أرشيف المقالات

قوة الصلة بين الزوجين .. ومخاطر الطلاق - محمد سيد حسين عبد الواحد

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
 
أيها الإخوة الكرام: إن أقوى علاقة بين بني البشر هي العلاقة بين الزوجين حيث المودة والمحبة حيث الألفة والسكن حيث التوأمة بين روحين أصلهما واحد {﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءً ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾}
وإن أسمى رباط، وإن أغلظ المواثيق البشرية، وإن أحق العقود بالوفاء هو ذلك العقد الذي يكون بين المرء وزوجه ..
قال الحكيم العليم سبحانه وتعالى {﴿ وَإِنْ أَرَدتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَىٰهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا۟ مِنْهُ شَيْـًٔا ۚ أَتَأْخُذُونَهُۥ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ، وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُۥ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا ﴾}
الصلة بين الزوجين تقوم أول ما تقوم على المحبة التي أودعها الله في قلوبهما ، {﴿ وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓا۟ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾}
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه سألت رسول الله صلي الله عليه وسلم من أحب الناس إليك يا رسول الله ؟ قال عائشة ..
ثم إن الصلة بين الزوجين تقوم بعد المحبة والمودة تقوم على الرحمة والستر وفي وصف بليغ بديع دقيق لهذا المعنى قال الله تعالى {﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ ﴾}
تقوم الصلة بين الزوجين بعد المحبة وبعد الرحمة والستر تقوم علي التسامح والتغافل والتماس الأعذار وإقالة العثرات، والمعاشرة بالمعروف قال الله تعالى {﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا۟ ٱلنِّسَآءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا۟ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّآ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُوا۟ شَيْـًٔا وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾}
لعظمة العقد ، ولجلالة الرباط بين المرء وزوجه ومن أجل أن تبقى الحياة الزوجية قائمة ، ومن أجل أن تبقى البيوت متماسكة، ومن أجل أن يبقى الرباط متصلا بين الزوجين ومن أجل ألا يحرم الولد من أحد والديه ..
سعى الإسلام بكل طريق ممكنة لحماية هذا الميثاق الغليظ حتى لا تتصدع البيوت وتنهدم على رؤوس أهلها ، وحتى لا يتيتم أطفال وآباؤهم وأمهاتهم أحياء ، وحتى لا ينفك العقد ، وحتى لا ينقطع الرباط ..
أيها الإخوة الكرام:
البيوت أبوابها مغلقة على أهلها لا يعلم ما وراء الجدران إلا الله ..
وكلنا بنو آدم ، كلنا رجالا ونساء لنا حسنات، كلنا رجالا ونساء عندنا سيئات، منا الخبيث ومنا الطيب ومنا السهل ومنا الحزن تختلف طباعنا وتتغاير نفسياتنا وتتباين أخلاقنا وتختلف كما تختلف ألواننا فلا كمال إلا لصاحب الكمال سبحانه وتعالى ..
من هنا قام الرباط المتين بين الزوجين على قبول الحسنات وعلى التغاضي عن الكثير من السيئات، وعلى السعي فى إصلاحها العيوب والتعايش معها ..
قال رب العالمين {﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُوا۟ شَيْـًٔا وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾}
وفي بيان لمعنى هذه الآية قال النبي عليه الصلاة والسلام «(لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر )»
ولذلك لما طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر لحديث كان بينهما فأخبرت به عائشة ..
طلقها رسول الله فأتت أهلها فنزل جبريل فقال يا رسول الله راجعها فإنها صوامة قوامة فراجعها النبي عليه الصلاة والسلام ..
حتى لا تنهدم البيوت ، وحتي لا ينحل ذلك العقد ، وحتى لا يقع فراق ولا طلاق بين الزوجين..
أتانا الإسلام بقائمة طويلة عريضة من وسائل الحماية للبيوت المسلمة ..
منها أن يعظ المرء زوجته وأن تعظ المرأة زوجها ، ومنها الهجر في الفراش وهذا للرجل وليس للمرأة ، ذلك أن الله أودع القوامة بين يدي الرجل قوامة الرعاية والمسئولية والإصلاح إذ الحكمة عند الرجال أكثر وتحكيم العقل عند الرجال أوفر ..
ومن وسائل الحماية التي شرعها الله تعالى لحماية البيوت المسلمة من التصدع والفراق أن يعاقب الزوج زوجته تأديبا وتهذيبا بما لا يجرح جسدا ولا يخدش وجها ولا يكسر عظما ولا يشوه نفسا وهو ما يعرف بالضرب غير المبرح قال عطاء : قلت لابن عباس ما الضرب غير المبرح ؟ قال بالسواك ونحوه ..
«قيل : يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح.
ولا تهجر إلا في البيت»»
ومن وسائل الحماية للبيوت المسلمة من الفراق والطلاق أن يتدخل من طرف الزوجة ( حكم ) ومن طرف الزوج (حكم ) من أجل الإصلاح والتوفيق والتأليف بين الزوجين ..
قال الله تعالى﴿ ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُوا۟ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ ۚ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ ۚ وَٱلَّٰتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِى ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا۟ عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ، وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُوا۟ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِۦ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحًا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾
أخرج النسائي رحمه الله :
أن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه تزوج بفاطمة بنت عتبة بن ربيعة ( وقد هلك عتبة أبوها كافرا يوم بدر )
فكان عقيل بن ابي طالب إذا دخل على زوجته فاطمة تقول : يا بني هاشم ، والله لا يحبكم قلبي أبدا !
ثم تجعل تقول : أين الذين أعناقهم كأباريق الفضة ! ترد أنوفهم قبل شفاههم ، أين عتبة بن ربيعة ، أين شيبة بن ربيعة ( وشيبة هذا عمها وقد هلك هو الآخر كافرا يوم بدر)
فكانت تقول ما تقول وعقيل رضي الله عنه يسمع ويكظم غيظه ويسكت عنها ، ويتغاضى ويتغافل ، حتى دخل عليها يوما وهو غضبان فقالت له : أين عتبة بن ربيعة ؟!
فقال : تجدينه على يسارك في النار إذا دخلت..
فأخذت فاطمة عليها ثيابها ، فجاءت عثمان رضي الله عنه فذكرت له ذلك وشكت إليه عقيلا ؛ فأرسل عثمان إليهما ابن عباس ومعاوية حكمين يحكمان بينهما ، فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما ؛ وقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف .
فأتيا عقيلا وفاطمة فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما فرجع ابن عباس ومعاوية..﴿ إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحًا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴾
( الوعظ والهجر والضرب غير المبرح وإحضار الحكمين) كل هذه الوسائل مصحوبة بالصبر وطول النفس وتحكيم العقل والتغاضي والتغافل ( من أجل الحفاظ على البيوت المسلمة ) ومن أجل أن يبق الحبل بين المرء وزوجه ممدودا ويبقى الرباط بين الزوجين معقودا ..
قال النبي عليه الصلاة والسلام " تزوجوا ولا تطلقوا ؛ فإن الطلاق يهتز منه العرش "
وقال عليه الصلاة والسلام " لا تطلقوا النساء إلا من ريبة ؛ فإن الله عز وجل لا يحب الذواقين ولا الذواقات "
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق "
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحفظنا في أنفسنا وأزواجنا وأولادنا وذرياتنا إنه ولي ذلك والقادر عليه .
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث عن قوة الصلة بين الزوجين , ومخاطر الطلاق أن نقول:
إذا فشلت كل المحاولات، ولم تنفع كل وسائل النصح والهجر ، ولم يستطع الحكمان أن يصلحا بينهما ، واستحالت العشرة فإن آخر الدواء الكي ..
ولله الأمر من قبل ومن بعد ..
قال الله تعالى ﴿ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِۦ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيمًا ﴾
آخر وسيلة من وسائل الحماية للبيوت المسلمة إقاع الطلاق ..
وإيقاع الطلاق آخر ورقة في كتاب الحياة الزوجية ثم إنه يكون مرة بعد مرة ليعطي مساحة من مراجعة النفس ومحاسبة الذات لعلهما يندمان ويرجعان ..
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا۟ ٱلْعِدَّةَ ۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّآ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُۥ ۚ لَا تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا ﴾
من وسائل الحماية للبيوت المسلمة حتى بعد إقاع الطلاق ( تشريع العدة ) وهى فترة من الزمان تقضيها المرأة في بيتها لا تخرج منه مع زوجها ينفق عليها ويحسن إليها وهي تطعمه وتتزين له رجاء أن يتعاتب الزوجان، رجاء أن يصطلحا رجاء أن تعود المياه إلى مجاريها ..
وإلا فكل يذهب إلى حال سبيله من غير أن يظلم أو يجور على حق الآخر رعاية للعشرة التي كانت بينهما وتعظيما لحدود الله تعالى قال رب العالمين ﴿ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍ ۗ ﴾
ورد أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد ، وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة ، وكان هذا في أول الإسلام برهة ، يطلق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق ، فإذا كادت تحل من طلاقه راجعها ما شاء ، ثم طلقها ثم راجعها ..
هكذا أبدا ..
فقال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم : لا آويك ولا أدعك تحلين ، قالت : وكيف ؟
قال : أطلقك وأراجعك ، ثم أطلقك وأراجعك هكذا أبداً .
فشكت المرأة ذلك إلى عائشة ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍ ۗ ﴾ نزلت الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي ، ونسخ ما كانوا عليه في الجاهلية وصدر الإسلام ..
قال ابن مسعود : ( المراد بالآية ﴿ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍ ۗ ﴾ التعريف بسنة الطلاق ، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة ، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها ، وإما أمسكها محسنا عشرتها )
ذلك أن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه وحرم على نفسه الظلم وقال ( فلا تظالموا )..
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يؤلف بين قلوبنا وأن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير .

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن