أرشيف المقالات

حق المسلم واحد ولا فرق بين الحي والميت

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
حق المسلم واحد ولا فرق بين الحي والميت

أكد الله -تعالى- على حق المسلم على أخيه المسلم، سواء كان ذلك المسلم حيًّا أم ميتًا، فكما شرع الله -تعالى- زيارةَ المسلم الحي والسلام عليه، شرع الله زيارةَ قبر المسلم الميت والسلام عليه، وكما شرع الله السلام على المسلم الحي عند المرور به، شرع السلامَ على المسلم الميت عند المرور بقبره، وإن لم تقصد زيارته والسلام عليه، وكما حرَّم الله -تعالى- أذية المسلم الحي بقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: (المسلم أخو المسلم، لا يظلِمه، ولا يخذُله، ولا يحقِره)؛ رواه مسلم، وقوله: (لا ضرر، ولا ضرار)؛ السلسلة الصحيحة، كذلك حرَّم الله أذية المسلم الميت بقول رسول الله: (كسرُ عَظْمِ الميِّتِ ككسرِه حيًّا)؛ مشكاة المصابيح، وقوله: (لأنْ يجلسَ أحدُكم على جمرةٍ فتحرقَ ثيابَه فتخلُصَ إلى جِلْدِه، خَيْرٌ له من أن يجلسَ على قبر)؛ رواه مسلم، وغيرها من الأحاديث التي تنهى عن أذية المسلم، سواء كان حيًّا أو ميتًا، وتحفظ له حقه على أخيه المسلم، سواء كان حيًّا أو ميتًا، ومن تمام هذا الحق وكماله حضورُ مجالسهم، ومشاركة المسلمين أفراحَهم وأحزانهم، شريطة أن تخلوَ تلك المجالس من المنكَرات والآثام، ولا فرق بينهما، سواء كانت في المآتم والأحزان أو الأفراح والأعراس، فالمنكرات مأمورون بتغييرها وإزالتها في كل زمان ومكان، شريطة ألا يؤديَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى حصول منكَرٍ أشدَّ وأعظمَ من المنكر المراد تغييرُه وإزالته، كما بيَّن ذلك شيخُ الإسلام ابن تيمية وغيرُه من العلماء، فإذا كانت الأفراح والأعراس تقام فيها المعاصي والمنكَرات، فلا يجوز للمسلم حضورُها، ومَن حضَرها فعليه أن يُنكرَها بلسانه، فإن لم يستطِعْ، فليغادرْها، شريطة ألا يؤديَ إنكارُه للمنكر إلى حصول منكر أشدَّ من المنكَر المراد تغييرُه، وكذلك إذا كانت مجالس الجنائز والأحزان تقام فيها المنكرات، فلا يجوز للمسلم حضورُها، ومَن حضرها فعليه أن ينكرها أو يغادرها، شريطة ألا تحدث مفسدة أشدُّ وأعظم، فالأصل عدم حضور المجالس التي تقام فيها المعاصي والمنكرات، كما هو الأصل حضور المجالس التي تقام فيها الطاعات، ولا فرق بين الحالين، سواء كان صاحب الحق حيًّا أو ميتًا، راضيًا بالمنكَراتِ أو غيرَ راضٍ، إلا أنه إذا كان صاحب الحق راضيًا ومقرًّا أو موصيًا به، فحينها يحرم الحضور قطعًا، ويجب على المسلم تركُ ذلك الحق، وعدم القيام به، وهناك مسألة أخرى مهمة يجهلها الكثيرون فيظنون أن المعنيَّ بالحق في مجالس الأفراح والأحزان هو الشخص المعنيُّ بها فقط، فمثلاً في العُرْس يكون الزوجان هما المعنيين بالحق فقط، وفي المأتم يكون الميت هو المعنيَّ بالحق فقط، وهذا خطأ وفهم قاصر، والحق أنه إذا كان صاحب الحق من أقاربك فإن أقاربه لهم حقٌّ عليك أيضًا، ويجب عليك حضور تلك المجالس، وهذا من باب صلة الأرحام، وقطعًا إذا خلت تلك المجالس من المخالَفات الشرعية والمحرَّمات اللفظية والفعلية، أما إذا كان صاحب الحق ليس من أقاربك، فأقاربه لهم حقٌّ عليك أيضًا، ولكن بدرجة أقل، وهذا من باب حق المسلم على أخيه المسلم، فيستحب حضور تلك المجالس ومشاركتهم أفراحَهم وأحزانهم، وحقُّ المسلم واحد، سواءٌ كان حيًّا أو ميتًا، ثابت بالشرع، مدرَك بالعقل، معمول به عرفًا؛ ولهذا فالتفريق بين حق المسلم إذا كان حيًّا أو ميتًا هو تفريق باطل، ولا دليل عليه، لا من القرآن، ولا من السنَّة، ولا من إجماع السلف المعتبر، ومما أدهشني ودفعني لكتابة هذا أني سمعت أحدَ المشايخ الكرام يفرِّق بينهما، وأفتى بجواز حضور صلاة الجنازة التي تقام فيها المنكَرات بدعوى أن صلاة الجنازة حق الميت، وعدم حضور مجالس الأفراح التي تقام فيها المنكَرات، بدعوى أن هذا حق الأحياء، فأقول: أين الدليل الشرعي على هذا التفريق أولاً؟ ثم أين الدليل العقليُّ عليه ثانيًا؟ فصاحب الحق سواءٌ كان حيًّا أو ميتًا، إما أن يكون راضيًا بالمنكر ومقرًّا له أو موصيًا به، ففي هذه الحالة لا يجوز حضور تلك المجالس قطعًا؛ فالشرع ينهانا عن حضور مجالس أهل الباطل وتكثير سوادهم، وأما إذا كان صاحب الحق غيرَ راضٍ بالمنكَر، ولا مقرًّا له، ولا موصيًا به، وحدَث المنكَرُ خارجًا عن قدرته وإرادته ولا قدرة له على منعه وإزالته، فلا يجوز الحضور أيضًا للمنكرات الموجودة فيها، بل وصح عن النبي الكريم أنه ترك الصلاة على من غلَّ (سرق) من الغنائم قبل قسمتها، وعلى من مات بالحدِّ، وعلى من مات وعليه دَين؛ فصلاة الجنازة حق للميت، وقد تركها رسول الله لعذر شرعي؛ ولهذا أقول: على الشيخ الكريم أن يعامل أخاه المسلم الحي كما يُعامِلُ أخاه المسلم الميِّتَ، فإما أن يفتي بجواز إقامة حقيهما أو يمنع إقامة حقيهما؛ إذ لا فرق بينهما كما أنه لا فرق بين حق المسلم الحي والميت، فالتفريق بينهما باطلٌ شرعًا، منكَرٌ عقلاً، فحقُّهما واحد، ولا فضل لميت على حي؛ إذ مقياس التفاضل بين الناس هو التقوى، والتقوى أمرٌ غيبي، لا يعلمها إلا العلي القدير، بل الشرع والعقل يخالفان ما ذهَب إليه الشيخ الكريم، فنحن مأمورون بعدم حضور مجالس اللغو والمعاصي والآثام، كما أُمِرنا بحضور مجالس الذكر والطاعات، والشرع أجاز لمن لم يصلِّ على أخيه المسلم لعذر شرعي أن يذهَبَ إلى قبره ويصليَ عليه؛ كما فعل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مع المرأة التي كانت تقُمُّ المسجد كما جاء في الحديث: أن امرأةً سوداءَ كانت تقمُّ المسجد أو شابًّا، ففقدها رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، قال: (أفلا كنتم آذنتُمونِي؟)، قال: فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمرَه، فقال: (دلُّوني على قبرِه)، فدلوه فصلى عليها، قال: (إن هذِه القبور مملوءةٌ ظلمةً على أهلِها، وإِن الله ينوِّرُها لهم بصلاتي عليهم)؛ متفق عليه، والعقل يقول: الميت إذا لم تقُمْ بحقه لعذر شرعي، فأنت معذور أمام الله أولاً، ثم أمامه ثانيًا، وتأمن عتابه وخصومته إذا كان صالحًا، وتأمن شرَّه وبغيه إذا كان فاسدًا، أما الحي إذا لم تقُمْ بحقه لعذر شرعي، فأنت مأجور عند الله ومعذور، ولكنك لا تأمن عتابه وخصومته ولو كان صالحًا، فقد يخاصمك العمر كله، وإذا كان فاسدًا فقد لا تأمن شره وبلاه، ويبقى تأدية حق المسلم حيًّا كان أو ميتًا ثابتًا بالشرع والعقل والعرف، شريطة ألا يرافق ذلك ارتكابُ مخالفات ومحرمات شرعية، والله تعالى أجل وأعلى وأعلم.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١