عندما تسرق التكنولوجيا أوقاتنا
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
بقدر ما يقدِّم لنا هذا العصر من رفاهية مجبولة السرعة والإتقان بأقل مجهود بدني، نجده أيضا يطالبنا بإلحاح بإعمال وإجهاد مضاعف للذهن. حيث تضخّمت الأوامر التي تتلقاها مراكز الاستقبال في المخّ، وأصبحت هناك حالة من التكدّس والتراكم اللانهائي للأحداث والأفكار والتطلعات، مما يسهم في صنع مزيج معلوماتي وفكري معقَّد وغير مفهوم يصعب تمييزه. إن أبناء هذا الجيل ولدوا ليستخدموا أصابعهم، في طي المسافات باستخدام التكنولوجيا الحديثة والإنترنت في جميع نشاطات حياتهم اليومية.
لكن الأمر الذي كان يفترض حدوثه، أن تؤدي هذه السرعة إلى توفير الوقت، وهذا ما لم يحدث! في ظل تكاثر وسائل الاتصال السريعة، والخدمات الإلكترونية ..
نعم، استطعنا أن نشتري ونتجول ونقرأ ونتراسل عبر الإنترنت، لكن هذا الزخم أوصلنا كذلك إلى استنفاذ أوقاتنا في محاولة إدارة هذه المهام المتراكمة.
والاختزال الوقتيّ الذي نعيشه بسبب السرعة أمسى "خطاطيف" تجر أوقاتنا لمتاهات ضائعة.
وإن كان عصر السرعة هذا منحنا الفراغ الحقيقي، فهو أيضاً سلبنا الوقت افتراضياً. ولا أصدق من وصف الحال بمثل ما كتبت إحدى الشابات تقول: "يمكنني القول إنني ولدت في عصر السرعة، ولا أعرف ما كان قبله.
أعرف السرعة فقط، ولا أعرف معنى ما اتفق الذين عاشوا قبل عصر السرعة على تسميته بالبطء.
فأنا لا أعرف صندوق البريد الذي توضع فيه رسالة مكتوبة على ورق داخل مظروف، ثم ترسل هذه الرسالة إلى شخص ما، فتصله بعد عدة أيام.
منذ أن فتحت عيني، وأنا أرسل بريداً إلكترونياً فيصل إلى صاحبه في لحظته.
ولم أعرف تسجيلات الكاسيت التي تحتفظ بها أمي والتي كانت ترسلها إلى أخوالي في بلاد الاغتراب لتسألهم عن حالهم ولتخبرهم عن حالها.
فأنا منذ البداية أُلقي التحية على شخص في النصف الثاني من المعمورة في الثانية نفسها التي يراني فيها. لا وقت فراغ في يومياتي.
إلا إذا اعتبرنا أن إنهائي عملي اليومي في الوظيفة، ثم عودتي إلى منزلي وجلوسي أمام شاشة الكمبيوتر وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، والتواصل مع أصدقائي عبر عدة وسائل تواصلية، بعضها بالصوت وبعضها بالصورة أو الفيديو، عبارة عن وقت فراغ.
حينها يمكنني القول إن عصر السرعة بالنسبة لي هو الوقت الذي أمضيه في العمل، وأن وقت الفراغ هو الذي أكون فيه خارج العمل، لكن منشغلة بأموري الخاصة، وهي عبر وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت كثيرة جداً، والفراغ منها لا يكون إلا بالنوم.
رغم شعوري أن النوم نفسه بات موصولاً بعوالم الواقع وآلاته وأساليبه.
فينام المرء بينما هو نصف نائم أو نصف واع يحضّر في رأسه المشاريع التي سينفذها في اليوم التالي في الوقت الآتي، وهو ليس وقت فراغ، بل وقتاً مملوءاً بشيء ما ولو كان لا شيء". حقاً هل يترك لنا عصر السرعة وقتاً للفراغ لاستكمال أحلامنا؟ ليس من الصعب التقاط المفارقة القاسية في هذا الجانب، ذلك أن عصر السرعة العتيد، بقدر ما اختزل من وقت في بعض من جوانب حياتنا، فقد سرق الكثير منه في جوانب أخرى. يقول أحد الشباب: "في بلادي كنت أسافر بالقطار آلاف الكيلومترات، فأحس أنني أمتلك الأرض وأدرك تنوعها.
اليوم أسافر بسرعة الطائرة من نقطة إلى نقطة دون أي إحساس بالأرض وما عليها.
وكانت الحكمة تقول: من السهولة تعلّم القيادة بسرعة، لكن من الصعوبة تعلّم القيادة بهدوء.
ولأننا جميعاً مسرعون صباحاً في الوصول إلى العمل، يزدحم الشارع، فنتباطأ جميعاً ..
السرعة جيدة فيما نحتاجه منها، لكنها تبطئ تقدمنا الحقيقي ..
إنها تجعلنا نقدِّم أعمالاً عاجلة باهتة بعد أن فقدت مثلث تعاون الروح والذهن والوقت ..
إن الطبخة الجيدة تُطبخ على نار هادئة حقاً.
ولو كان لهذه السرعة قيمة حقاً فهي في جعلها الأعمال التي تنجز بتأنٍ هي الأعلى والأغلى!" إن الوقت وعاء العمر، من اغتنمه فقد اغتنم عمره وحياته، ومن أضاعه خسر الدنيا والآخرة.
يقول الحسن البصري: "أيها الإنسان، إنما أنت أيام، كلما ذهب يومك، ذهب بعضــك" ..
هذه ببساطة نظرة الإسلام للعمر، شمولية نقية دون التقيد بماكينة محددة أو آلة معينة، الأهم أن يرتبط نشاط المرء بفعل الطاعات ويتجنب جحيم السيئات، وفق هُدى بارئ البريات، قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه ندم، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99-100]..
وتزداد الحسرة والندامة يوم القيامة، وقد أزلفت الجنة للمتقين، وبرزت الجحيم للغاوين.
هنالك يدعو المضيعون لأوقات أعمارهم الدنيوية بالويل والثبور، وهم في النار يصطرخون: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر:37].
أما أهل الجنة فليسوا يتأسفون، وهم في النعيم المقيم، إلا على ساعة من الدنيا لم يكونوا لله تعالى فيها من الذاكرين. ومن رجاحة عقل المرء إدراكه لفقه وقته، فما كان للعمل لا يناسبه اللعب، وما كان للهو المباح لا يناسبه الجد، فعن أبي المليح، أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- لما حضرته الوفاة أرسل إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: "إني أوصيك بوصية، إن أنت قبلتها عني: إن لله عز وجل حقا بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله عز وجل حقا بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه عز وجل لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، ألم تر إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه في الآخرة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقل ذلك عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا حق أن يثقل، ألم تر إنما خفت موازين من خفت موازينه في الآخرة باتباعهم الباطل في الدنيا، وخف ذلك عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا باطل أن يخف، ألم تر أن الله عز وجل أنزل آية الرجاء عند آية الشدة، وآية الشدة عند آية الرجاء، لكي يكون العبد راغبا راهبا، لا يلقي بيده إلى التهلكة، لا يتمنى على الله عز وجل غير الحق، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، ولا بد لك منه، وإن أنت ضيعت وصيتي هذه فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت". إن الرؤية الإسلامية ليست في خصومة مع التكنولوجيا، ولكن لا ترضى بهدر الأوقات، ففي الوقت الذي باتت للتكنولوجيا أهمية بالغة في حياتنا، لا ننكر أيضا سلبياتها، وخاصة سرقة أوقاتنا واستنزاف لحظات عمرنا، واللهاث وراء ما لا طائل منه حينا من الدهر ..
قال ابن القيم: "ضياع الوقت أشد من الموت؛ لأن الموت يقطعك عن الدنيا، وضياع الوقت يقطعك عن الله".
يقول ابن الجوزي في (صيد الخاطر): "أعوذ بالله من صحبة البطَّالين! لقد رأيت خلقًا كثيرًا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس، وما لا يعني، وما يتخلله غيبة !وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور، وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، وخصوصًا في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان . فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهابه بفعل الخير، كرهت ذلك، وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة، لموضع قطع المألوف! وإن تقبلته منهم ضاع الزمان! فصرت أدافع اللقاء جهدي.
فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق . ثم أعددت أعمالًا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغًا، فجعلت من المستعد للقائهم: قطع الكاغد [ورق الكتابة]، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي .
نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه . ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا لا يعرفون معنى الحياة: فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار، ينظر إلى الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر! ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج!، ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحديث عن السلاطين، والغلاء والرخص، إلى غير ذلك: فعلمت أن الله تعالى لم يُطلِع على شرف العمر، ومعرفة قدر أوقات العافية، إلا مَن وَفَّقه وألهمه اغتنام ذلك، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]"