«السحور»
مدة
قراءة المادة :
16 دقائق
.
قال الإمام الحجاوي -رحمه الله-: (وَتَأْخيرُ سُحورٍ).وَالْحَديثُ عَنْ هَذِهِ السُّنَّةِ سَيَكونُ فِي مَسائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَعْريفُ السُّحُورِ:
السَّحُورُ بِالْفَتْحِ: اسْمٌ لِمَا يُؤكَلُ فِي السَّحَرِ، وَبِالضَّمِّ: اسْمٌ لِلْفِعْلِ؛ أي: الْأَكْلَ نَفْسَهُ.
وَأَجازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكونَ اسْمًا لِلْفِعْلِ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ[1].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حُكْمُ السُّحورِ:
أَجْمَعَ الْعُلَماءُ عَلَى أَنَّ السُّحورَ مَنْدوبٌ إِلَيْهِ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ واجِبًا، وَلَا يَأْثَمُ مَنْ تَرَكَهُ، قَالَ الْعَيْنِيُّ –رَحِمَهُ اللهُ-: "الْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي مُقْتَضاهُ الْوُجوبُ هُوَ الْمُجَرَّدُ عَنِ الْقَرائِنِ، وَهَهُنَا قَرينَةٌ تَدْفَعُ الْوُجوبَ، وَهُوَ أَنَّ السُّحورَ إِنَّمَا هُوَ أَكْلٌ لِلشَّهْوَةِ وَحِفْظِ الْقُوَّةِ، وَهُوَ مَنْفَعَةٌ لَنَا، فَلَوْ قُلْنَا بِالْوُجوبِ يَنْقَلِبُ عَلَيْنَا، وَهُوَ مَرْدودٌ"[2].
وَقَدْ نَقَلَ الْإِجْماعَ عَلَى هَذَا جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ[3].
وَقَدْ حَضَّ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أُمَّتَهُ عَلَى السُّحُورِ، وَنَدَبَهُمْ إِلَيْهِ؛ فَقَالَ: «تَسَحَّرُوْا فَإِنَّ فِي السّحُورِ بَرَكَةٌ»[4].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَقْصودُ بِالْبَرَكَةِ الَّتِي عُلِّلَ بِهَا السُّحورُ:
قَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَهَذِهِ الْبَرَكَةُ الْمُعَلَّلُ بِهَا السُّحُورَ يَجوزُ أَنْ تَكونَ أُخْرَوِيَّةً؛ لِأَنَّ فِيهِ مُتابَعَةَ السُّنَّةِ، وَهِيَ موجِبَةٌ لِلثَّوابِ وَزِيادَتِهِ وَثَمَرَتِهِ، وَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِهِ ذِكْرٌ وَدُعاءٌ وَوُضُوءٌ وَصَلاةٌ وَاسْتِغْفارٌ فِي وَقْتٍ شَريفٍ، تَنْزِلُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، وَيُسْتَجابُ فِيهِ الدُّعاءُ، وَقَدْ يَدُومُ ذَلِكَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَكُلُّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِمَزيدِ الْأُجورِ.
وَيَجوزُ أَنْ تَكونَ دُنْيَوِيَّةً كَقُوَّةِ الْبَدَنِ عَلَى الصِّيَامِ، وَالنَّشاطِ لَهُ، وَيَحْصُلَ لَهُ بِسَبَبِهِ الرَّغْبَةُ فِي الاِزْدِيادِ مِنَ الصَّوْمِ لِخِفَّةِ الْمَشَقَّةِ عَلَى فاعِلِهِ ...، وَيَجوزُ أَنْ تَكونَ الْبَرَكَةُ بِمَجْموعِ الْأَمْرَيْنِ.
وَحَاصِلُ الْبَرَكَةِ فِي السُّحورِ يَتَنَوَّعُ أَنْواعًا:
أَوَّلُهَا: اتِّباعُ السُّنَّةِ وَالِاقْتِداءُ.
ثَانِيهَا: مُخالَفَةُ أَهْلِ الْكِتابِ فِي الزِّيَادَةِ فِي الْأَكْلِ عَلَى الْإِفْطارِ كَمَا سَتَعْلَمُهُ بَعْدُ.
ثالِثُهَا: التَّقَوِّي بِهِ وَالنَّشاطُ لِلصَّوْمِ سِيَمَا الصِّبْيانُ.
رابِعُهَا: التَّسَبُّبُ لِلصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ إِذْ ذاكَ.
خامِسُهَا: التَّسَبُّبُ فِي ذِكْرِ اللهِ وَالدُّعاءِ وَلِلرَّحْمَةِ، فَإِنَّهُ وَقْتُ الْإِجابَةِ.
سادِسُها: التَّسَبُّبُ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ، فَإِنَّهُ إِذَا جاعَ رُبَّمَا ساءَ خُلُقُهُ.
سابِعُهَا: تَجْديدُ نِيَّةِ الصَّوْمِ، فَيَخْرُجُ مِنْ خِلافِ مَنْ أَوْجَبَ تَجْديدَهَا إِذَا نامَ ثُمَّ تَنَبَّهَ"[5].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ:
كُلُّ ما حَصَلَ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ حَصَلَتْ بِهِ فَضيلَةُ السُّحورِ:
• لِحَديثِ أَبِي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «السُّحُورُ أَكْلَةٌ بَرَكَةٌ فَلَا تَدَعُوهُ، وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جرْعَةً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ»[6].
• وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ»[7].
فَتَحْصُلُ فَضيلَةُ السُّحورِ بِكُلِّ ما يَكُونُ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ، وَلَكِنْ كَمالُ فَضيلَتِهِ بِالْأَكْلِ؛ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ: أَكْلَةُ السَّحَرِ»[8]، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَالْأَشْبَهُ: أَنَّهُ إِنْ قُدِّرَ عَلَى الْأَكْلِ؛ فَهُوَ السُّنَّةُ"[9].
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَقْتُ السُّحورِ:
اِخْتَلَفَ الْعُلَماءُ فِي تَحْديدِ وَقْتِ السُّحورِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ وَقْتَ السُّحورِ مَا بَيْنَ نِصْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ إِلَى طُلوعِ الْفَجْرِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهورِ الْفُقَهاءِ؛ مِنَ الْحَنابِلَةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَالْمالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ[10].
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ وَقْتَ السُّحورِ ما بَيْنَ السُّدُسِ الْأَخيرِ وَطُلوعِ الْفَجْرِ.
وَهَذَا قَالَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ[11].
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: سُنِّيَةُ تَأْخيرِ السُّحورِ، وَبَيانُ الْعِلَّةِ فِي سُنِّيَةِ تَأْخيرِهِ:
يُسَنُّ تَأْخيرُ السُّحورِ، وَقَدْ حَكَى غَيْرُ واحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْإِجْماعَ[12].
وَذَكَرَ الْإِمامُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّ أَحَادِيثَ الْأَمْرِ بِالتَّسَحُّرِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَتَأْخيرِهِ، وَتَعْجيلِ الْفِطْرِ، مُتَواتِرَةٌ صِحَاحٌ[13].
وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ تَأْخيرُ السُّحورُ؛ لِكَوْنِهِ أَبْلَغَ فِي الْمَقْصودِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: كانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَنْظُرُ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ بِأُمَّتِهِ فَيَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَسَحَّرْ لَاتَّبَعوهُ فَيَشُقُّ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَلَوْ تَسَحَّرَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ لَشَقَّ أَيْضًا عَلَى بَعْضِهِمْ مِمَّنْ يَغْلُبُ عَلَيْهِ النَّوْمُ، فَقَدْ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الصُّبْحِ، أَوْ يَحْتاجُ إِلَى الْمُجاهَدَةِ بِالسَّهَرِ، وَقَالَ: فِيهِ أَيْضًا تَقْوِيَةٌ عَلَى الصِّيامِ؛ لِعُمومِ الِاحْتِياجِ إِلَى الطَّعامِ، وَلَوْ تُرِكَ لَشَقَّ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ كانَ صَفْراوِيًّا؛ فَقَدْ يُغْشَى عَلَيْهِ فَيُفْضِي إِلَى الْإِفْطارِ فِي رَمَضانَ"[14].
تَنْبيهٌ: وَالسُّنَّةُ فِي تَأْخيرِ السُّحورِ عِنْدَ جُمْهورِ الْفُقَهاءِ ما لَمْ يُخْشَ طُلُوعُ الْفَجْرِ الثَّانِي[15]؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وَالْمُرادُ بِالْفَجْرِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْفَجْرُ الثَّانِي؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ، وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ، وَلَكِنِ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ»[16].
وَالصَّحيحُ مِنْ قَوْلَي الْعُلَماءِ: أَنَّ وَقْتَ السُّحورِ عِنْدَ طُلوعِ الْفَجْرِ الْكاذِبِ؛ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةٌ»[17]، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ: أَنَّ السُّحورُ مَأْخوذٌ مِنَ السَّحَرِ، وَالسَّحَرُ هُوَ آخِرُ اللَّيْلِ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَكونُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ قَبْلَ طُلوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ، وَإِنَّمَا وَصَفَ السُّحورَ بِكَوْنِهِ سُحورًا؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي هَذَا الْوَقْتِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الْحَدُّ الَّذِي بِتَبَيُّنِهِ يَجِبُ الْإِمْساكُ:
أَمَّا الْحَدُّ الَّذِي يَجِبُ بِتَبَيُّنِهِ الْإِمْساكُ فهُوَ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْإِسْفارُ فِي الطُّرُقِ وَالْبُيوتِ وَالْمَساجِدِ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ[18]، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمَذاهِبُ الْأَرْبَعَةُ[19]، وَنُقِلَ الْإِجْماعُ عَلَى هَذَا[20].
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ؛ مِنْهَا:
• حَديثُ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ سحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا بَيَاضُ الْأُفُقِ الْمُسْتَطِيلِ هَكَذَا؛ حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا»، وحَكَاهُ حَمَّادُ -أَحْدُ رُواةِ الْحَدِيثِ- بِيدِيهِ، قَالَ: يَعْنِي: مُعْتَرِضًا[21]، أي: أَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ خَطٍّ مُسْتَقيمٍ دَقيقٍ، وَإِنَّمَا حَتَّى يَنْتَشِرَ.
• وَفِي حَديثِ ابْنِ مَسْعودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «إِنَّ الْفَجْرَ لَيْسَ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا -وَجَمَعَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ نَكَسَهَا إِلَى الْأَرْضِ-؛ وَلَكِنِ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا -وَوَضَعَ الْمُسَبِّحَةَ عَلَى الْمُسَبِّحَةِ وَمَدَّ يَدَيْهِ-»[22]؛ فَيَنْتَشِرُ يُمْنَةً وَيُسْرَةً؛ وَلِذَا لَا يَكونُ بِمُجَرَّدِ ظُهورِ الْخَطِّ الدِّقيقِ حَتَّى يَسْتَبينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: هَلْ يُجْزِئُ التَّسَحُّرُ عَنِ النِّيَّةِ؟
اخْتَلَفَ الْعُلَماءُ فِي إِجْزاءِ التَّسَحُّرِ عَنِ النِّيَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّسَحُّرَ يُجْزِئُ عَنْ نِيَّةِ الصِّيَامِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنابِلَةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ[23].
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: "إِذَا تَناوَلَ الْإِنْسانُ الْعِشاءَ وَبِقَلْبِهِ أَنَّهُ سَيَصومُ مِنَ الْغَدِ فَإِنَّها نِيَّةٌ تُجْزِئُهُ"[24].
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّسَحُّرَ لَا يُجْزِئُ عَنِ نِيَّةِ الصِّيامِ.
وَهَذَا قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ[25].
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: حُكْمُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِماعِ حَالَ الشَّكِّ فِي طُلوعِ الْفَجْرِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَلَوْ شَكَّ فِي طُلوعِ الْفَجْرِ جازَ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِماعُ وَغَيْرُهَا بِلَا خِلافٍ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْفَجْرَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، ولِمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: «كُلْ مَا شَكَكْتَ حَتَّى يَتَبَيَّن لَكَ»[26]، وَفِي رِوايَةٍ عَنْ حَبيبِ ابْنِ أَبِي ثابِتٍ قَالَ: «أَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلَيْنِ يَنْظُرَانِ الْفَجْرَ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَصْبَحْتَ، وَقَالَ الْآخَرُ: لَا، قَالَ: اخْتَلَفْتُمَا.
أَرِنِي شَرَابِي»[27].
وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَرِنِي شَرَابِي» جارٍ عَلَى الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ يَحِلُّ الشُّرْبُ وَالْأَكْلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْفَجْرُ، وَلَوْ كانَ قَدْ تَبَيَّنَ لَمَا اخْتَلَفَ الرَّجُلانِ فِيهِ؛ لِأَنَّ خَبَرَيْهِمَا تَعارَضا، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: «أَصْبَحْتَ» لَيْسَ صَريحًا فِي طُلوعِ الْفَجْرِ، فَقَدْ تُطْلَقُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لِمُقارَبَةِ الْفَجْرِ"[28].
وَرُغْمَ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي جَوازِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِماعِ لِلصَّائِمِ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلوعِ الْفَجْرِ إِلَّا أَنَّ هُناكَ خِلافًا بَيْنَ الْعُلَماءِ عَلَى أَقْوالٍ، وَهِيَ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: جَوازُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِماعِ لِلصَّائِمِ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهورِ مِنَ الْحَنابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ[29].
الْقَوْلُ الثَّانِي: عَدَمُ جَوازِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِماعِ لِلصَّائِمِ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلوعِ الْفَجْرِ، وَمَنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضاءُ.
وَهَذَا الْمَشْهورُ مِنْ مَذْهَبِ الْمالِكِيَّةِ[30].
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: كَراهَةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِماعِ لِلصَّائِمِ مَعَ الشَّكِّ فِي طُلوعِ الْفَجْرِ.
وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْمالِكِيَّةِ[31].
[1] انظر: المطلع على ألفاظ المقنع (ص: 187).
[2] عمدة القاري (10/ 300).
[3] انظر: الإجماع، لابن المنذر (ص: 49)، والمغني، لابن قدامة (3/ 173)، وشرح مسلم، للنووي (7/ 206).
[4] أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (1095).
[5] الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (5/ 187).
[6] أخرجه أحمد (11396)، وضعفه ابن مفلح في الفروع (5/ 35).
[7] أخرجه أبو داود (2345)، وصححه ابن حبان (3475).
[8] أخرجه مسلم (1096).
[9] شرح العمدة (1/ 521).
[10] انظر: مختصر القدوري (ص: 212)، وشرح الزرقاني على مختصر خليل (2/ 350)، والمجموع، للنووي (6/ 360)، وشرح منتهى الإرادات (3/ 462).
[11] انظر: تبيين الحقائق (1/ 343)، ومغني المحتاج، للشربيني (2/ 166).
[12] انظر: بداية المجتهد (2/ 69)، واختلاف الأئمة العلماء (1/ 232)، والمجموع، للنووي (6/ 360).
[13] الاستذكار (3/ 345).
[14] فتح الباري، لابن حجر (4/ 138).
[15] انظر: مختصر القدوري (ص: 62)، والتنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات (1/ 381)، والمجموع، للنووي (6/ 304)، والمبدع في شرح المقنع (3/ 41).
[16] أخرجه أحمد (20158)، والترمذي (706)، وحسنه.
[17] أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (1095).
[18] انظر: الإشراف على مذاهب العلماء (3/ 118).
[19] انظر: أحكام القرآن، للجصاص (1/ 286)، وأحكام القرآن، لابن العربي (4/ 385)، والمجموع، للنووي (3/ 43)، والمغني، لابن قدامة (3/ 105).
[20] قال ابن عطية - في تفسيره (1/ 258): "وبه أخذ الناس، ومضت عليه الأمصار والأعصار، ووردت به الأحاديث الصحاح ..."، وقال القرطبي - في تفسيره (2/ 318): "وبهذا جاءت الأخبار، ومضت عليه الأمصار"، أي: على العمل به.
[21] تقدم تخريجه قبل قليل.
[22] أخرجه مسلم (1093).
[23] انظر: حاشية ابن عابدين (2/ 377)، والمجموع للنووي (6/ 298)، والمبدع في شرح المقنع (3/ 18).
[24] الفتاوى الكبرى (5/ 375).
[25] انظر: المجموع، للنووي (6/ 298).
[26] أخرجه البيهقي في الكبرى (8038).
[27] أخرجه البيهقي في الكبرى (8039).
[28] المجموع، للنووي (6/ 306)، بتصرف يسير.
[29] انظر: مراقي الفلاح (ص: 253)، والمجموع، للنووي (6/ 306)، والفروع، لابن مفلح (4/ 407).
[30] انظر: حاشية العدوي (1/ 444).
[31] انظر: حاشية العدوي (1/ 444).
____________________________________________________________
الكاتب: يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف