أرشيف المقالات

وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾   معنى التلاوة: الاتباع؛ قال تعالى: ﴿ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ﴾ [1]: أي تبعها.
وفلان يصلِّي ويتلِّي: إذا أتبع المكتوبة النافلة، ويقال: تلوت الأبل: طردتها لأن الطارد يتبع المطرود[2].
غير أن المقصود هنا هو تلاوة آيات القرآن وكلماته، وسمى تالي القرآن تاليًا لأنه يتبع بعض الحروف وبعضًا، لا يخرجها جملة واحدة، بل يتبع بعضها بعضًا مرتبة، كلما انقضى حرف أو كلمة اتبعه بحرف آخر وكلمة أخرى، فالتلاوة هنا هي قراءة القرآن الكريم، وإذا قرئ وجب السماع واستحضار القلب وإلقاء السمع وترك الانشغال بشيء آخر، وذلك لحصول الفائدة واستنزال الرحمة؛ قال تعالى ﴿ وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [3]، ومع نزول الرحمة عند تلاوة القرآن وسماعه يزداد الإيمان لتأثره بألفاظه ووقع معانيه لأنه كلام الله المعجز؛ أصدق الكلام، وأحسن الحديث الذي لو أنزل على الجبال لخشعت وتصدعت: قال تعالى ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [4]، وإنما تحصل زيادة الإيمان والخشوع بالتدبر عند التلاوة، أما تلاوة ألفاظ القرآن بلا تدبر ولا تفهم ولا يحقق المقصود الأول وهو العمل بالقرآن بعد فهمه وتدبره ومعرفة أحكامه، وقد قال ابن القيم[5] (إن قراءة آية واحدة بتدبر وتفهم خير من قراءة القرآن كله بغير تفهم ولا تدبر)، ويقول (فحقيقة التلاوة هي التلاوة المطلقة التامة، وهي تلاوة اللفظ والمعنى؛ فتلاوة اللفظ جزء من مسمى التلاوة المطلقة، وحقيقة التلاوة إنما هي الاتباع، يقال: اتل أثر فلان، وتلوت أثره..
ويقال: جاء قوم يتلو بعضهم بعضًا، أي يتبع بعضهم بعضًا، وسمى تالي الكلام تاليًا لأنه يتبع بعض الحروف بعضًا لا يخرجها جملة واحدة، بل يتبع بعضها بعضًا مرتبة، كلما انقضى حرف أو كلمة أتبعه بحرف آخر وكلمة أخرى، وهذه التلاوة وسيلة وطريقة، والمقصود التلاوة الحقيقية، وهي تلاوة المعنى واتباعه تصديقًا بخبره وائتمارًا بأمره، وانتهاءً بنهيه، وائتمامًا به حيث ما قادك أنقدت معه)[6].   ولكي تتحقق الفائدة، وهي الانتفاع بتلاوة القرآن وزيادة الإيمان، لا بد من حضور القلب والعقل؛ قال تعالى ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37] [7]، يقول ابن القيم: (إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك، وأحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه (الضمير يعود إلى الله) إليه (الضمير يعود إلى المخاطب)؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفًا على مؤثر مقتض ومحل قابل وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه، تضمنت الآية بيان ذلك كله؛ فقوله ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ﴾ إشارة إلى ما تقدم من السورة، وهذا هو المؤثر، وقوله ﴿ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾ فهذا هو المحل القابل، والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله، كما قال تعالى ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًا..
[8] أي حي القلب.
وقوله ﴿ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ﴾ أي وجه سمعه وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام.
وقوله ﴿ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ أي شاهد القلب حاضر غير غائب) [9]؛ فالمؤثر هو القرآن - تلاوته وسماعه وتدبره- والمحل القابل هو القلب الحي (بالإيمان)، والشرط هو الإصغاء وانتقاء المانع وهو اشتغال القلب وانصرافه، عند ذلك تتحقق زيادة الإيمان، وزيادته لا حد لها وكذلك آثار تلك؛ وهو أن يحدث البكاء، وتقشعر الجلود، قال تعالى: ﴿ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [10]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [11].   وقوله تعالى ﴿ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ دليل على زيادة الإيمان بفعل الطاعات، وتلاوة القرآن الكريم من أفضل القربات وخير ما ينشغل به العبد آناء الليل وآناء النهار لتتحقق زيادة الإيمان حتى يكون كالجبال الرواسي؛ وقوة الإيمان أحد أسباب النصر والتمكين، واستجلاب معية الله تعالى وتأييده؛ فالله عز وجل لا يؤيد ولا ينصر إلا من تحقق فيهم الإيمان الحق، وقد وعد الله تعالى بذلك فقال ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ﴾ [12]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ ﴾ [13]، وقد تحقق ذلك في "بدر" بفضل الله عز وجل.   ومن هنا فإن على الداعي ما يلي: 1- أن يسلك منهج القرآن الكريم في الدعوة إلى الله عز وجل، وأن يتبع الأساليب والوسائل الواردة في القرآن حسب ظروف المرحلة وحال المدعوين. 2- أن يكثر من تلاوة القرآن وأن يُسمع الناس كلام الله؛ فيتلوه حق تلاوته كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ﴾ [14]؛ فيتلوه لفظًا ويتبعه منهجًا وسلوكًا لأن القرآن هو كتاب الهداية للبشر أجمعين. 3- أن يهتم الداعي بفهم القرآن وتفهيمه للناس، وذلك بدارسته وتفسيره والوقوف على معانيه وأحكامه، ودعوة الناس إلى العمل به، وإلا فهو الهجر الذي حذر الله تعالى منه؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [15]، يقول ابن القيم: (هجر القرآن أنواع: إحداها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه، والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به، والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم، والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه، والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به، وكل ذلك داخل في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض) [16]. 4- أنه لكي تتحقق زيادة الإيمان ويتم الانتفاع بالقرآن، فلابد من شروط بينها الله تعالى في قوله عز وجل ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [17]. 5- العمل على زيادة الإيمان بفعل الطاعات واجتناب المعاصي، حيث أن الإيمان- كما ذكر البخاري- (قول وفعل ويزيد وينقص؛ قال تعالى: ﴿ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [18]، ﴿ ..وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [19]؛ يقول ابن حجر: (ذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد بكثرة النظر ووضوح الأدلة ولهذا كان إيمان الصديق أقوى من إيمان غيره بحيث لا يعتريه الشبهة، ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى أنه يكون في بعض الأحيان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكلًا منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها) [20].
فمن أفضل الأعمال التي يزيد بها الإيمان في قلب العبد تلاوة القرآن وتدبره وتفهمه، للعمل به والوقوف على السنن والمناهج، واستخراج حلول للأزمات التي تمر بها الأمة.


[1] سورة الشمس (2). [2] أساس البلاغة، الزمخشري. [3] سورة الأعراف (204). [4] سورة الحشر (21). [5] سبق الترجمة له. [6] مفتاح دار السعادة ابن القيم، ج1، ص 43، مكتبة دار البيان. [7] سورة ق (37). [8] سورة يس (69-70). [9] الفوائد لابن القيم، دار الريان للتراث، ص7، ط1، 1987. [10] سورة الإسراء (107- 109). [11] سورة الزمر (23). [12] سورة غافر (51). [13] سورة الروم (47). [14] سورة البقرة (121). [15] سورة الفرقان (30). [16] الفوائد- ابن القيم، ص 112. [17] سورة ق (37). [18] سورة الفتح (4). [19] سورة الكهف (13). [20] فتح الباري، ج1، ص 39- 40.



شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير