عام يمضي وأيام تنقضي
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
عام يمضي وأيام تنقضي، سنة قمرية طويت شهورها التي ذكرها الله تعالى في قوله عز وجل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ .. } [ التوبة : 36]، وانتهت أيامها ولياليها التي جعلهما الله {خلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]: أي " جعلهما يتعاقبان، توقيتًا لعبادةِ عِبادِهِ له، فمن فاته عَمَلٌ في الليل استدركَه في النَّهار، ومن فاتَه عَمَلٌ في النَّهار استدركَهُ في الليل، وقد جاء في الحديث الصحيح: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا» ( صحيح مسلم رقم: 2759).وهذا الحديثُ يُبيِّنُ عَظيمَ فَضلِ اللهِ تَعالى وَسَعَةِ رَحمتِه وأنَّه يَقبَلُ التَّوبةَ مِن عِبادِه وإنْ تَأخَّرت بَعدَ ارتِكابِ الذَّنبِ، فالتَّوبةُ وإنْ كانتْ مَأمورًا بِها على الفَورِ إلَّا أَنَّها إذا تَأخَّرت قَبِلَها اللهُ عزَّ وجلَّ، فإنْ أَذنَبَ العَبدُ ذَنبًا بالنَّهارِ وَتابَ باللَّيلِ قَبِلَ اللهُ تَوبَتَه، وإنْ أَذنَبَ ذَنبًا باللَّيلِ وَتابَ بالنَّهارِ قَبِلَ اللهُ تَوبَتَه، وبَسَطَ يَدَه سُبحانَه يَتَلقَّى بِهما تَوبةَ التَّائبِ فَرحًا بِها وقَبولًا لَها.
ولا يَزالُ الأَمرُ كَذلكَ بالعِبادِ حتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغرِبِها، فإذا طَلعَتْ مِن مَغرِبِها قَبيلَ يَومِ القِيامةِ فإنَّ بابَ التَّوبةِ يُغلَقُ، فلا تُقبَلُ بَعدَ تِلكَ العَلامةِ تَوبةُ أحدٍ ".
يقولُ ابنُ كثيرٍ- رحمه الله - في تفسير قولِه تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12]؛ حيثُ يَمْتَنُّ تعالى على خلْقه بآياته العِظام، فَمنْها مُخالفتُه بين الليلِ والنهار، ليَسْكنوا في الليل ويَنتشِروا في النَّهار للمعايشِ والصناعاتِ والأعمالِ والأسفار، ولِيَعلموا عدَدَ الأيامِ والجُمَعِ والشهورِ والأعوام، ويَعْرِفوا مُضِيَّ الآجالِ المضروبةِ للديونِ والعباداتِ والمعاملاتِ ..وغيرِ ذلك؛ ولهذا قال: {لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ}؛ أي: في معايشِكم وأسفارِكم ونحوِ ذلك: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} فإنه لو كان الزمانُ كلُّهُ نَسَقًا واحدا وأسلوبا متساويا؛ لما عُرِفَ شيءٌ من ذلك.
عباد الله: والأيامُ ساعاتٌ تَمضي وعُمُرٌ يَنقضي إلى قيام الساعة: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55]، والساعاتُ دقائقٌ وثوان ٍ كما يقول أحمد شوقي – رحمه الله-:
دَقّاتُ قَـلـبِ الـمَـرءِ قائِلَــةٌ لَــــهُ *** إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها *** فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمْرٌ ثاني
عباد الله: إنَّ في مرور السنينَ والأعوامِ وانقضاءِ الشُّهورِ والأعوام عِبَرًا لمنْ أرادَ أن يعتبرَ ويتذكَّرَ ويتَّعِظ، على المسلم أنْ يتذكرَ عَظَمَةَ هذا الكون وتدْبيرَ الخالقِ له {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]؛ "أي: لمنْ أرادَ أن يتذكَّرَ بهما ويعتبرَ ويستدلَّ بهما على كثيرٍ من المطالب الإلهية ويشْكرَ اللهَ على ذلك"، وأن يعلم أن الدنيا زائلةٌ وهي دارُ ممر وأنَّ الآخرةَ باقيةٌ وهي دارُ مَقَرّ، قال تعالى حاكيًا عن مؤمن آل فرعون أنه قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39] وعلى المؤمن أنْ يتذكرَ نعمَ اللهِ تعالى عليه في الكون وفي نفسه: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18]، ويتفكرَ في مصيره وفي نهاية هذه الحياة، فعن ابن عمرَ -رضي الله عنهما- قال: أخَذَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمَنْكِبِي، فَقَالَ: كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ وكانَ ابنُ عُمَرَ، يقولُ: إذَا أمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وإذَا أصْبَحْتَ فلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وخُذْ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.
[صحيح البخاري رقم: 6416].
إنا لنفرحُ بالأيام نــقــطــعُــهـــــــــا *** وكُلُّ يومٍ مضى يُدني من الأجلِ
فاعملْ لنفسِكَ قبل الموت مُجْتهدًا *** فإنما الربحُ والخسرانُ في العمل
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم إنه تعالى جواد كريم ملك بر رؤوف رحيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
فيا عباد الله، يقول السَّعْدي – رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، يقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} جَمْعُ - هِلال - ما فائدتُها وحِكْمتُها؟ أوعنْ ذاتِها، {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} أي: جَعلَها الله تعالى بلُطْفِه ورحمتِه على هذا التدبير يبدو الهلالُ ضَعيفا في أول الشهر، ثم يتزايدُ إلى نِصْفه، ثم يَشْرَعُ في النَّقص إلى كَمالِه، وهكذا، ليَعرِفَ الناسُ بذلك، مواقيتَ عباداتِهم من الصيام ، وأوقاتِ الزكاة ، والكفاراتِ، وأوقاتِ الحج .
ولما كان الحَجُّ يقعُ في أشْهُرٍ مَعلوماتٍ ويَسْتغرِقُ أوقاتا كثيرةً قال: {وَالْحَجِّ}، وكذلك تُعْرَفُ بذلك، أوقاتُ الديونِ المُؤجَّلاتِ، ومُدَّةُ الإجارات، ومُدَّةُ العِدَدِ والحَمْلِ، وغيرُ ذلك مما هو من حاجاتِ الخلْق " عباد الله: ويقول الطبري – رحمه الله – في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].
يقول تعالى ذكره: جعل الليل والنهار، وخَلُوفَ كلِّ واحدٍ منهما الآخرَ حُجَّةً وآيةً لمنْ أرادَ أن يَذَّكَّر أمرَ الله، فَيُنيبَ إلى الحق {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أو أراد شُكْرَ نِعْمةِ اللهِ التي أنْعَمَها عليه في اختلاف الليل والنهار".
عباد الله:
وقد أمر الله تعالى بالشُّكْرِ، ونهى عن ضِدِّه، قال تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114]، وقال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، وأثنى اللهُ تعالى على الشاكرين، ووصفَ به خَواصَّ خَلْقه، وجَعلَه غايةَ خلْقه وأمْرِه، ووعَدَ أهلَه بأحْسنِ الجَزاء، وجَعلَهُ سَببًا للمزيد من فَضْلِه، كما قال عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 120، 121]، وقال عن نوحٍ عليه السلام: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، وقال سبحانه: {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17]، وقال عز وجل: {وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، وعلى المؤمن أنْ يعرِفَ نِعمةَ اللهِ تعالى ويتحدثَ بها كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [الضحى: 11].
عباد الله:
علينا أن نتفكر ونتعظ بما مضى من السنين والشهورِ والأيامِ، وأن نسألَ اللهِ تعالى الثبات َ على الصراط المستقيمِ حتى الممات، {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]، فاتقوا الله عباد الله وصلوا وسلموا على محمدٍ رسولِ الله، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آلهِ وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم الدين.
______________________________________
الكاتب: محمد بن حسن أبو عقيل