أرشيف المقالات

الدواء الشافي لكل داء

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
الدواء الشافي لكل داء

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي النبي الأمين، صلى الله عليه وسلم.
وبعد:
إلى من يريد التقرب من الله تعالى بقلبه وعقله وجوارحه.
إلى من يبحث عن المحبة والسعادة في حياته دون نفاق أو رياء.
إلى من يشتاق لراحة البال وسكينة النفس في دنياه الفانية.
إلى من أصابته الأحزان والأشجان والهموم.
إن علاج كل هذه الأمراض القلبية وغيرها، ليس في الصيدليات ولا بيدِ الأطباء، وليس لها دواء بشري على الإطلاق، بل كل مرض رُوحي في القلب دواؤه وعلاجه عند رب القلوب سبحانه وتعالى، رب الأرض والسماء، وهو القائل: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].
 
والنفس البشرية تطمئنُّ إلى ما يطمئِنُّ إليه القلب، والقلب يطمئن بذِكْر الله؛ كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
هذا هو الدواء لكل داء، إنه دواء رباني لمن عقَل ووعَى، فلا راحة للقلب ولا طُمأنينة إلا بذكره وشكره.
 
ولا ريب أن النفس البشرية لا تشعر بالراحة والسكينة والطمأنينة التي تفتقدها في دنيا الناس، إلا لضَعف إيمانها وعدم قربها من خالقها ورازقها الذي بيده الأسباب والمسببات، ومَن يعرف الله ويقترب منه، ولا يفتر لسانُه عن ذكره وشكره في النعمة والبلية، في حزنه وسعادته، في صحته ومرضه، في ذهابه وإيابه، ودومًا على لسانه: "يا رب، يا رب"، ما أعظمها من كلمة! وما أعظَم تأثيرَها على قلوب شياطين الأنس والجن، والعبد يقولها لمن يظلمه ويَجحده حقَّه مهما كانت قوتُه وماله، أوحسبه ونسبُه، أو بمركزه الاجتماعي وعلمه، أو شِركه وكفره، الكل في الظلم سواء.
 
والكل عبيده وهو الحق المبين لا يضيع حقوق عباده المخلصين، ولن ينسى مَن ذكَره ونداه في كل وقت وحين.
﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحشر: 23، 24].
فلا تنسوا وصية نبيكم الذي كان يقول: "اللهُمَّ أعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"؛ صححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2688.
فهلمُّوا أحبتي نتشبَّع من هذا الدواء الرباني، ونُكثر من ذكر الله، ولا تفتر ألسنتنا دومًا عن ذكره، وتذكَّروا أن الذكر له من الفوائد العظيمة في صَلاح النَّفس والقلب معًا، فضلًا عن جلاء الأحزان والهموم، وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خيرٍ منهم"؛ أخرجه البخاري ومسلم.
هلموا...
تسلَّحُوا في دنياكم الفانية بما يُعينكم على المضي قدمًا إلى أن يَقضي الله أمرًا كان مفعولًا، أكثروا من الأذكار المختلفة في ذهابكم وإيابكم "في الصباح والمساء"، لا تغفلوا عن ذكر الله ولا تَفتر ألسنتكم عن التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل، فإن ذلك من علامات حياة القلوب؛ لأن القلب الذي لا يذكر الله قلبٌ ميت؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر، مثلُ الحي والميت"؛ أخرجه البخاري (11/ح 6407/ فتح).
 
واعلموا أنَّ الذَّاكر لله تعالى قريبٌ من ربِّه، والقريب من الله في جَناب رَحْمته وكرَمِه، تَستغفر له ملائكتُه، وتَسْمُو نفْسُه بِقُربِها من الله تعالى، ولا شك أن السعيد من يكون قريبًا من الله تعالى، والشقي هو البعيد عنه جل وعلا؛ قال النوويُّ في كتابه "الأذكار" (1/ ص 10) ما مُختصَره:
"الذِّكر يكون بالقلب، ويكون باللِّسان، والأفضل منه ما كان بالقَلْب واللِّسان جميعًا، فإنِ اقتصر على أحدِهِما، فالقلب أفضل، ثُمَّ لا ينبغي أن يترك الذِّكر باللِّسان مع القلب؛ خوفًا من أن يُظَنَّ به الرِّياء، بل يَذْكر بهما جميعًا، ويقصد به وَجْه الله تعالى".
 
وقال ابن القيِّم رحمه الله تعالى في "الوابل الصَّيِّب من الكَلِم الطيِّب"، (1/ ص56) عن فوائد الذِّكر ما مُختصَرُه: "ولا ريب أنَّ القلب يَصْدأ كما يصدأ النحاس والفِضة وغيرهما، وجِلاؤه بالذِّكر، فإنه يَجْلوه حتى يَدَعَه كالمِرْآة البيضاء، فإذا ترك صَدِئ، فإذا ذكَر جلاه.
 
مَن كانت الغفلةُ أغلبَ أوقاته، كان الصَّدأ مُتَراكبًا على قلبه، وصدَؤُه بحسب غفلته، وإذا صَدِئ القلب لم تَنْطبع فيه صُوَر المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحقِّ، والحقَّ في صورة الباطل؛ لأنَّه لَمَّا تراكَم عليه الصَّدَأ، أظْلَمَ فلم تَظْهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه، فإذا تراكم عليه الصدأ واسودَّ ورَكِبه الرَّان، فسَد تصَوُّره وإدراكه، فلا يَقْبل حقًّا ولا يُنْكِر باطلًا، وهذا أعظم عقوبات القلب، وأصل ذلك من الغفلة واتِّباع الْهَوى؛ فإنهما يَطْمِسان نور القلب ويعْمِيان بصَره؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
 
فإذا أراد العبد أن يَفْتدي برجل فَلْينظر: هل هو من أهل الذِّكر أو من الغافلين؟ وهل الحاكِمُ عليه الهوى أو الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة، وأمره فرط، لم يقتد به، ولم يتبعه، فإنه يقوده إلى الهلاك.
 
ثم ذكر رَحِمَه الله تعالى عشرات من فوائد ذِكْر الله تعالى، والتي فيها صلاحُ القلوب والنُّفوس، نَذْكر بعضها هنا، والله المستعان:
1- أنَّه يَطْرد الشَّيطان ويقمعه ويكسره.
2- أنه يُرْضي الرحمن عزَّ وجلَّ.
3- أنه يزيل الهم والغم عن القلب.
4- أنه يَجْلب الرِّزق.
5- أنه يكسو الذَّاكر المهابة والحلاوة والنضرة.
 
6- أنه يورثه المَحبَّة التي هي رُوح الإسلام وقُطْب رحَى الدِّين، ومدار السعادة والنَّجاة، وقد جعل الله لكلِّ شيء سببًا، وجعل سبب المَحبَّة دوام الذِّكر، فمن أراد أن يَنال مَحبَّة الله عزَّ وجلَّ، فلْيَلْهَج بذِكْره؛ فإنه الدَّرس والمذاكرة كما أنه باب العلم، فالذِّكْر باب المَحبَّة وشارعها الأعظم وصِرَاطها الأقوم.
 
7- أنَّه يورثه المراقبة حتى يُدْخِله في باب الإحسان، فيَعْبد الله كأنَّه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذِّكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت.
 
8- أنه يورثه الإِنَابة، وهي الرُّجوع إلى الله عزَّ وجلَّ، فمتَى أكثر الرُّجوع إليه بِذِكْره، أورَثَه ذلك رجوعَه بقلبه إليه في كلِّ أحواله، فيَبْقى الله عزَّ وجلَّ مَفْزَعَه ومَلجَأَه، ومَلاذَه ومَعاذَه، وقِبْلةَ قلْبِه، ومَهْرَبه عند النوازل والبلايا.
 
9- أنَّه يورثه الهيبة لربِّه عزَّ وجلَّ وإجلالَه؛ لشدَّة استيلائه على قلبه، وحضوره مع الله تعالى، بخلاف الغافل، فإنَّ حجاب الهيبة رقيقٌ في قلبه.
 
10- أنَّه يورثه ذِكْرَ الله تعالى له؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152].
ولو لم يكن في الذِّكر إلا هذه وحدها، لكَفى بها فضلًا وشرفًا، وقال صلَّى الله عليه وسلم فيما يَرْوِي عن رَبِّه تبارك وتعالى: ((مَن ذكَرَني في نفْسِه، ذكرتُه في نفسي، ومن ذكَرني في مَلأ ذكَرْتُه في ملأ خيرٍ منهم)).

وبعد: أن ما نعانيه من بلاء وهموم وغير ذلك في دنيانا الفانية، بسبب وجود خلل في صدق الإيمان في القلب ونفاق ظاهر فيه! وهذا الخلل يؤدي إلى التناقض في شخصية المسلم بين دينه ودنياه، بين حبه لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين التطبيق العملي للوحيين في حياته الدنيوية.
 
وبناءً على ما سبق من بيان عظمة الذكر، وأنه دواء فعَّال وعلاج لكل داء، فإن أراد العبد أن يستقيم قلبه وينصلح حالُه، ويذهب همُّه وغمُّه، فعليه أن يبدأ في محاسبة النفس وترويضها على كثرة الذكر، وبالتبعة على الاستقامة، وكفى؛ بقول الله تعالى عن بركة الذكر كمسكٍ للختام، ما جاء في كتابه الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 41].
وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205]، والآيات في ذلك كثيرة وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وكما قلت في بداية مقالتي تلك: هذا هو الدواء لكل داء، إنه دواء رباني لمن عقَل ووعَى، فلا راحة للقلب ولا طمأنينة إلا بذكره وشكره.
وقد أفلح مَن تداوى به دومًا، وهنيئًا له قوله تعالى إن تقبَّل منه ورضِي عنه: ﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35].
والحمد لله رب العالمين، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

شارك الخبر

المرئيات-١