أرشيف المقالات

المجتهد وترك التعصب

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
2المجتهد وترك التعصب
التعصب: من عصب، وهو أصل يدل على ربط شيء بشيء، مستطيلًا أو مستديرًا، ثم يفرع ذلك فروعًا، وكله راجع إلى قياس واحد، ومنه فلان معصوب الخَلق؛ أي: شديد اكتناز اللحم، ومنه العِصابة: بالكسر، وهي ما يعصب به كالعمامة، ومنه العُصْبة: وهم الجماعة من الرجال والخيل والطير ما بين العشرة إلى الأربعين، وتعصب: إذا تمسك بالشيء ولزمه وقبض عليه وأطاف به، وإذا تقنع بالشيء ورضي به، ومن هذا قولهم: فلان تعصَّب لقومه، ونبض منه عرق عصبية[1].   وعلى هذا، فالتعصب: هو التمسك بالشيء وعدم الانفكاك منه، بل والدفاع عنه بكل قوة، وقد عرفه الموروي: بأنه الميل مع الهوى لأجل نصرة المذهب، ومعاملة الإمام الآخر ومقلديه بما يحط عنهم[2].   وهذا التعريف يصدق على تعصب المقلد خاصة، ولو اكتفى بقوله: الميل مع الهوى لأجل نصرة ما يميل إليه، لكان أوفق لتعريف التعصب الواقع من المجتهد والمقلد، فالمجتهد يميل إلى رأيه، والمقلد يميل إلى ما اختاره إمامه. وهل التعصب من صفات المجتهدين أو من الصفات التي يترفع عنها من بلغ منزلة الاجتهاد والنظر في أحكام الشريعة؟ هذا ما سيتضح لنا بعرض رأي الشَّاطبي في الموضوع.   رأي الشَّاطبي: يرى الشَّاطبي أنه لا يجوز للمجتهد أن يتعصب لرأيه، ولا أن يصر على خطئه؛ لأن في ذلك خروجًا عن صوب العلم الحاكم، ولأن ذلك مؤدٍّ إلى مخالفة الشرع. وينقل الشَّاطبي في صفات المفتي الحق عن مالك قوله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق ذلك فاتركوه"[3]، وهكذا كان الأئمة لا يتعصبون لآرائهم وأقوالهم، فهذا الشافعي يقول: "الحديث مذهبي، فما خالفه فاضربوا به الحائط"[4]. وهذا لسان حال العلماء الراسخين؛ ذلك أن كل ما تكلم به العالم، فهو إن طابق الشريعة فبها ونعمت، وإن لم يطابق فليس ذلك بمنسوب إلى الشريعة، ولا يرضى العالم الحق أن ينسب القول المغلوط إلى الشريعة[5].   وقد جعل الشَّاطبي التعصب إلى الآراء من سِيمَا أهل البدع، أما أهل العلم الراسخ فهم فيما بينهم على وجه من التراحم والتعاطف والتحاب، قال الشَّاطبي: "الإسلام يدعو إلى الألفة والتحابِّ والتراحم والتعاطف، فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك، فخارج عن الدين"[6].   وهؤلاء وإن اختلفوا إلا أنهم لا يتعصبون لآرائهم، وما ذلك إلا لاتحاد مقصدهم؛ إذ الجميع يسعى لتحصيل قصد الشارع، فاختلاف الطرق لا يؤثر بعد ذلك، وكما أنه لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات المختلفة، كرجل تقرب بالصلاة، وآخر بالصيام، وآخر بالصدقة، فهم متفقون في أصل التوجه لله سبحانه، "فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع، صارت كلمتهم واحدةً، وقولهم واحدًا"[7].   ولذا؛ كان واجبًا على المجتهد أن يبتعد عن التعصب للآراء؛ إذ هو ليس من شأن العلماء[8]، وأن يكون عونًا على الحق متبعًا له، محكمًا إياه، مقدمًا له على نظره ورأيه.   ولا شك أن الأصوليين موافقون للشاطبي فيما ذكر، ويدل على هذا: أولًا: أنهم متفقون على تحريم اتباع الهوى والحكم بالتشهي، وتعصب المجتهد لرأيه من هذا الباب[9]. ثانيًا: أنهم متفقون على أنه يجب على المجتهد الرجوع إذا تغير اجتهاده، وهذا منافٍ لتعصبه[10]. ثالثًا: أنهم يذكرون في أدب المناظرة أن يكون همُّ المناظر طلبَ الحق والتوفيق إليه، ولا يقصد بذلك الهوى وأغراض النفس[11]. رابعًا: أنه قد تتابع قول الأئمة بالأمر بالتمسك بالكتاب والسنة، وأن ما وافق ذلك فهو المقبول، وما خالفه فهو المردود[12]، وقد نص بعض العلماء على حرمة التعصب بإطلاق، سواء من المجتهد، أو من المقلد، ومنهم الموروي الحنفي؛ فقد نص على حرمة التعصب، ونقله عن الحنفية، وغيرهم، فقال: "وقد نص علماؤنا، وغيرهم من أصحاب المذاهب، على حرمة التعصُّب"[13]. وعلى كل حال، فالتعصُّب مذموم، ومنافٍ لمكانة المجتهد، ولأخلاقه التي ينبغي أن يتحلى بها.   دليل الشَّاطبي ومن وافقه: استدل الشَّاطبي على حرمة التعصب: بأن التعصب مفضٍ إلى الفُرقة والتقاطع والتدابر، وقد نهى الشرع عن ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ﴾ [آل عمران: 105]، وقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 159]، وكل ما يفضي إلى محرَّم فهو محرَّم، وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع المفضية إلى المحرَّمات[14].


[1] انظر: معجم مقاييس اللغة (4/ 336) القاموس المحيط (148) أساس البلاغة (302) كلها مادة: "عصب". [2] القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد (47 - 48)، وفيه عنهم، ولعلها منهم. [3] انظر: الاعتصام (2/ 505) الموافقات (5/ 331) وذكره في ترتيب المدارك (1/ 72). [4] انظر: الاعتصام (2/ 505) قال تقي الدين السبكي: "هو قول مشهور عنه لم يختلف الناس في أنه قاله، وروي عنه معناه أيضًا بألفاظ مختلفة"؛ انظر في معناه: كتاب التقي السبكي: معنى قول الإمام المُطَّلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقوله السابق منه (85). [5] انظر: الاعتصام (2/ 504 - 505). [6] الموافقات (5/ 164). [7] الموافقات (5/ 220). [8] انظر: الموافقات (5/ 286)؛ فقد جعل الشاطبي الترجيح بين العلماء المتبوعين بالتعصب والتنقص ليس من شأن العلماء. [9] انظر: مراتب الإجماع (51) الفصول (4/ 327) التلخيص (3/ 314) روضة الناظر (1/ 338) الإحكام (4/ 157) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (92) شرح تنقيح الفصول (451) نهاية الوصول (8/ 4004) نهاية السول (4/ 399) تقريب الوصول (401) تبصرة الحكام (1/ 22) الإنصاف (11/ 179) الإقناع لطالب الانتفاع (4/ 397). [10] انظر: الرسالة (424 - 425) البرهان (2/ 867) المستصفى (2/ 382) المحصول (6/ 64) روضة الناظر (2/ 385) الإحكام (4/ 203) شرح المعالم (4/ 1637) نهاية السول (4/ 574). [11] انظر: الكافية في الجدل (529) المنهاج في ترتيب الحجاج (9). [12] انظر: الشريعة للآجري (45) جامع بيان العلم وفضله (2/ 91) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 76، 82) شرح العقيدة الطحاوية (544، 777) الإبانة لابن بطة (1/ 215) الاعتقاد على مذهب السلف للبيهقي (129) مجموع الفتاوى (19/ 5 - 6، 9) إعلام الموقعين (1/ 40، 2/ 201) مقدمة صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (46 وما بعدها). [13] القول السديد (46). [14] انظر: الموافقات (5/ 160، 287 - 288) وانظر: مجموع الفتاوى (20/ 291 - 292).



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن