أرشيف المقالات

مقاومة الصحابة رضي الله عنهم لضلال الخوارج

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
مُقاومة الصحابة رضي الله عنهم لِضَلال الخوارج
 
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
 
أمَّا بعد:
مَنْ يتتبَّع أخلاق الخوارج ومواقفهم الغليظة مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع كبار الصحابة رضي الله عنهم يتبيَّن له أنهم - في مبدئهم - كانوا من الأعراب الجفاة، الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 97].
فلا عجب أنْ يأخذوا بظواهر النصوص؛ لأنه ليس لهم نصيب من الفقه في الدِّين والتأدب بآداب الشريعة، ولو كان لهم نصيب من ذلك لاهتدوا إلى آياتٍ تأمر بالتحكيم؛ من مثلِ قوله تعالى: ﴿ فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾ [النساء: 35]، فالتحكيم مشروع بنصِّ القرآن، والحَكَمان إنما يحكمان بما أمر الله تعالى به: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59].
 
قال ابن حزم رحمه الله: (أسلاف الخوارج كانوا أعراباً قرءوا القرآن قبل أن يتفقهوا في السُّنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن فيهم أحدٌ من الفقهاء؛ لا من أصحاب ابن مسعود، ولا أصحاب عمرو، ولا أصحاب عليٍّ، ولا أصحاب عائشة، ولا أصحاب أبي موسى، ولا أصحاب معاذ بن جبل، ولا أصحاب أبي الدرداء، ولا أصحاب سلمان، ولا أصحاب زيد، وابن عباس، وابن عمر، ولهذا تجدهم يُكفِّر بعضُهم بعضاً عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها، فظهر ضعف القوم، وقوة جهلهم)[1]
 
ليس في الخوارج أحدٌ من الصحابة:
من البدهي ألاَّ يكون في الخوارج أحدٌ من الصحابة رضي الله عنهم، ولا من فقهاء التابعين؛ لأنَّ هؤلاء أهلُ علمٍ ونظرٍ وفقهٍ في الدِّين، ومن صفات الخوارج جرأتهم على النصوص، وعلى أهل العلم والكبراء، والخروج على خليفة المسلمين واتِّهامه بالكفر وقتله.
 
وممَّا يدل على أنَّ الخوارج لم يكن فيهم أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا من فقهاء التابعين؛ ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنه قال – في محاورته للخوارج: (لَمَّا اجتمعت الحروريةُ يخرجون على عليٍّ، قال: جعل يأتيه الرجلُ، فيقول: يا أمير المؤمنين! القومُ خارجون عليك.
 
قال: دعُوهم حتى يخرجوا، فلمَّا كان ذات يومٍ، قلتُ: يا أمير المؤمنين! أبرِدْ بالصلاة؛ فلا تفتني حتى آتي القوم.
قال: فدخل عليهم وهم قائلون، فإذا هم مُسْهَمةٌ[2] وجُوهُهُم من السَّهر، وقد أثَّر السجود في جباههم، كأنَّ أيديهم ثَفِنُ[3] الإبل، عليهم قمص مرحضة.
فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس! وما هذه الحُلَّة عليك؟ قال: قلتُ: ما تعيبون مني، فلقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ ما يكون من ثياب اليمنية، قال: ثم قرأتُ هذه الآية: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ [الأعراف: 32].
 
فقالوا: ما جاء بك؟ فقال: جئتُكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيكم منهم أحدٌ، ومِنْ عند ابنِ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم نزل القرآنُ، وهم أعلم بتأويله، جئتُ لأبلغكم عنهم، وأبلغهم عنكم)
[4].
وجه الدلالة: قوله: (وليس فيكم منهم - أي: الصحابة - أحدٌ).
 
وقد استنكر الشاطبي رحمه الله فِعلَ الخوارج؛ كما استنكره السلف الصالح، وردَّ عليهم قائلاً: (الاقتصار على الكتاب رأي قوم لا خلاق لهم، خارجين عن السُّنة؛ إذ عَوَّلوا على ما بنيت عليه من أنَّ الكتاب فيه بيانُ كلِّ شيء، فاطَّرحوا أحكامَ السُّنة فأداهم ذلك إلى الانخلاعِ عن الجماعة، وتأويلِ القرآن على غير ما أنزل الله)[5].
 
ثم بيَّن رحمه الله أهمية السُّنة لفهم القرآن، فيقول: (السُّنة تُوَضِّح المُجمل، وتُقيِّد المطلق، وتُخصِّص العموم، فتُخرج كثيرًا من الصيغ القرآنية عن ظاهر مفهومها في أصل اللغة، وتعلم بذلك أنَّ بيان السُّنة هو مراد الله تعالى من تلك الصِّيغ، فإذا طُرِحَتْ واتُّبِع ظاهر الصيغ بمجرد الهوى؛ صار صاحب هذا النَّظر ضالاًّ في نظره، جاهلاً بالكتاب، خابطًا في عمياء، لا يهتدي إلى الصواب فيها؛ إذ ليس للعقول من إدراك المنافع والمضار في التصرفات الدنيوية إلاَّ النَّزر اليسير، وهي في الأخروية أبعد على الجملة والتفصيل)[6].
 
مُقاومة الصحابة رضي الله عنهم لِضَلال الخوارج:
كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم بالمرصاد لضلالات الخوارج، فكانوا يكشفون ظلمتها، ويُبيِّنون عوارها، ويردون باطلها، ويُحاجوهم ويخاصموهم بالسُّنة، ومن ذلك:
1- عن عمر بن الأشج؛ أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إنَّه سيأتي ناسٌ يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسُّنن؛ فإنَّ أصحابَ السُّنن أعلم بكتاب الله)[7].
 
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ رضي الله عنه أرسله إلى الخوارج، فقال: اذهب إليهم فخاصمهم، ولا تحاجهم بالقرآن؛ فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسُّنة)[8].
 
3- عن الحسن، قال: (بينما عِمرانُ بنُ الحُصين رضي الله عنه يُحدِّث عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، إذْ قال له رجل: يا أبا نجيد! حَدِّثنا بالقرآن، فقال له عمران: أرأيتَ أنت وأصحابك تقرؤون القرآن، أكنتم مُحدِّثي؛ كم الزكاة في الذهب والإبل والبقر، وأصناف المال؟ ولقد شهدتُ وغِبتَ أنت، ثم قال: فرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة كذا وكذا، فقال الرجل: يا أبا نجيد! أحييتني أحياك اللهُ، ثم قال الحسن: فما مات ذلك الرجلُ حتى كان من فقهاء المسلمين)[9].
 
4- عن زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: (بَعَثَ إِلَيَّ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ، فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: مَا أَحَادِيثُ تُحَدِّثُهَا وَتَرْوِيهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لاَ نَجِدُهَا فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، تُحَدِّثُ أَنَّ لَهُ حَوْضًا فِي الْجَنَّةِ؟! قَالَ: قَدْ حَدَّثَنَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَوَعَدَنَاهُ.
قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ شَيْخٌ قَدْ خَرِفْتَ.
قَالَ: إِنِّي قَدْ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ جَهَنَّمَ" وَمَا كَذَبْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)
[10].
 
5- عَنْ عَلْقَمَةَ؛ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ مسعودٍ رضي الله عنه قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ، يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ.
فَقَالَ: وَمَا لِي لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ.
قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأْتِ: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7].
قَالَتْ: بَلَى.
قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ)
[11].
 



[1] الفصل في الملل والأهواء والنحل، (4/ 121).


[2] (مُسْهَمةٌ): يقال: سَهَم لونُه يسْهَم: إذا تَغيَّر عن حالِهِ لِعَارِضٍ.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، (2/ 1045).


[3] (ثَفِن): جمع ثَفِنَة بكسر الفاء، والثَّفِنَة: ما وَلِيَ الأرضَ من كلِّ ذاتِ أرْبعٍ إذا بَرَكَت؛ كالرُّكْبتين وغيرِهما، ويحصل فيه غِلَظٌ من أثَر البُروك.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، (1/ 622).


[4] رواه عبد الرزاق في (مصنفه)، (10/ 157)، (رقم 160)؛ وأحمد في (المسند) مختصراً، (1/ 86)؛ والفسوي في (المعرفة والتاريخ)، (1/ 286)؛ والحاكم في (المستدرك)، (2/ 164)، (رقم 2656)، وقال: (صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه)؛ والبيهقي في (الكبرى)، (8/ 179)، (رقم 16517)؛ وابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله)، واللفظ له، (2/ 126)؛ وأورده الهيثمي في (مجمع الزوائد)، (6/ 239).
وقال: (رواه الطبراني، وأحمد بعضه، ورجالهما رجال الصحيح).


[5] الموافقات، (4/ 325، 326).


[6] الموافقات، (4/ 334).


[7] رواه الدارمي في (سننه)، (1/ 62)، (رقم 11)؛ والآجري في (الشريعة)، (1/ 409)، (رقم 93).


[8] مفتاح الجنة، للسيوطي (ص 59).


[9] رواه الطبراني في (الكبير)، (18/ 165)، (رقم 369)، والحاكم في (المستدرك)، (1/ 192)، (رقم 372)؛ والهروي في (ذم الكلام وأهله)، (2/ 80)، (رقم 241)؛ وابن حجر في (المطالب العالية)، (12/ 734)، (رقم 3098)؛ والسيوطي في (مفتاح الجنة)، (ص 34).


[10] رواه ابن أبي شيبة في (مسنده)، (ص 354)، (رقم 517)؛ وأحمد في (المسند)، (4/ 366)، (رقم 19285)؛ وابن أبي عاصم في (السنة)، (2/ 322)، (699)؛ والطبراني في (الكبير)، (5/ 181)، (رقم 5021)، والحاكم في (المستدرك)، (1/ 149)، (رقم 258).


[11] رواه البخاري، (2/ 1015)، (رقم 4935)؛ ومسلم، (2/ 937)، (رقم 5695).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢