أرشيف المقالات

الذين لم يهاجروا

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
2الذين لم يهاجروا
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72]. يقول ابن كثير: (هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا، بل أقاموا في بواديهم، فهم كأعراب المسلمين.
ففي صحيح مسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سرية أو جيش، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمَن معه من المسلمين خيرًا، قال: ((اغزُوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا مَن كفر بالله، إذا لقيتَ عدوك من المشركين فادعُهم إلى إحدى ثلاث خصال - أو خِلال - فأيَّتهن ما أجابوك إليها فاقبَلْ منهم وكفَّ عنهم: ادعُهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبَلْ منهم وكفَّ عنهم، ثم ادعُهم إلى التحوُّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبَوا واختاروا دارَهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبَوا فادعُهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبَلْ منهم وكفَّ عنهم، فإن أبَوا فاستَعِن بالله وقاتِلْهم))[1].   وقوله: ﴿ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ﴾ [الأنفال: 72]؛ أي: وإن استنصركم هؤلاءِ الأعراب - الذين لم يهاجروا في قتال ديني - على عدوٍّ لهم فانصُرُوهم، فإنه واجب عليكم نصرهم؛ لأنهم إخوانكم في الدين، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق، أي مهادنة إلى مدة، فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم)
[2].   وفيما سبق بيانٌ لبعض مبادئ الحرب والسلام، والأحكام المنظمة للعَلاقات بين المؤمنين في دار الإسلام والمؤمنين في غير دار الإسلام؛ ومنها: 1- لا ولاية بين المؤمنين المهاجرين وغيرهم ممَّن لم يهاجروا. 2- أن على المؤمنين في غير دار الإسلام أن يهاجروا ويبذلوا الجهد، ولا يستريحوا للإقامة في أرض الكفر والمعاصي، وإذا تعرَّضوا للفتنة في الدين أو قُوتلوا قتالًا دينيًّا، فعليهم طلب النصرة من المؤمنين في دار الإسلام. 3- على المؤمنين في دار الإسلام أن ينصروا المؤمنين المستضعَفين، طالبي النصرة، في دار الحرب، في حال عدم وجود عهد أو ميثاق بين المؤمنين في دار الإسلام وأهل دار الحرب. 4- على المؤمنين في دار الإسلام أن يحترموا العهود المبرَمة بينهم وبين أهل دار الحرب، حتى ولو كان الاعتداء وكانت الفتنة واقعةً على إخوانٍ لهم في العقيدة، يقول الدكتور مصطفى زيد: (هنا، عند هذا الاستثناء في قوله تعالى: ﴿ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ﴾ [الأنفال: 72]، نحب أن نتساءل: أي شريعة غير الشريعة الإسلامية السَّمحة تحترم المعاهدات إلى هذا الحد؟ إن أرقى الحكومات في هذه الأيام - أي بعد قرابة أربعة عشر قرنًا من الزمان - تنقض المعاهدات لمجرد الاعتداء على فردٍ منها في الدولة المعاهدة، ولو لم يكن هذا الاعتداء بسبب الدين أو المبدأ السياسي، بل كان شخصيًّا بحتًا[3]! وفي هذا العصر لا تنظرُ الدُّوَلُ القوية إلى المعاهدات التي تربطها بالدول الضعيفة، إلا كما تنظر إلى قصاصة من الورق، فلا احترام لهذه المعاهدات في نظرها، بل هي تعتدي أحيانًا على الدول الضعيفة التي وقَّعت معها هذه المعاهدات؛ لتتخذ من هذا الاعتداء وسيلةً إلى إلغائها، ممثِّلة مع هذه الدول دَور الذئب مع الحَمَل، ومع أن هذا الاستثناء الذي قرَّر مبدأ احترام المعاهدات في الإسلام واضح لا غموض فيه، قوي لا يتطرق إليه الضعف؛ فإن الله تعالى يعقبه بقوله: ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72]، وهو ترغيب في الطاعة، بقدر ما هو تحذير من المعصية وتهديد للمخالفين، وبهذا الذي تنبه إليه الآية في فاصلتها من تذكير المؤمنين بأن الله مُطَّلِع على كل ما يعملون، مُدرِك كل الإدراك خفايا ما يُدبِّرون ويُنفِّذون، فالمسلمون هم أبعد الناس عن الخيانة، وهم أوفى الناس بالعهود؛ لأنهم يؤمنون بالله، والله بما يعملون بصير)[4].   ومِن هنا يتبيَّن أن رباط العقيدة هو أقوى الروابط التي لا تنفك أبدًا عن المؤمنين، وأن المؤمنين أنصار لبعضهم، وهم كالجسد الوحد، وكالبُنْيان المرصوص، مصالحهم مشتركة، وأهدافهم واحدة، يجاهدون من أجل عقيدتهم، ويُضحُّون في سبيل دينهم ودعوتهم، يتحمَّلون المشاق وترك الأوطان وملاقاة الصعاب طمعًا في الدرجات العليا في الجنة، لا مِن أجل المطامع الشخصية ولا الأغراض الدنيوية، وهم في جهادهم وعلاقاتهم تحكُمُهم شريعة ربهم عز وجل، التي تأمر بالعفو والسماحة، والعدل والإنصاف حتى مع الأعداء. فعلى الدعاة إلى الله تعالى أن يُبيِّنوا محاسن الإسلام وعظمة شريعته التي تقوم على العدل والرحمة والنفع للبشر، وما فيه الصلاح لمعاشهم ومعادهم.


[1] صحيح مسلم / شرح النووي، كتاب الجهاد والسِّير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، (عن يزيد بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه)، المجلد الرابع ص 331. [2] تفسير ابن كثير ج2، ص329. [3] كما حدث مؤخرًا في العراق، فقد كان الخلاف شخصيًّا بين حاكمها السابق وبين أمريكا وحلفائها. [4] سورة الأنفال - عرض وتفسير؛ د.
مصطفى زيد، ص 206.



شارك الخبر

المرئيات-١