إضاءات حول غزوة تبوك
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
تبوك موضع بين وادي القرى والشام وتبعد اليوم عن المدينة المنورة نحو 700 كيلو متر تقريبا، وقد سُمِّيَت غزوة تبوك بذلك لما رواه مسلم في صحيحه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك). وكذلك سُمِّيَت هذه الغزوة بغزوة العُسْرة، والسبب في هذه التسمية ما وقع فيها من شدة الحر، والضيق في النفقة والماء والدواب التي تحمل الجيش، وقد جاء هذا الاسم في قول الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ}(التوبة:117)، قال البخاري في صحيحه: "باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة، ثم ساق حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ولفظه: (أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الْحُمْلَان لهم (الشيء الذي يركبون عليه ويحملهم) إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك)".
وقد وقعت أحداث غزوة تبوك في رجب سنة تسع للهجرة النبوية، وهي آخر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك..
وهي آخر غزوة غزاها) رواه البخاري. سبب الغزوة : بعد استقرار الوضع الداخليّ في مكة، توجّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخارج لإكمال مهمّة الدعوة والبلاغ، خصوصاً وأن الأنباء قد وصلت إليه أن الروم بدأت بحشد قواتها لغزو المسلمين، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبادرهم بالخروج إليهم، فعند ابن سعد في طبقاته: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن هرقل ملك الروم جمع جموعاً كثيرة من الروم والغساسنة وقبائل العرب الموالية له، فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم فخرج إليهم".
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ وهو يروي قصة هجر النبي صلى الله عليه وسلم زوجاته ـ، قال: (كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهم من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلتُ جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك..
وكنا قد تحدثنا أن غسان تنعل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي الأنصاري يوم نوبته، فرجع إلينا عشاء فضرب بابي ضرباً شديداً، وقال: قد حدث اليوم أمر عظيم، قلت له: ما هو؟ أجاء غسان؟ قال: لا بل أعظم من ذلك وأهول، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه) رواه البخاري، والشاهد من الحديث قول عمر رضي الله عنه لما قال له صاحبه: "قد حدث اليوم أمر عظيم"، قال له عمر: (أجاء غسان؟). ويرى ابن كثير أن غزوة تبوك استجابة طبيعية لفريضة الجهاد والدعوة إلى الإسلام، فقال في تفسيره لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(التوبة:130): "أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولاً فأولا، الأقرب فالأقرب، إلى حوزة الإسلام، ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة، والطائف، واليمن واليمامة، وهجر، وخيبر، وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأوْلى الناس بالدعوة إلى الإسلام لكونهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك ثم رجع ..
وكان ذلك سنة تسع من هجرته صلى الله عليه وسلم". ما نزل من القرآن الكريم حول غزوة تبوك : نزلت آيات كثيرة من سورة التوبة (براءة) حول غزوة تبوك، ابتداء من الآية 38 إلى قريب من آخر السورة مع وجود آيات أثناء ذلك ليست في ما يتصل بموضوع تبوك.
وقد نزل بعض هذه الآيات قبل الخروج للغزوة، وبعضها بعد الخروج، وبعضها بعد الرجوع إلى المدينة المنورة، وقد اشتملت هذه الآيات القرآنية على ذِكْر ظروف الغزوة، وفضل المجاهدين المخلصين، وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين، وفضح المنافقين، ولذلك كانت سورة التوبة من أشد ما نزل في المنافقين حتى كانت تُسمَّى: "الفاضحة"، لما كشفت من سرائر المنافقين.
فعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: (قلتُ لابن عباس رضي الله عنهما: سورة التوبة؟ قال: التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل: ومنهم، ومنهم، حتى ظنوا أنها لم تبق أحداً منهم إلا ذكر فيها) رواه البخاري.
ومن جملة الآيات النازلة والواردة في غزوة تبوك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}{التوبة: 38ـ39)، وقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ}(التوبة:42:41)، {فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}(التوبة:81)، وقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}(التوبة:91ـ92)، وقوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}(التوبة :117ـ 119). آثار غزوة تبوك : من الغزوات الهامة في السيرة النبوية غزوة تبوك، وقد استغرقت هذه الغزوة خمسين يوماً من العُسْرة والمَشَقَّة، ثلاثون يوماً منها قضاها النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه في الطريق ذهاباً وإياباً، وعشرون يوماً في تبوك، ثم عاد بلا قتال إذ آثر الروم الفرار شمالاً، فحققوا انتصاراً للمسلمين دون قتال..
وقد أرست هذه الغزوة المباركة دعائم الدولة الإسلامية، ووطدت سلطان الإسلام في شمال شبه الجزيرة العربية، ومهَّدت لفتوح الشام، واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم من خلالها إسقاط هيبة الروم، بالرغم من عدم الاشتباك الحربي معهم، وقد عنون البخاري لهذه الغزوة بقوله: (باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة).
قال ابن حجر في "فتح الباري": "وهي آخِر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهمِّها وكانت مليئة بالأحداث، فيها أخبار الموسرين الذين أنفقوا، والفقراء الذين عجزوا، وفيها أنباء المنافقين الذين فُضِحوا، وحكاية الثلاثة الذين خُلِّفوا، فضلاً عن أخبار المسير والحصار والمشقة التي كانت فيها، والأحداث التي صاحبتها".