتوجُّهاتهم وميولهم التي تُلائم طِباعَهم التي فطَرهم الله عليها، ثم بعد ذلك تسليمه لله ورضاه بقَدَره وقضائه، وحبه للنفع وتمني الخير للآخرين.
من هنا فكَّرتُ مرة في فكرة رائعة، وهي أن أتصدَّقَ على كل واحد من هؤلاء المذبذبين الحيارى التائهين، الباحثين أبدًا عن الوعي والنُّضْج في عالم من الغفلة والتفاهة والضياع، والجهل والتخلُّف والوَهْم، والتفلُّت والتسيُّب، واضمحلال العقل وتقلُّص مساحته، بدعاء ربما يكون لهم مُنجيًا ومُخلِّصًا، لم أعد أُصْدَم من تصرُّفاتهم الغريبة الهجينة، وعداواتهم الفاضحة، وكرههم الأعمى الذي يتخطَّى الأُطُر، ويجتاز كل الحدود، مدمِّرًا نفسَه قبلَ غيره، لم أعد أستغرب تصرُّفاتهم الصِّبيانيَّة السخيفة والمغرضة التي تستهدف استفزاز الآخرين، وتفجير غضبهم؛ ليُخرِجوا أسوأ ما فيهم، لم أعُدْ أستغرب انحطاط أخلاقهم، ولا سوءَ بواطنهم، ولا سوادَ نواياهم، لم أعد أستغرب تلك التُّهَم التافهةَ التي تُمثِّلهم، ويُلصقونها بالآخرين؛ ليُبرِّؤوا أنفسهم من إثْمِها الذي يَنضِحُ منهم ويُحاصِرهم، ويُشير إليهم بالإصبع مادًّا لسانَه فاضحًا ساخرًا، لم أعد أستغرب سُخْريَّتَهم ولُؤْمَهم وقُبْحَ طواياهم، ورصدَهم للمشاكل والعيوب والزلَّات، وهَمْزهم ولَمْزهم السخيف، الذي يدلُّ على شُحِّ إيمانهم، وانعدام خوفهم من الله، وقلَّة نُضْجِهم، واختلال توازنهم النفسي المترجم بجريهم خلف البحث عن فحوى الذات التي أضاعوا بُوصْلتَها إبَّان جريهم وراءَ الضغائن والحسد والغيرة، وكبائر الآثام التي حذَّر الله منها عبادَه.
أكتفي اليوم بالتطلُّع صوبَ هؤلاء برحمةٍ وعطفٍ وشفقة، وطَبْع ابتسامة واسعة على صفحة وجهي الآمن المطمئن، الذي تدفَّقَتْ منه السعادةُ الإيمانيةُ الحقَّةُ، وتحقَّقَتْ في باطنه، ثم اندمجتْ بكل ملامحه؛ لتستقرَّ عليها بكل انتشاء وأريحية؛ إذ إني أوقنُ تمامَ اليقين أن عذابَ هؤلاء مرافقٌ لهم أبدَ الدهر، لا يُفارقُهم برهةً، وأن عقابهم الأكبر هو في تجاهُلنا لهم، ولضجيجهم المشتَّت المزعج، وترْكهم يموتون ببطءٍ وعلى هوادة حِقْدًا وغيظًا وكمدًا، ﴿ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ﴾ [آل عمران: 119]، فهم دون أدنى شكٍّ يحترقون بنار الغِلِّ والحسد، أفلا يَكفيهم هذا العقاب؟ بلى والله، وكفى بالحاسد عدوًّا لنفسه، وخيرَ معاقبٍ لها ومنتقمٍ منها!