أرشيف المقالات

الخطاب الديني في مواجهة تمرد الشباب

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
يلاحظ أن الشباب في ضوء ثورةِ الاتصال والمعلوماتية، وما أفرزته الحضارة الغربية المعاصرة من تداعيات، أصبح اليوم أكثر تمردًا وخروجًا على المألوف التراثي. وهنا لا بد من الإشارة - إزاء ظاهرةٍ من هذا النوع - إلى أن النفس البشرية خلقت متسائلةً، ومن ثَمَّ فهي أعقدُ من مجرد حسبانِها رداءً باليًا يُغسَل بالماء بقصد إزالة ما يلحق به من أوساخ تُلوِّثه، ولعل هذه الحقيقة الإنسانية يمكن تلمُّسها في الكثير من حوارات القرآن، ومنها قوله تعالى لسيدنا إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة:260]. وعلى هذا الأساس ينبغي ألا يتم التعامل مع جيل الشباب على أنه قطيع ساذج،ويكفي التعاطي مع إشكالاتهم بالوعظ المجرد وحسب، على أمل تحصينهم من تيارات الغَواية والفساد؛ لكيلا يقعوا عرضةً للشبهات وشياطين الإفساد، كما يطمح لذلك الدعاة والمصلحون، ومن ثَمَّ نضمنُ الحيلولة دون وقوعِهم في شطط التمرد على المألوف من الأعراف والمعتقدات بمثل هذه السهولة. كما أنه لا بد من الإشارة إلى أن التعويل على أسلوب الردع بمختلف الأساليب، واعتماد العقاب، صعودًا إلى التكفير بعد الموعظة؛ للحد من هذه الظاهرة - لن يُجدِيَ نفعًا على قاعدة: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس:99]، وخاصة على المدى الطويل. لذلك فإن المطلوب إعادة النظر في أدوات الخطاب الديني السائد عند بعض الدعاة، ورجال الدين، وقادة تشكيل الرأي، الذين يأخذون على عاتقهم التصدِّي لمواجهة المشكلات الفكرية المتزايدة للجيل الجديد من الشباب، خاصة في مجال العقائد، وأصول الدين، بعدما بدا عمليًّا أنها أدوات باتت تحتاج إلى تطوير بشكل أو بآخر؛ لكي تستجيب لحاجات شباب العصر بالاستفادة من الطرائق والآليات المعرفية المعاصرة، بعد مزاوجتها بمناهج المعرفة الإسلامية التراثية؛ لتلافي قصورها في الرد على الشبهات، والتحديات الفكرية الواردة من الغرب. ويبدو أن التمسك بالآليات المطروحة فقط في هذا المجال غير مجدية، بعد أن أخفقت في وقف انتشار مظاهر التحلل والفساد والإلحاد، في المجتمع بشكل عام، وبين شريحة الشباب بشكل خاص، لا سيما وأن هناك على ما يبدو أجندات خارجية تُروِّج لنشر مثل هذه المظاهر السلبية، وتشجِّع على انتشارِها في أوساط الشباب والمجتمع العربي المسلم؛ لتقويض أركانه، وهدم بنيانه، من خلال الجامعات، وميديا الفضائيات، والشبكة العنكبوتية، وغيرها من وسائل الاتصال الرقمي الحديثة، المفتوحة بلا قيود في كل الاتجاهات، حيث لم تعد زاوية من زوايا المجتمع بمنأى من اختراقها على الإطلاق. ويلاحظ أن كثيرًا من الدعاة بقصور أدوات تناوله، يفتقر إلى التأثير الفاعل في الأوساط الاجتماعية للناس، والشباب بالذات، وبالتالي عجز عن تقديم إجابات مقنعة، أو حلول موضوعية للاستفهامات المتزايدة للجيل الجديد من الشباب، ورد نقدهم لأساليب الدعاة في الوعظ، وتفنيد شعورهم بتيبس الموروث المعرفي الديني، الذي أثبت في نظرهم عجزَه عن التصدي للمناهج الفكرية المعاصرة. إن الدعاة ورجال الدين مطالَبون اليوم بضرورة الإنصات إلى صوت هؤلاء الشباب، والرد على تساؤلاتهم، واستفساراتهم، ومناقشتهم مناقشةً عقلية صرفة ابتداءً، خاصة وأن البعض منها في خلفيته فلسفي ومعرفي، وبالتالي فإن من الطبيعي أنه لا يمكن مناقشة تلك التساؤلات إلا بأدواتها المناسبة، مما يبرر الاستفادة من الطرائقيات العلمية الحديثة، والانتفاع من آليات التأويلية في تفسير وتأويل النصوص، والأحكام، والتراث المعرفي، بالضوابط المنهجية المعتمدة في المعرفة الإسلامية، بالتواصل مع منجزات العصر والإطلال على معطياته، وصرف النظر عن تناول هذه المنهجية من قِبَل الدعاة بأسلوب مستنكر، يركز على الاستمرار في تصويرها بشكل بشع، ومضر بأصول الدين، طالما تقوم الحاجة اليوم إلى حداثة إسلامية في الأدواتية، من دون أي تفريط بمنهجيات المعرفة الإسلامية تحت مسوغات التحديث. وإذا كان الحائرون من جيل الشباب يُثِيرون إشكاليات مزعومة عن وجود تعارض بين تفسير النصوص الدينية والأحكام الفقهية، مع الكثير من معطيات الفكر البشري والعلوم الحديثة، وكذلك مع التصورات السائدة لدى كثير من الشباب، سواء عن جهل منهم بمرادات وحقائق تلك النصوص، أو عن سوء قصد بداعٍ من أجندات خفية، فإن من الضروري التذكير بأن العقل المسلم، وما أفرزه من تراث معرفي في مختلف العلوم، لم يجد مثل هذا التعارض يومًا ما، على هذه الصورة المتداعية في أذهان جيل الشباب المعاصر، بعدما نجح في التوفيق بينها في إطار أدوات منهجيات المعرفة الإسلامية المعروفة. ومع كل ما تقدم، فإنه من اللازم الإشارة إلى أن الكثير من النصوص الدينية المقدَّسة التي لا تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، أثبتت صحتها علميًّا اليوم، مع قطعِها الشك باليقين منذ البداية يوم لم يكن بالمستطاع ساعتَها تفسيرُها بالآليات المتيسرة، حتى جاء العلم المعاصر ليبرهِنَ على صحتها بعد مرور أكثر من أربعة عشر قرنًا على نزولها، ومع ذلك تبقى التفاسير والأحكام الفقهية آراءً بشرية معرَّضة للخطأ والصواب، وهي تتغير بتغير ظروف المجتمع، خاصة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن نصوص الشريعة الإسلامية قائمةٌ على المقاصد، وما ينفع الناس، ومن ثَمَّ فهي تتَّسِم بالمرونة، والقابلية للتجدد، وتأبى الجمود.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢