والله لأنا خيرٌ منه، ولأبي خيرٌ من أبيه...
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
...جمعني به مجلس قرآني في بيت أحد قراء المغرب المتقنين من أبنائه البررة، عرفت من سياقات التقديم التي وطّأ بها المستضيف لضيوفه قبل إكرام الوفادة، أنه دكتور جامعي يحاضر في إحدى جامعات الولايات المتحدة الأمريكية، هذا ولم يسعفنا الفضول إلى مزيد أو طلب الاستزادة من تفاصيل سيرة الرجل الوقور، المحب لأهل القرآن، اللهم ما وقفت عليه لاحقا ـ وقد تكلّم مستدركا هو نفسه ـ من ملمح تأثره بمدنية الرجل الأبيض حد الإنابة والإخبات، وقد ضره وأقلقه أن يُقال أن المركزية في القرآن لنوع الإنسان لا لجنسه، ذلك أن السياق القرآني ومعه موروث السنة النبوية الشريفة كانا حفيين بالإنسان المتلبس بالصفة، أي بالمسلم، والمؤمن، والمحسن، والمنيب، والمخبت، والصادق، والمتوكل، والمتقي، والصابر المحتسب المسترجع...
بينما لم تكثرت عين النصوص لجنس الإنسان إذ كل السياقات صنّفته تصنيفا مُقْعَدَ الصراط غير سوي السبيل، حيث حكت الآيات الكريمات فوصفته بالضعيف، الذي هو في خسر، الكنود، الظلوم، الكفّار، الأكثر جدلا، الهلوع، المنوع، اليئوس، القنوط، الطاغي، المستغني، المفسد، الباغي...
كما ضايقه حد الحنق أن يسمع في عين المجلس ما يفيد بالقطع أن نصوص الوحي اطّردت سياقاتها لتذهب مذهب ذم الدنيا ، واستصغار شأن من أرادها وسعى لها سعيها وهو غير مؤمن، واختار أن لن يكون له في الآخرة من خلاق، حيث أوْلت هذه النصوص اهتماما للآخرة وجعلت الدنيا مزرعة لها ووسيلة لغايتها ومقصودها، وقد ارتبطت وفق هذا التصور الخيرية بالنسبة للأمة بالضابط الإيماني والجوهر الأخلاقي لا بالتطور المادي والتمظهر المدني المبهر، إذ قال ربنا واصفا الكينونة الوجودية للأمة وعلاقتها بوصف الخيرية: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"،بل وجدنا أنه ما من نبي أو رسول بُعث في قومه إلا وجاورت دائرة تبليغ رسالته مدنيات بلغت شأنا ودرجة متقدمة في ميادين التطور المادي، ومع هذا فقد كانت مهمة المرسلين تتلخص في إخراج الناس من ظلمات المادة إلى نور الوحي وضوئه الهادي مصداقا لقوله تعالى: "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"
وقوله تعالى: " {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} "
ويجدر بنا هاهنا توجيه الكلام بما يقيّد هذا الإطلاق ويرشد مشروعيته، كما تمت الإشارة إليه في المجلس، إذ لا رهبانية في الإسلام، ولا إعراض ولا عزوف ولا انعزالية ولا انسحاب من مضمار خوض سباق ولحاق معركة البناء وصناعة جيل التمكين، نحو أفق تحقيق منزلة الأعلون بشرطها الإيماني، ولقد أُشير في معرض الكلام قبل انفضاض ذلك المجلس، إلى أن المشكلة واقعة في دائرة ترتيب الأولويات، لا في إقصاء الدنيا إقصاءً يجعلنا نتسوّل ونستجدي الدواء والسلاح والغداء ولربما الماء، فنُرمى على استحقاق ومناسبة من مدنية الرجل الأبيض بالرجل العالة المريض، كما وجب التنبيه على حقيقة ذوقية مفادها أنه ليس كل تطوّر مادي حصل، يحصل معه دائما ولابد تقهقر شرعي ونكوص إيماني، فهذه تهمة كذبها تاريخ المسلمين والناس أجمعين، وهذه شواهد حضارتنا ومدنيتنا في الأندلس تحكي بأطلال المحسوس عن ما بلغه أسلافنا من تطوّر مدنيتهم في عمارة الأرض وزخرف البنيان الذي قاده ووجهه استعلاء الإيمان ، واسمع إلى إمام زمانه ابن حزم حاكيا عن ملحظ التواصي الحكيم بإعزاز أمر غير المسلمين في ديار المسلمين: "إن من واجب المسلم للذميين الرفق بضعفائهم، وسدّ خلة فقرائهم، وإطعام جائعهم، وإلباس عاريهم، ومخاطبتهم بلين القول، واحتمال أذى الجار منهم ـ مع القدرة على دفعه ـ رفقا بهم لا خوفا ولا تعظيما، وإخلاص النصح لهم في جميع أمورهم، ومدافعة من يتعرض لإيذائهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم، وأن يفعل معهم كل ما يحسن بكريم الأخلاق أن يفعله...".
ولا شك أن رمي حضارة الإسلام بالكسل والخمول وإيثار الموت على الحياة مطلقا، هو رمي وتهمة تمتح من نبع الهوى، وتكتال بمكيال التطفيف، إذ متى عارضت نصوص الإسلام شريعة وشعيرة كدحًا علميًا، أو منتوجًا ماديًا تنتفع به الإنسانية، وتتقدم به الخدمة المقدمة لهذا الإنسان، بله الحيوان والنبات والجماد، بل متى كان الإيمان والتقوى مصدرين لتوهين الأمة وتدريكها دركات الجهل وإلباسها بالقسر جبّة العالة والضعف والوهن، واسمع في هذا المقام إلى سيد المتوكلين وإمام الدنيا والدين وهو يقول عليه الصلاة والسلام: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل"
والحقيقة أن الرجل الوقور لم يكن ليشكل عينا استثنائية، قد تكون انفردت بهذه الرؤية على سبيل الاستطراد القولي أو السلوكي، ولعل من له اطلاع متواضع على سوق الأفكار ورواجها في هذا الخصوص يجد أن ما طفق الرجل يحكيه في سذاجة وقصد غير مدخون الطوية صار منذ عقود يشكل اتجاه فكريا، وينتمي طرحه إلى منظومة فلسفية باتت تعتقد تحت سكرة المخالطة والمجاورة المكانية في دائرة المغلوبية أن للغرب مرجعية حضارية فاضلة يجب التحاكم إليها في كل شيء حتى وإن كان هذا الشيء فقها أو سلوكا أو معتقدا، بل ويجب تشريح كل التجارب البشرية على طاولتها المعرفية، ومن ثم اعتبارها في مقام الحضارة مرجعا وحيدا، ومعيارًا أوْحدًا، تُقاس على كفتي موازينه الحداثية كل الأنفاس والسكنات والحركات، يتم هذا الميل باصطفاف حائف لا يستطيع، أو أصبح أصحابه لا يستطيعون أن يُواروا أو يستروا انحيازهم النفسي المفضوح، ولقد كنت في سياق الاعتزاز بانتسابي إلى ما ينتسب إليه هو أيضا من هوية إسلامية، قد ذكرت له في سياق ضرب المثال على مضبوط المواعيد ودقة توقيعها بأصحاب الأعناق الطويلة يوم القيامة ، أي بمعشر المؤذنين، فاستدرك علي في مقام المفاضلة بين الغرب والمُمَثل بهم في هذه الخصيصة، قائلا: إن للمؤذن وظيفة مؤدى عنها فلا مجال لإقحامه في مقام المزايدة على الغرب في هذا الامتياز، لقد لمست لمس اليد مدى تأثر الرجل بالرؤية التي تسبغ على الغرب هالة من القداسة، وتصوِّر مجتمعه بالمجتمع الطوباوي المثالي الحالم، الذي نفعه أكبر من إثمه.
إنك وأنت تستمع ليُخيّل إليك أنك تواجه خطابا تبشيريا في دائرة انبهار مرضي لا يبالي صاحبه ولا يدري ـ قصد أو لم يقصد ـ أن كلامه ذلك هو مصادم لتفاصيل الوحي وإجمالاته، ولا شك أن هذا إنما جاء كنتيجة مباشرة لمنقصة فقدان الشخصية المسلمة لمقوِّم الثقة في الذات، وترهل حبل الانتساب إلى هذه الأمة المحمدية الموصولة بالله، وهو الأمر الذي لم تمس لوثته جيل الأولّين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، وانظر في هذا المقام إلى ما جاء في السيرة تخبيرًا عن رد أسامة على حكيم بن حزام رضي الله عنهما وقد غمطه واستكبر عليه أن يتدثر بكسوة ذي اليزن وهو من هو ؟؟؟ملك اليمن: فعن عِرَاك بن مالك أنَّ حَكيم بن حزام قال: كان محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أحبَّ النَّاسِ إليَّ في الجاهلية، فلما نُبِّىءَ وهاجر شهد حكيمٌ الموسمَ كافراً، فوجد حُلَّةً لذي يزن تُباع فاشتراها بخمسين ديناراً ليهديها إلى رسولِ الله، فقدم بها عليه المدينةَ فأراده على قبضِها هديةً، فأبى.
قال عبيد الله: حسبتُه قال: إنَّا لا نقبلُ من المشركينَ شيئاً، ولكن إن شئتَ بالثمنِ.
قال : فأعطيته حين أبى عليَّ الهدية.
[رواه الطبرانيُّ].
وفي روايةٍ زيادة: فلبسها فرأيتُها عليه على المنبر فلم أر شيئاً أحسنَ منه يومئذٍ فيها، ثم أعطاها أُسامةَ، فرآها حَكيمٌ على أسامةَ، فقالَ: يا أسامةُ, أتلبس حُلَّةَ ذي يزن؟! قال: نعم، والله لأنا خيرٌ منه، ولأبي خيرٌ من أبيه، فانطلقتُ إلى مكةَ فأعجبتُهم بقوله...
إن هذه الإلماحة الاستدراكية من سيدنا أسامة رضي الله عنه على سيدنا حكيم بن حزام، إنّما هي إشارة تبتسر صلة ذلك الجيل بهويته، ومدى قوة انتسابه لعروة دينه، وإدراكه مبكرا لمعيارية التفاضل وعملة التصنيف التي يتحكم في رواجها الاستعلاء الإيماني وما دونه فزبد ولو أعجبك كثرة خبيثه، في مقابل فقدان هذا الجيل المستنسخ لبوصلة تحديد الوجهة وتعيين الهدف، وتضييع منخلة الفزع إلى نصوص الوحي التي تقرر ـ في تجرد ـ التصنيف الوازن والمقبول على ضوء وهدى ما تواتر منها في هذا الخصوص كقوله جل جلاله: " {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} " (ص28).
وكم يؤسفني أن أجد في خطاب الكثير من مثقفينا ونخبنا الفكرية والعلمية إقبالا هائما، لا يستثني أصحابه ولا يملكون أن يستدركوا وهم يلغون (من اللغو) في جد وكد وعزيمة وإصرار، يرومون اللهج بالثناء على سيرة الذين كفروا، بعدما امتلأت قلوب هذه النخب بتعظيم مدنية الصائل المعتدي، وخرج منها توقير الوحي خائفا يترقب، فمنهم المستقل، وكثير منهم المستكثر، بينما أصبح وأضحى وأمسى وبات هذا الآخر لا يحسب محمدا عليه الصلاة والسلام إلا أعرابيا صلفا تؤثر شريعته القتل، وتُعادي رسالته الدموية السيرة الحياة أينما أناخت أنفاسها مطايا الحِلم والحُلم والأناة، فحاشاه ثم حاشاه بأبي هو وأمي...صلى الله عليه وسلم.
.............................................................................................