تحقيق حول كلمة (التَّـنَـمُر) - محمد بن إبراهيم الحمد
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
التنمر مصطلح حادث يحمل مدلولاتٍ خاصةً، ويدخل في مجالات شتى. ولهذا اللفظ -في هذا العصر- دويٌّ، ووهج لم يكن له من قبل، شأنه شأن كثير من الألفاظ التي ترتفع دلالتها آونةً، وتنحط آونة أخرى. وقد أطلق التنمر على ظاهرة جديدة؛ فلا ينصرف الذهن إذا أطلق التنمر إلا إلى تلك الظاهرة.
وقد عُرِّف التنمر بأنه ظاهرة تنطوي على ممارسة العنف والسلوك العدواني من قبل فرد أو مجموعة نحو فرد أو مجموعة بصورة مستمرة. ويُقْصَد بها الاعتداء على الآخرين، وإلحاق الضرر والأذى بهم بأي صورة كانت.
ويقع ذلك ممن هو أعلى على من هو أدنى؛ سواء كان ذلك الأعلى بدنيًّا، أو اجتماعيًّا، أو رتبةً، أو عُمراً، فتكون الشخصية المعتدية أقوى من المعتدى عليها.
ولبشاعة هذه الظاهرة، وخروج المعتدي عن إنسانيته وسلوكِه مسلكَ الحيوانات الضارية أطلق عليها اسم (التنمُّر) فشاع ذلك المسمى، وصار علماً على هذه الظاهرة التي عمت منها الشكوى.
ويُقَسَّم التنمر بحسب الدراسات إلى أقسام عدة؛ فمنه التنمر اللفظي الذي يكون عن طريق السب، والشتم، والسخرية، والنبز بالألقاب القبيحة المنفرة، وإطلاق عبارات التهديد والوعيد بإلحاق الضرر في المستقبل، ونحو ذلك مما يسبب الحزن، ويثير الغضب لدى من يتعرض لذلك النوع من التنمر.
ومنه التنمر الجسدي، وهو ما يكون عن طريق الضرب، والدفع، والمضايقة ونحو ذلك من أنواع الإهانة الجسدية. ومنه التنمر الاجتماعي، ويعني التسلط على أحد بالتنفير منه، وعزله، والمناداة بترك صحبته، والتحذير منه؛ ليبقى وحيداً طريداً.
ومنه التنمر الجنسي، وهو إيذاء الشخص عن طريق إطلاق العبارات الجنسية الجارحة، أو الملامسات غير اللائقة التي تقهر المعتدى عليه، وتودي به إلى القلق .
ومنه التنمر في العلاقات كمن يتنمر على شخص بتشويه سمعته، وتلفيق التهم له، ونشر الفضائح عنه.
ومنه التنمر النفسي المصحوب بالنظرات، والهمسات، والإشارات المؤذية. ومنه التنمر المدرسي، وهو ما يتعرض له الطلاب من قبل بعض زملائهم المتسلطين. ومنه التنمر السياسي، والتنمر الإلكتروني، ونحو ذلك من أنواع التنمر المتداخلة المتشابكة.
والكلام حول التنمر، وأسبابه، ودوافعه، وأنواعه، وعلاجه يطول.
والمقصود ههنا تحقيق القول في هذا المصطلح (التنمر) فالذي يظهر بادي الرأي أن هذا المصطلح مولَّد جديد، حيث يُعَرَّف بالإنجليزي حسب معجم المعاني بأنه الغضب وسوء الخلق، والتشبه بالنمر في طبعه وشراسته.
وعُرِّفَ في جامعة كامبردج بأنه قيام شخصٍ ما بِلَوْنٍ عدواني تجاه من هو أصغر أو أقل قوة منه كإيذائه، أو شتمه، أو إجباره على ما لا يريد. وهكذا تسير تعريفاته على نحو ما ذكر آنفاً.
وقد يستغرب بعض الناس من اختيار لفظ التنمر المنسوب إلى النِّمر دون غيره من الحيوانات.
وقد يَظُنُّ ظانٌّ أن تلك الألفاظ والمصطلحات وليدة العصر، أو قد يظن أن هذا المصطلح خاطئ، وأنه يمكن أن يستعمل غيره بدلاً عنه كالتسلط أو الاستئساد، ونحو ذلك.
والحقيقة أن لهذا اللفظ أصلاً في العربية، وله دلالة شائعة معبرة عن هذا المصطلح بالذات؛ فقد جاء في رائية عمر بن أبي ربيعة المشهورة (أم آل نعم) قوله:إذا زرت نُعْمًا لم يزل ذو قرابة *** لها كل ما لاقيتها يتنمَّر
عزيزٌ عليه أن أُلِمَّ بأهلها *** يُسِرُّ لي الشحناءَ والبُغْضُ مُظهَرُ
ويروى: .................................. مُسِرٌ لي الشحناءَ والبُغْضَ مُظْهِِـرُويروى: .................................. يُسِرُّ لي الشحناء والبُغْضَ يُظْهِِـرُ
ومعنى يتنمر: يثور، ويغضب، ويتشبه بأخلاق النمر، ومعنى البيت: أن هذا القريب يقابلني مكفهر الوجه عبوساً؛ فذلك دأبه معي.
وخص النَّمِر - بالذات- من بين الحيوانات لأنَّ له طبعاً حادًّا، ومزاجاً غاضباً مستمراً.
قال الأصمعي: (يقال: تنمر فلان أن تنكر، وتغيَّر؛ لأن النمر لا تلقاه أبداً إلا متنكراً غضبان).
وقيل: إن النمر أخبث من الأسد، ولا يملك نفسه عند الغضب، حتى يبلغ من شدة غضبه أن يقتل نفسه.
بل لقد جرى ذلك التعبير مجرى الأمثال؛ فصار يُكَنَّى بالنمر عن العبوس، والشدة، والغضب، والتنكر.
قال عمرو بن معدي كرب: وعَلِمْتُ أنِّي يَوْمَ ذَاكَ مُنَازلٌ كَعْباً وَنَهْدَا *** قوم إذا لبسوا الحديــد تنمروا حِلقاً وقدًّا
وكعب ونهد: قبيلتان، ومعنى البيت: علمت أنني منازل هؤلاء، فأعددت لهم هذا السلاح؛ لعلمي بالحاجة إليه.
وقوله: (تَنَمَّرُوا) : أي تشبهوا بالنمر في أفعالهم في الحرب.
قال ابن بري: (أراد بكعب: بني الحارث بن كعب، وهم من مَذْحِجٍ، ونهدٌ من قضاعة، وكانت بينهم حروب).
ومعنى تنمروا: تنكروا لعدوِّهم، وأصله من النَّمِر؛ لأنه من أنكر السباع، وأخبثها.
ويقال: (لَبِسَ فلانٌ لفلانٍ جلد النِّمر): إذا تنكَّر له.
قال: كانت ملوك العرب إذا جلست لقتل إنسان لبست جلود النمر، ثم أمرت بقتل من تريد قتله.
ويقال -كما في حديث الحديبية-: (قد لبسوا لك جلود النمور) وهو كناية عن شدة الحقد، والغضب تشبُّهاً بأخلاق النمر وشراسته).
ومن هنا اشتق من ذلك مادة (نَمِرْ) وما يتصرف منها؛ يقال: نَمِرَ الرجل، ونَمَّر، وتنمَّر: غضب، يتنمر تنمُّراً، وهو مُتنمِّر.
ويقال للرجل السيِّء الخلق: قد نَمِرَ وتنمَّر، ونمَّر وجهه: أي غيَّره، وعبَّسه.
والنَّمِر بفتح النون، وكسر الميم، ويجوز إسكان الميم مع فتح النون وكسرها، هكذا: (النَّمْر) و(النِّمْر).
وكنية النمر: أبو الأسود، وأبو الأبرد، وأبو جهل، والأنثى: أم رقاش.
والحاصل أن هذا التعبير بالتنمر تعبير عربي صحيح، ودلالته على تلك الظاهرة دلالة صحيحة.
وبعض الباحثين يجعله مرادفاً للتمرد - كما في صنيع الدكتورة وسن منصور الحلو في بحثها الموسوم (التنمر في شعر الفرزدق) حيث عدَّت التنمر أعلى درجات التمرد النفسي، وعرفته بأنه فعل سلوكي مضاد يحدث في حالة الشعور بفقدان الحرية، ومن ثم يعد رد فعل لذلك الشعور. وقد طبقت ذلك في دراستها للفرزدق من هذه الناحية من خلال شعره.
والحقيقة أن التنمر الذي قصدته الباحثة، وجعلته مرادفاً للتمرد ليس هو المقصود من التنمر؛ إذ التمرد ردة فعل، أو خروج عن المألوف. وأما التنمر فتسلُّط تلقائي نابع من الشخص دون أن يكون ردة فعل لإساءة، أو نحوها.
بل هو ابتدار للشر، ونزوع عدواني إليه مصحوباً باكفهرار، وصلابة وجه، وسرعة غضب، ورغبة في الإساءة - كما مضى في الشواهد الآنفة-.
وهكذا يتبيَّن أن (التنمر) معنىً عربي معروف مطروق مشتق من النمر، وشواهد ذلك كثيرة، وقد مضى ذكر لبعضها.
ومن ذلك-أيضاً- قول أحمد بن الحارث الخزاز؛ اعتداداً واعتزازاً:إني امرؤٌ لا أُرى في الباب أقْرَعُهُ *** إذا تنمَّر دوني صاحب الباب
يريد أنه يترفع عن مواطن الهُوْن؛ فإذا كان الحاجب غليظاً سيِّئَ الخُلق أعرض عن الوقوف عنده؛ حفظاً لكرامته.
والشاهد قوله: (تنمر).
ومنه قول المتنبي في أحد ممدوحيه: شديد الخنزوانة لا يبالي *** أصاب إذا تنمَّر أم أصيبا
والخنزوانة - في الأصل- ذبابةٌ تطير في أنف البعير؛ فيشمخ لها بأنفه، واستعيرت للكبر، فقيل: بفلان خنزوانة.
ومعنى (تنمر): صار كالنمر في الغضب.
والمعنى: أنه إذا غضب على أعدائه، وقاتلهم لم يعد يبالي أقتلهم أم قتلوه.
ومنه قول الآخر:
*وإنيَ من قوم إذا ما تَنَمَّرَ اللياليْ تَلَقَّوا صرفها بالتنمر *
وقول الآخر: تنمر الدهر حتى ما فرقت له *** من قَسْوَريِّ الدجى في فروة النَّمِرِ