أرشيف المقالات

واقع الإجازات الحديثية

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2واقع الإجازات الحديثية   الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه. وبعد: فإنَّ مِنْ فضل الله تعالى على هذه الأمة حفظَهُ مصادر التشريع فيها، وعلى رأسها كتابه العظيم وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد تجلى هذا الحفظ في مظاهر كثيرة معلومة للدارسين.   ومِنْ أبرز هذه المظاهر نقلها بالإسناد، جيلاً بعد جيل، وقد تأسس نتيجة لذلك علومٌ هي في منتهى الدقة والحيطة والإتقان، وعُدَّ الإسنادُ من خصائص هذه الأمة. وظلت عناية أهل الشأن قائمة بالإسناد إلى يومنا هذا، وإن اختلفت الصورة عمّا كان عليه عملُ الأمة في صدرها الأول. واليوم يهتمُّ كثيرٌ من أهل العلم وطلابه بتحصيل الإجازات، والاتصال بالأثبات، والالتحاق بسلسلة الروايات.   وأهلُ العلم على أقسام: فمنهم مَنْ يجيزُ لتلاميذه خاصة الذين قرأوا عليه، وتلمذوا له، فعرَفهم وخبرَهم. ومنهم مَنْ يجيزُ لكل مَنْ سأله، أو لكل مَنْ جلس إليه ولو لم يسأله. ومنهم مَنْ يجيزُ لأهل عصره عامة[1]...   والمتحملون للإجازة أصناف: فمنهم مَنْ يرغب بهذا إبقاءً على سلسلة الإسناد. ومنهم مَنْ يرى فيه بركة معنوية. ومنهم مَنْ يباهي به ويكاثر! وربّما كان هناك مَنْ يتكثر به ويتاجر...   ومع اتساعِ الأمر وفتحِ الباب فغيرُ مُستبعدٍ أن يدخل في هذا الشأن مَنْ لم يكن هذا مِنْ شأنه، فتقع الأخطاء، وتظهر الأهواء، ويلتبس الصواب بالخطأ، والحق بالباطل. وكنت أنادي منذ زمن بإعادة النظر في واقع الإجازة، ووضع ضوابط لها، والتريُّث قبل إعطائها ومنحها وتوزيعها، وتقييد هذا التوسع الحاصل فيها، والاهتمام بـ "المضمون" بدل هذا الاهتمام الكبير بـ "الشكل".   لقد نشأ الإسنادُ للحفاظ على السُّنة، ويوشك أنْ يُستغل ويسبب إساءة إليها! وقد يجعل الشك يتطرق - لدى غير المختصين - إلى أعمال السابقين! ونحن نرى اليوم مَنْ يروي عن عشرات، بل مئات الشيوخ، لقاء ومكاتبة...
ويتصل بأعداد كبيرة من الأثبات، وفيها من الطرق الشيء الغفير، ومن الكتب العدد الكثير، ولعل هذا الراوي يعيش ويموت ولم يرَ شيئاً منها!   وثَمَّ كتب غير قليلة في هذه المرويات فُقِدَت منذ زمن بعيد! فما قيمة أنْ نرويها بالإسناد إلى مؤلفيها ونحن لم نرها ولم نعرفْ عنها شيئاً؟! ومن الخطورة بمكان أن نزيد على هذا، فنضع كتباً، وندَّعي لها أسانيد، وننسب كل هذا إلى الأئمة والعلماء والشيوخ، ونستدر عواطف العامة!   ومن الخطورة كذلك سياقُ أسانيد أخذاً من الإجازة العامة إلى كتبٍ نُسِبتْ إلى مؤلفين، قبل التأكد من صحة النسبة. وقد حصل شيءٌ من هذا، ثم تبيَّن عدمُ صحة النسبة أصلاً! وتبيَّن خطأ تركيب تلك الأسانيد إليها[2].   وقد عَقدتْ كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي قبل سنوات ندوتها العلمية الدولية الثانية حول "الحديث الشريف وتحديات العصر"، والواقع أنَّ التحديات الداخلية التي نعاني منها، لا تقل خطراً عن التحديات الخارجية، بل لعل الخطر هنا أكبر لأسباب متعددة، منها الوثوقُ بالأعمال التي يصدرها علماء أو شيوخ مسلمون والتسليم بها، في حين يكون القارئ على شكٍّ وتوجُّسٍ وحذرٍ مما يأتي من الخارج.   ومن هذه التحديات الداخلية: "التلاعب بالأسانيد والإجازات". ومن الأمثلة على ذلك كتابٌ صدَرَ بعنوان: "مسند الإمام قطب الأقطاب وشيخ العارفين أبي العباس أحمد الرفاعي المتوفى سنة (587 هـ) في الحديث الشريف"[3]!   وقد نظرتُ فيه فهالني ما رأيتُ من أخطاء وخطايا، فكل ما في الكتاب من أسانيد مركب، ودفعني واجبُ النصيحة أنْ كتبتُ بحثاً في نقده ونقضه، هذا محتواه: المطلب الأول: وصف الكتاب. المطلب الثاني: مصدر الكتاب وكيفية صنعه. المطلب الثالث: أمثلة من الأسانيد المركبة الواردة فيه. المطلب الرابع: بعض الملحوظات المُهمّة على هذا المسند المُفترى. المطلب الخامس: الأسانيد المدّعى أنها تُوصِل المؤلفَ بالرفاعي. نتائج البحث[4].   وممّا سبَّب وقوعَ هذه الأخطاء الإجازاتُ العامةُ، فعسى أن نضع لها ضوابط وقيوداً، وأنْ نهتم بالقراءة الجادة، لتكون الرواية ذات معنى وفائدة حقيقية، والله المستعان.


[1] للشيخ محمد البشير الإبراهيمي كلامٌ على الإجازة يحسنُ الوقوفُ عليه ضمن مقاله "عبدالحي الكتاني ما هو؟ وما شأنه؟" في "آثار الإمام" (3/ 545 - 547). [2] انظر مقالي: "رواية كتب غير مذكورة، بالإجازة العامة"، وهو منشورٌ في هذه الشبكة بتاريخ 31/ 12/ 2015م. [3] كتب على غلافه: "ألفه واعتنى بروايته وحققه [يقصد حقق الأسانيد!]: عبد السلام بن محمد بن محمد بن حبوس عفى [كذا] الله عنه.
من علماء الأزهر الشريف" [كذا كتبُ!]. ويقع في (186) صفحة. ولم تُذكر سنة الطبع، ولا مكانه، ولا اسم المطبعة. [4] نشر هذا البحث بعنوان: "نظرات في مسند الإمام الرفاعي المصنوع" في مجلة آفاق الثقافة والتراث الصادرة عن مركز جمعة الماجد بدبي، العدد (60)، (1429هـ - 2008م).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣