الحفاظ على الهوية الإسلامية في الصيام من خلال السنة النبوية
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
الصوم في الإسلام عبادة عظيمة، ولعظمتها نالت الركنية في مبنى الإسلام العظيم، فلا غرابة أن يشتمل هذا الركن على مقاصد جليلة تتعلق بالأفراد وبجماعة المسلمين، ومن أهم تلك المقاصد ما يتحقق به من الحفاظ على الهوية الإسلامية، وتجديد الخصوصية لهذه الأمة ببعض أحكامه وتعاليمه التي تميزت به هذه الأمة من بين الديانات والثقافات المختلفة.
أولا: التأكيد على الهوية الإسلامية في الصيام:
فالشريعة كلها بما فيها الصوم حافظت على بناء الخصوصية لهذه الأمة، بناء على طبيعة وجودها الخاتم، ووسطيتها في كل شيء، فجاء الصوم مؤكدا لهذا المعنى من خلال النهي عن التشبه بالأمم الأخرى في بعض الأحكام والتعاليم، مع أنها عبادة واحدة في جوهرها، لكن تمييز هذه الأمة أصل جار في فروع الشريعة كثيرا.
ومن ذلك: التوجيه بتعجيل الفطر مخالفة لليهود ففي سنن النسائي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، عجلوا الفطر؛ فإن اليهود يؤخرون».
ومن ذلك: النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصيام، وقد قيل: إن علة النهي هي ترك موافقة اليهود في يوم واحد من بين أيام الأسبوع، فاليهود عظمت السبت، فلا تعظموا أنتم الجمعة خاصة بصيام وقيام.
ومن ذلك: النهي عن تخصيص يوم السبت بالصوم، فعن عبد الله بن بُسْرٍ، عن أُختِهِ الصمَّاءِ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يومَ السبتِ إلا فيما افتُرضَ عليكُم، فإِنْ لم يجِد أحدُكم إِلاَّ لحاءَ عِنَبَةٍ، أو عودَ شجرةٍ فليمضغهُ» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي.
والمراد بالنهي في هذا الحديث إفراد السبت بالصوم، لا الصوم مطلقًا، فلو صام يوما قبله أو بعده، أو وافق يوما يشرع صومه مثل يوم عرفة فلا ينهى عنه، والشاهد في الحديث هو التأكيد على فطر يوم السبت مخالفة لليهود ولو بأكل ما تيسر، حتى ولو بمضغ عود شجرة، وهذا أبلغ ما يدل على قصد الشارع لعدم مشابهتهم في العبادات.
ومن ذلك: الأمر في صيام عاشوراء بمخالفة اليهود، فلما كان الباعث على صيامه مشتركا جاء التوجيه بمخالفتهم بصيام يوم قبله تأكيدا على أحقية هذه الأمة بولاية الأنبياء، وحفاظا على الهوية الإسلامية في ذات الوقت، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع» قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي سنن الترمذي عن ابن عباس أنه قال: «صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود».
ومن ذلك: ما جاء في الترغيب بتناول أكلة السحور كثيرا في السنة النبوية، ومن جملة مقاصد ذلك مخالفة اليهود ففي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فَصْلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، أكلةُ السحر».
قال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى- في شرح مسلم: معناه الفارق والمميّز بين صيامنا وصيامهم السحور، فإنهم لا يتسحّرون، ونحن يستحبّ لنا أن نتسحّر.
قال القرطبي في المفهم: هذا الحديث يدل على أن السحور من خصائص هذه الأمة ومما خفف به عنهم أكلة السحر.
وتعبير النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة "فصل" تدل على أن المفاصلة في العبادات وشعائر الدين مقصود شرعا، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وفيه دليل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع.
ثانيا: الصيام في الثقافات الأخرى:
وتتأكد الخصوصية الإسلامية في صيام المسلمين حين ننظر في واقع هذه العبادة في ديانات وثقافات أخرى، وما يصاحب ذلك من طقوس وخرافات متعلقة بأسباب الصوم، وزمانه، وكيفيته، والاختلاف في ذلك بين أبناء الديانة الواحدة.
فاليهود من جملة ما يصومونه يوم الغفران وتيشا باف وهو اليوم الأكثر حزنًا في التقويم اليهودي والذي يصوم فيه اليهود باعتباره تلك الفترة من الزمن التي تم فيها تدمير الهيكل المقدس في القدس على حد زعمهم، ويكون الصوم في هذين اليومين صوم عن الطعام والشراب والنكاح بالإضافة إلى تحريم الاستحمام، أو التعطر أو حتى غسل الأسنان، كما يحرم ارتداء الجلود في هذين اليومين.
وأما النصارى فالصوم عندهم "هو الامتناع عن الطعام حتى بعد منتصف النهار، ثم تناول طعام خال من الدسم عند البعض، والبعض منهم يرى أن الصوم امتناع عن الأكل والشرب من الصباح إلى المساء.
ومن العجائب من أنواع الصيام ما يسمى "الصيام حتى الموت" ويعمل به أتباع الديانة اليانية بباعث الزهد يقرر الإنسان التخلي عن كل ما هو مادي بغرض تطهير الجسد من جميع الرغبات لإزالة الخطايا وتحرير الروح من مدار الولادة والاستعداد للبعث من جديد حسب اعتقادهم. ويقدر الخبراء بأنه وتحديدًا في الهند فإن هناك أكثر من 200 إنسان يموتون سنويًا بهذه الطريقة. والخلاصة أن الإنسان كلما توسع في تفاصيل تلك الديانات والثقافات يجد الغرائب والعجائب في طقوس الصوم التي يؤدونها، وهذا يستدعي من المسلم أن يؤدي صيامه شاكرا لله تعالى على نعمة هذه العبادة، فهي عبادة ربانية، إذ إن الذي شرعها هو الله تعالى، فليست من اختراعات العقول، وابتداعات الرهبانية، ومن وجوه الشكر أن المسلم يصوم صوما واقعيا يتوافق مع الفطرة والقدرة الإنسانية، فلم يكلفه الإسلام إلا ما يطيق، بل وشرع فيها من التخفيفات للمريض والمسافر والحامل والمرضع والعاجز ما تجعل هذه العبادة أكثر منطقية وواقعية، وهي عبادة مضمونة الثواب، قد ادخر الله ثوابها، ولم يكشف عن مقداره لعظمته، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به»، أما ما يفعله غير المسلمين فهو إهلاك للنفس في الدنيا وخسارة في الآخرة، ولا يزال الصوم في شريعة الإسلام باقيا كما شرع لأول مرة، فلم تتحرف كيفيته، ولا زمانه، ولا أحكامه، وهذا مصدر اعتزاز للمسلم، وتعميق لهويته وانتمائه لهذا الدين الكامل، والهوية الواضحة.