أرشيف المقالات

لقد حجرت واسعا!!

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
لقد حجرت واسعًا!!
 
بسم الله الرحمن الرحيم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في صلاة، وقُمنا معه، فقال أعرابيٌّ وهو في الصلاة: "اللهمَّ ارْحَمني ومحمدًا، ولا تَرحم معنا أحدًا"، فلمَّا سلَّم النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال للأعرابي: ((لقد حَجَّرتَ واسعًا))، يريد: رحمة الله[1].
 
رحمة الله جائزة الطائعين، ومرجع التائبين، ومَلاذ المُسرفين من القنوط من عفو ربِّ العالمين، إنها الغيث الذي تَنبت به القلوب المؤمنة، والنور الذي يُضيء الطُّرق الحالكة، والغَيض الذي بلغَ المؤمن غاية رُشده، والفَيض الذي تَعجِز الأقلام عن وصْف حَدِّه، فرحمة الله تعالى تَفيض على عباده جميعًا، وتَسعهم جميعًا، وبها يقوم وجودُهم، وتقوم حياتهم، وهي تتجلَّى في كلِّ لحظة من لحظات وجودهم، وفي جميع حركاتهم وسَكناتهم.
 
قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156]، وقال تعالى: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحجر: 49].
 
حُكِي أنَّ الصحابة رضوان الله عليهم تَذاكروا القرآن، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه قرأتُ القرآن من أوَّله إلى آخره، فلم أرَ فيه آيةً أرْجى وأحسنَ من قوله تبارك وتعالى: ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ﴾ [الإسراء: 84].
 
فإنه لا يُشاكل بالعبد إلاَّ العِصيان، ولا يُشاكل بالربِّ إلاَّ الغُفران، وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - قرأتُ القرآن من أوَّله إلى آخره، فلم أرَ فيه آيةً أرجى وأحسن من قوله تعالى: ﴿ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ﴾ [غافر: 1 - 3].
 
قدَّم غُفران الذنوب على قَبول التوبة، وفي هذا إشارةٌ للمؤمنين، وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأتُ جميعَ القرآن من أوَّله إلى آخره، فلم أرَ آيةً أحسنَ وأرجى من قوله تعالى: ﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحجر: 49].
 
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه قرأتُ القرآن من أوَّله إلى آخره، فلم أرَ آيةً أحسنَ وأرجى من قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
 
قلتُ - أي: القرطبي - وقرأتُ القرآن من أوَّله إلى آخره، فلم أرَ آيةً أحسنَ وأرجى من قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82][2].
 
قال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ﴾ [الأنعام: 133].
 
♦ ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ﴾ [الكهف: 58].
 
♦ ﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 54].
 
♦ ﴿ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 12].
 
أي: وعَد بها فضلاً منه وكرمًا، فلذلك أمهَلَ، وذِكر النفس هنا عبارة عن وجوده وتأكيد وعده، وارتفاع الوسائط دونه، ومعنى الكلام: الاستعطافُ منه تعالى للمتولِّين عنه إلى الإقبال إليه، وإخبارٌ منه - سبحانه - بأنه رحيمٌ بعباده، لا يَعْجل عليهم بالعقوبة، ويَقبل منهم الإنابة والتوبة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لَمَّا قضى الله الخَلْق، كتَب في كتابه على نفسه - فهو موضوع عنده - إنَّ رحمتي تَغلب غضبي))[3]؛ أي: لَمَّا أظهَر قضاءَه وأبرزَه لِمَن شاء، أظهَر كتابًا في اللوح المحفوظ - أو فيما شاءَه - مُقتضاه خبرُ حقٍّ ووعدُ صِدْقٍ: (إنَّ رحمتي تَغلب غضبي)؛ أي: تَسبقه، وتَزيد عليه[4].
 
وقال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
 
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ ناسًا من أهل الشِّرك كانوا قد قتَلوا وأكْثَروا، وزَنَوا وأكْثَروا، فأَتَوْا محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا: إنَّ الذي تقول وتدعو إليه لحسَنٌ، لو تُخبرنا أنَّ لِما عَمِلنا كفارةً، فنزَل: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ...
[الفرقان: 68]، ونزَلَت: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 53][5].
 
وعن ابن عمر عن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لَمَّا اجتَمَعنا على الهجرة، اتَّعَدْتُ أنا وهشام بن العاص بن وائل السَّهمي، وعيَّاش بن أبي ربيعة بن عتبة، فقلنا: الموعدُ أضاة بني غفار، وقلنا: مَن تأخَّر منَّا، فقد حُبِس، فليَمضِ صاحبه، فأصبَحتُ أنا وعيَّاش بن عتبة، وحُبِس عنَّا هشام، وإذا به قد فُتِن فافْتُتِن، فكنَّا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عرَفوا الله - عزَّ وجلَّ - وآمنوا برسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ثم افْتُتِنوا لبلاءٍ لَحِقهم، لا نرى لهم توبة، وكانوا هم أيضًا يقولون هذا في أنفسهم، فأنزَل الله - عزَّ وجلَّ - في كتابه: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 53]، إلى قوله تعالى: ﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [الزمر: 60]، قال عمر: فكتَبتها بيدي، ثم بَعَثتها إلى هشام، قال هشام: فلمَّا قَدِمَت عليّ، خرَجتُ بها إلى ذي طوًى، فقلت: اللهمَّ فَهِّمْنِيها، فعرَفت أنها نزَلت فينا، فرجَعت فجلَست على بعيري، فلَحِقت برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم"[6].
 
قال سيد رحمه الله: "إنها الرحمة الواسعة التي تَسع كلَّ معصية كائنة ما كانت، وإنها الدعوة للأَوْبة، دعوة العُصاة المُسرفين الشاردين المُبعدين في تيه الضلال، دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله.
 
إنَّ الله رحيم بعباده، وهو يعلم ضَعفهم وعجزَهم، ويعلم العواملَ المُسَلَّطة عليهم من داخل كِيانهم ومن خارجه، ويعلم أنَّ الشيطان يَقعد لهم كلَّ مرصدٍ، ويأخذ عليهم كلَّ طريق، ويَجلب عليهم بخيله ورَجِله، وأنه جادٌّ كل الجدِّ في عمله الخبيث، ويعلم أنَّ بناء هذا المخلوق الإنساني بناءٌ واهٍ، وأنه مسكين سَرعان ما يَسقط، إذا أَفْلَت من يده الحبل الذي يَربطه والعُروة التي تشدُّه، وأنَّ ما رُكِّب في كِيانه - من وظائفَ، ومن ميولٍ، ومن شهوات - سَرعان ما يَنحرف عن التوازن، فيشطُّ به هنا أو هناك، ويُوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازُن السليم.
 
يعلم الله سبحانه عن هذا المخلوق كلَّ هذا، فيَمُدُّ له في العون، ويُوسع له في الرحمة، ولا يأخذه بمعصية؛ حتى يُهيِّئ له جميع الوسائل؛ ليُصلِح خطأَه، ويُقيم خُطاه على الصِّراط، وبعد أن يَلِج في المعصية، ويُسرف في الذنب، ويَحسب أنه قد طُرِد وانتهى أمرُه، ولَم يَعُد يقبل ولا يستقبل.
 
في هذه اللحظة - لحظةِ اليأس والقنوط - يسمع نداء الرحمة النَّدي اللطيف: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
 
وليس بينه - وقد أسْرَف في المعصية، ولَجَّ في الذنب، وأبَق عن الحِمى، وشَرَد عن الطريق - ليس بينه وبين الرحمة النَّديَّة الرَّخيَّة، وظلالها السمحة المُحْيِية، ليس بينه وبين هذا كلِّه إلاَّ التوبة، التوبة وحْدها، الأَوْبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بوَّاب يَمنع، والذي لا يحتاج من يَلِج فيه إلى استئذانٍ؛ ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الزمر: 54 - 55].
 
الإنابة والإسلام، والعودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام - هذا هو كلُّ شيء بلا طقوس ولا مراسمَ، ولا حواجزَ ولا وُسطاءَ، ولا شُفعاءَ!
 
إنه حساب مباشر بين العبد والرب، وصِلة مباشرة بين المخلوق والخالق، مَن أرادَ الأَوْبة من الشاردين، فليَؤُبْ، ومَن أرادَ الإنابة من الضالين، فليُنِب، ومَن أراد الاستسلام من العُصاة، فليَسْتَسْلِم.
 
ولْيَأْتِ، لِيْأَتِ وَليَدْخل، فالباب مفتوحٌ، والفيء والظِّل، والندى والرَّخاء، كلُّه وراء الباب، لا حاجبَ دونه ولا حسيب!"[7].
 
وقال تعالى: ﴿ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [غافر: 1 - 3].
 
رُوِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه افتقَد رجلاً ذا بأسٍ شديد من أهل الشام، فقيل له: تتابَع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه: اكتُب من عمر إلى فلانٍ، سلامٌ عليك، وأنا أحْمَد الله إليك الذي لا إله إلاَّ هو، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [غافر: 1 - 3]، ثم ختَم الكتاب، وقال لرسوله: لا تَدفعه إليه؛ حتى تَجده صاحيًا، ثم أمَر مَن عنده بالدعاء له بالتوبة، فلمَّا أَتَتْه الصحيفة، جعَل يَقرؤها ويقول: قد وعَدني الله أن يغفرَ لي، وحَّذرني عقابَه، فلم يَبرح يُرَدِّدها حتى بكى، ثم نزَع، فأحسَن النزوع، وحَسُنت توبتُه، فلمَّا بلَغ أمرُه، قال: هكذا فاصْنَعوا إذا رأيتُم أحدَكم قد زلَّ زلَّة، فسَدِّدوه، وادْعُوا الله له أن يتوبَ عليه، ولا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه"[8].
 
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ الله تعالى خلَق الرحمة يوم خلَقها مائة رحمة، فأمسَك عنده تسعًا وتسعين رحمة، وأرسَل في خلقه كلِّهم رحمةً واحدة، فلو يعلم الكافر بكلِّ الذي عند الله من الرحمة، لَم يَيْئَس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكلِّ الذي عند الله من العذاب، لَم يَأْمَن من النار))[9].
 
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لو تعلمون قدرَ رحمة الله، لاتَّكَلْتُم عليها))[10].
 
وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا الحديث الجليل (حجَّرتَ)؛ أي: ضيَّقت وزنًا ومعنًى، ورحمة الله واسعة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156].
 
فأنكَر صلَّى الله عليه وسلَّم على الأعرابي؛ لكونه بَخِلَ برحمة الله على خَلْقه، وقد أثنَى الله تعالى على مَن فعَل خلاف ذلك؛ حيث قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
 
وتتجلَّى من وراء تلك النصوص طبيعة هذه الأُمَّة المسلمة، وصورتها الوضيئَة في هذا الوجود، تتجلَّى الآصرة القوية الوثيقة التي تَربط أوَّل هذه الأُمَّة بآخرها، وآخرَها بأوَّلها، في تضامُن وتكافلٍ، وتوادٍّ وتعاطُفٍ، وشعور بوشيجة القُربى العميقة التي تتخطَّى الزمان والمكان، والجنس والنَّسَب، وتتفرَّد وحْدها في القلوب، تُحرِّك المشاعر خلال القرون الطويلة، ويَذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة، كما يَذكر أخاه الحي أو أشدَّ، في إعزازٍ وكرامةٍ وحبٍّ، ويَحسب السلف حسابَ الخلف، ويمضي الخلفُ على آثار السلف صفًّا واحدًا، وكتيبة واحدة على مدار الزمان واختلاف الأوطان، تحت راية الله تُغذُّ السير صعدًا إلى الأُفق الكريم، مُتطلِّعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم.
 
إنها صورة باهرة تمثِّل حقيقة قائمة، كما تمثِّل أرفعَ وأكرم مثال للبشرية، يتصوَّره قلب كريمٌ، صورة تبدو كرامتها ووضاءَتها على أتِّمها، حين تُقرَن مثلاً إلى صورة الحقد الذميم والهدْم اللئيم - التي تُمَثِّلها وتُبَشِّر بها الشيوعيَّة في إنجيل كارل ماركس - صورة الحقد الذي يَنغَل في الصدور، ويَنخُر في الضمير على الطبقات، وعلى أجيال البشرية السابقة، وعلى أُممها الحاضرة التي لا تَعتنق الحقد الطبقي الذميم، وعلى الإيمان والمؤمنين من كلِّ أُمَّة وكلِّ دين!
 
صورتان لا الْتِقَاءَ بينهما في لَمحة ولا سِمة، ولا لَمْسة ولا ظلٍّ، صورة ترفع البشريَّة إلى أعلى مَراقيها، وصورة تَهبط بها إلى أدنى دَرَكاتها، صورة تُمَثِّل الأجيال - من وراء الزمان والمكان، والجنس والوطن، والعَشيرة والنَّسب - مُتضامنة مترابطة، متكافلة مُتَوادَّة متعارفة، صاعدة في طريقها إلى الله، بريئة الصدور من الغِلِّ، طاهرة القلوب من الحقد، وصورة تُمَثِّل البشرية أعداء متناحرين، يَلقى بعضهم بعضًا بالحقد والدَّغَل والغش، والخداع والالْتِوَاء؛ حتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة، فالصلاة ليست سوى أُحْبُولة، والدين كلُّه ليس إلاَّ فخًّا يَنصبه رأس المال للكادحين؛ ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
 
هذه هي قافلة الإيمان، وهذا هو دعاء الإيمان، وإنها لقافلةٌ كريمة، وإنه لدعاءٌ كريم[11].

[1] رواه البخاري، كتاب الأدب، برقْم (5551).

[2] تفسير القرطبي، ج (10)، ص (322).

[3] مسلم، كتاب التوبة، برقْم (4941).

[4] تفسير القرطبي، ج (6)، ص (395).

[5] البخاري، كتاب تفسير القرآن، برقْم (4436).

[6] تفسير القرطبي، ج (15)، ص (267)، ورواه الحاكم ج (2) ص (435)، وقال: هذا حديث صحيحٌ على شرط مسلم، ولَم يُخرِّجاه، وأقرَّه الذهبي، وقال الهيثمي في مَجمع الزوائد ج (6) ص (61): رَواه البزَّار، ورجاله ثِقات.

[7] في ظلال القرآن، دار الشروق، ص (3058).

[8] تفسير القرطبي، ج (15)، ص (291).

[9] رواه البخاري، كتاب الرقائق برقْم (5988).

[10] رواه البزَّار، (صحيح)؛ انظر: حديث رقم (5260) في صحيح الجامع.

[11] الظلال، دار الشروق، ص (3527).

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢