أرشيف المقالات

إنما الفتيا لورثة الأنبياء

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2إنما الفتيا لورثة الأنبياء   أما بعد، فقد روِّينا بالأسانيد المتصلة إلى التابعيِّ كثير بن قيس رحمه الله تعالى، قال: كنت جالسًا عند أبي الدرداء في مسجد دمشق، فأتاه رجلٌ، فقال: يا أبا الدرداء، أتيتك من المدينة: مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لحديث بلغني أنك تحدِّث به عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فما جاء بك، تجارة؟ قال: لا، قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ سلك طريقًا يلتمسُ فيه علمًا، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضعُ أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له مَنْ في السماء والأرض، حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنما ورَّثوا العلم؛ فمن أخذه، أخذ بحظٍّ وافرٍ))؛ أخرجه أحمد: ٢١٧١٥، وأبو داود: ٣٦٤١، والترمذي: ٢٦٨٢، وغيرهم.
في هذا الحديث وقصته فوائدُ كثيرة جدًّا، أقتصر منها على المراد من هذا المكتوب، وهو بيان أن علم الشريعة ليس عامًّا يخوض فيه كلُّ أحدٍ من الناس كما يُشيعه بعضُهم بقولهم: "الدين للجميع"، وهي مقولةُ حقٍّ أُريدَ بها باطل؛ فالدين للجميع من حيث وجوبُ التزامِه، والإتيان بفرائضه وسننه، ومن حيث العلم بأركانه وقواعده التي لا يصح الإيمان إلا بها، ولكنه من حيث كونه علمًا فيه فقه واستنباطٌ ودلالاتٌ لا يقدر على فهمها إلا بعضُ الناس: علمُ خاصةٍ، يتلقَّونه تلَقِّيًا، ويتعلَّمونه تعلُّمًا، تتفاوتُ فيه رتبهم ودرجاتهم، بعضُهم أعلم فيه من بعض، وبعضُهم يَدري بابًا من العلم لا يُحسِن أبوابًا غيرَه، وبعضهم يَعلم ما فاتَ الآخَرين، ولا يَفوتُ شيءٌ مِن العلم بوجوده في مجموعِ العلماء على اختلاف اختصاصهم في العلم؛ وإنما يَغيب الشيءُ عن أحدِهم ولا يَخفى على غيره منهم، ويَغيب عن العامة ما يَعرفه العلماءُ؛ فلذا قضى اللهُ عز وجل بِردِّ المُشْكلات العلمية وقضايا الأمة إلى العلماء، ولم يَكِلْها إلى عقولِ عامةِ الناس ورأيِهم، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83]، فأمَرَ بالرد إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى أولي الأمر أهلِ الاستنباطِ، وهم العلماء والفقهاء، ولو كان جائزًا لكلِّ أحدٍ أن يخوضَ في نصوصِ الشرعِ برأيه وفهمِه، لَمَا جاء الأمرُ بالرد إلى العلماء.
وقد جاء هذا المعنى أيضًا في قوله تعالى في موضعين من كتابه الحكيم: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43، والأنبياء 7]، فلو كان جائزًا لكلِّ أحدٍ أن يخوضَ في أحكام الشريعة، لَما جاء الأمرُ بسؤالِ أهلِ الذكر؛ فلا يجوز أن يتكلم في أحكام الشريعة تعليمًا وإفتاءً إلا مَن كان عالمًا بلغة العرب وسننِهم في الكلام، محيطًا بنصوص الشرع أو قادرًا على الوصول إليها متى غابَ عنه بعضُها، عارفًا بعامِّ النصوصِ وخاصِّها، ومطلَقِها ومقيَّدها، وناسِخِها ومنسوخها، فاهمًا عللَ الأحكامِ، مُطَّلعًا على أسبابِ تشريعها.
وكان أمرُ رجوعِ العامةِ إلى من وصفته من العلماء مستقرًّا في صدور المسلمين في كلِّ جيلٍ منذ زمن النبوة إلى يومنا هذا، فعامةُ الناسِ يرجعون إلى أهل العلم في أخذ أحكام الفقه والدين، ولم يكن جميعُهم قَطُّ عالِمين فقهاء؛ وإنما الفقهُ في أقلِّهم دون عامتهم، وعلى هذا دلالةٌ من كتاب الله تعالى إذ يقول: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة 122]، فوَكَلَ أمرَ التفقُّه إلى طائفة دون أخرى، وبيَّن أن الطائفةَ الأخرى التي لم تتفقَّهْ تأخذُ دينَها عن التي تفقَّهت في الدين، فكان الناسُ في الفقه على قسمين: قسم عالمٌ به، وقسم لا يَعلَمُه؛ فواجبُ العالمِ تعليمُ الجاهل، وواجبُ الجاهلِ سؤالُ العالِمين بالفقه، وليس له أن يرتجل فهمًا مِن عندِ نفسِه، ما لم يتعلَّمِ الأحكام، ويأخُذْها عن أهلها، ويفهمْ دلالاتِ الألفاظِ العربية، وطرقَ الاستنباطِ والاستدلالِ.
ورجوعُ عامة الناس إلى العلماء باقٍ حتى آخر الزمان، حيث يتصدر للفُتيا بَعدَ ذلك الجاهلون، فتَرجِعُ العامةُ إلى الجاهلين لأخذ الأحكام، فتضل العامةُ بجهلِ الخاصةِ، كما روِّينا بالأسانيد الصحيحة المتصلة إلى صحيح البخاري بإسناده إلى عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسُئِلوا فأفتَوا بغير علم، فَضَلُّوا وأضَلُّوا)).
فأخبرنا صلى الله عليه وآله وسلم أن في الناس عالِمين وجاهلِين، وأَخبر برجوعِ الجاهلِين إلى العالِمين؛ إقرارًا ودلالةً على صواب هذا العمل الذي أطبقت عليه الأمة جِيلًا فجيلًا، وذمَّ تصدُّر الجاهلين للكلام في العلم، وذمَّ أن يُفتي في الشريعة مَن لم يكن بها عالمًا، وبيَّن أن فُتيا غيرِ العالِم ضلالٌ وإضلال.
ثم اعلم أنَّ العلماءَ أنفسَهم لم يكونوا ليخوضوا في جميع الشريعة ما لم يكونوا على معرفةٍ بجميعها، وهذا لا يتأتى لأحدٍ سوى الأنبياء، فلم يوجد قطُّ عالمٌ أحاطَ بجميع الشريعة ولو بلغ من العلم ما بلغ؛ وإنما يَرجعُ العلماءُ بعضُهم إلى بعض فيما خَفِيَ عليهم منها، وهذا ما كان عليه الناس منذ أيام الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، الذين حفظوا لنا هذا الدينَ بهذه الطريقة القويمة، وقد كثُر في كتب الآثار والسنن ذِكرُ سؤالِ بعضِهم لبعض، واسترشاد مَن غابَ عنه شيءٌ مِن العلم بالعالِم منهم، ولم يكن أحدُهم يتكلمُ مِن حيث لا يَعلم، ولم يزعم أحدٌ منهم أنهم في العلم بالشرع سواء، بل كانوا يَعلَمون أن فيهم الفقهاء وفيهم دون ذلك؛ فتُرَدُّ الفتيا إلى الفقهاء دون من سواهم، ولا يَصدر عامةُ الناس إلا بفتيا العلماء، لا بالهوى والآراء.
إذًا فقد دلَّ الحديث على أن في الناسِ العلماءَ وغير العلماء، وأن العلماءَ هم ورثةُ الأنبياء، ودلَّ على تفاوتِ رتبِ العلماء في العلم، وعلى أن الناس تبعٌ لعلمائهم في العلم كما كانوا تبعًا لأنبيائهم، إلا أن الأنبياء أَتَوا على العلم على وجه الإحاطة، وورثتُهم من العلماء يفُوتُ على بعضِهم الشيءُ ويُدركُه الآخر، فلا يفوتُ العلمُ في مجموعِهم، ودل على أن أهل الفتيا هم العلماء دون من سواهم؛ لأن علم الشريعة هو الموروث بالتعليم من مشكاة النبوةِ جيلًا فجيلًا، فمن لم يتلقَّ هذا العلمَ عن أهلِه، لم يكن له أن يتكلم فيه، كما أن من كان من أهلِه، لم يكن له أن يتكلم إلا فيما عرَفَه دون ما لم يعرف، وجرى على ذلك عملُ الصحابةِ رضوان الله عليهم، وسلفِنا الصالح، وأئمة الهدى المَرْضِيِّين، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢