جهد المُقل في تبرئة يوسف عليه السلام من الهمّ المُخل (تابع 4) - محمد بوقنطار
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
القطرة الثالثة :
لا شك أن الناظر إلى السياق القرآني من سورة يوسف عليه السلام، المنطلق من مسلمة البراءة المطلقة لهذا النبي الكريم، سيجود عليه هذا السياق المقرون بنية تلاوة حرفه ومقصود تدبر معانيه بعبارات وإشارات تمشي في وجهة وصوب حفظ العرض المادي والمعنوي لسيدنا يوسف عليه السلام.
ولنرجع إلى السياق متتبعين صيغته الترتيبية، فقد ابتدأ السياق في ذلك المشهد المشحون المحموم المُغرق في الخضوع والذلة ـ من طرفها لا من طرفه ـ لسلطان الغريزة والمنساق لقيادة الهوى والعاطفة وغلبتهما على إبصار اللب وبصيرة القلب وكذا المعهود في مروءة النساء بفعل الابتداء بالمراودة، وإنّما جاء الابتداء في السياق والله أعلم بالمراودة قبل إحكام إقفال الأبواب لأنه فعل تكرر على سبق مثيل، وإنّما الذي ميّز الموقف هذه المرة هو توجيد وتحضير مسرح الجريمة بقرائن وظروف الشروع مؤشرة عليه بقولها "هيت لك" وقد غلّقت الأبواب وكانت سبعة كما جاء في أغلب التفاسير، ولنقف مع حركة الإغلاق ناظرين في المعنى الزائد الذي حملته الزيادة في المبنى بواسطة التضعيف في فعل "غلق" إذا قال الله تعالى واصفا المشهد :"وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك"، ولا شك أن الزيادة بالتضعيف هنا لها لازمتها ومعناها المراد، إذ يفيد التضعيف في فعل "غلق" معنى زائدا مفاده أن امرأة العزيز أحكمت إقفال الأبواب وخاصة باب قعر قعر قصرها، لتصير محروزة وإيّاه عن أي احتمال تسلّل قد يحول أو يعطل ما تصبو إليه من فتاها الذي شغفها حبا، ولِنتابع سير الاستقراء لنقف هذه المرة على الإشارة المستوحاة من قرينة "ألف الاثنين" كدلالة على اشتراكهما في الهرولة في مسعى الباب: هو يُسابق وهي تُلاحق، ولنفتح باب الاستفهام المنطقي المعقول مستفسرين عن جدوى مسارعته إلى باب يَعلم علم اليقين أنه تحت طائلة القرائن المادية هو من جملة الأبواب بل أشدّها إحكاما وخضوعا لعملية الغلق على الإطلاق، وإذا كان هذا في حقه مستغربا، فالأغرب منه والأعجب أن تجري هي في طلبه، ليس أي جري وإنما سعيها في أثره كان في لحاق محموم يبيّن حرارته فعل القدّ الذي حصل جراء إمساكها بقميصه عليه السلام، وهي التي كان فؤادها قد ركن باطمئنان إلى الأسباب المادية التي اتخذتها لتهيئة مسرح الجريمة، ثم لتنفيذ ما دبرته تلبية لرغبتها الجامحة، إن السياق ليسعفنا ونحن نتمثل فعل الملاحقة والجر إلى الخلف الذي نتج عنه قدّ القميص من الدبر أي تمزيقه بشكل عمودي كنتيجة طبيعية لإصرار تُمسك صاحبته وتجر إلى الوراء في مقابل عزم صاحبه فرارا واندفاعا صوب وإلى الأمام، ليسعفنا قُلت حتى نتذوق حجم الخوف الذي تملّك امرأة العزيز خشية أن تفلته فيضيع حظها منه، سيما وقد كان همّها هذه المرة قد تجاوز حدود العزم والترصد بالغا مقتضاه من التشهي في ثوبه الأنوثي الجامح، وحتى نفك بفضل الله ومنّه إشكالية الفارق الفعلي والسلوكي بين همّ امرأة العزيز، وهمّ يوسف عليه السلام، وأنه كان على نقيض همّها، إذ شتان شتان بين همّها، وقد همّت به تحت طائلة ما يناسب ما اختلج في صدرها من صبابة وعشق ووله، بينما كان همّه عليه السلام وفق ما كان يزاوره من عفة وتورع وخشية وشكر نعم سيّده عليه، وقد جادت مقاطع الأحداث بما يفيد براءة يوسف بإقرار منها في مجلس جمعها مع النسوة اللاتي قطعن أيديهن "ولقد راودته عن نفسه فاستعصم..." ثم على ملإ من قومها وقد حصحص الحق " أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين".
ويبقى أن نقول أن استشكالنا المنطقي والمعقول لقضية اللحاق في مضمار ضيّق مغلوق، والذي دار بين سابق يخشى الله في نفسه وفي غيره، ولاحق تمثله امرأة العزيز في غمرة هياجها الغرائزي، يجد حلّه ومسوّغه المنطقي والمقبول عقلا وحسّا وطبعا أن برهان ربه الذي رآه إنّما كان تداركا ربانيا يصرف السوء عن يوسف عليه السلام، فيفتح في وجهه ذلك الباب الذي كانت قد أحكمت إقفاله فاطمأنت لذلك الإحكام حد التجاسر الذي بلغ مداه المراودة وتهيئة النفس والجسد له، لقد كانت كلمة الله كن هي المنقذ، إذ سرعان ما سيجد يوسف عليه السلام مَنفذا ومَفزعا يخلصه من ضيق اللحظة وقَدَرَةِ مأساتها السلوكية، وهو فرج كما يمثل لأحد الأطراف انفراجا لأزمة، يشكل في الوقت ذاته بداية لأزمة أخرى جعلت امرأة العزيز تجري بكل عنف حتى لا يضيع منها وقد صار في حلّ من حرزها، وإنه لفهم تعضده لُقيا سيّدها لدى عين الباب المفتوح بإذن الله وسلطان كلمته "كن" وقد جاء في غير موعد ولا أوان حضوره، ولك أن تقيس توالي الأحداث وترادفها السريع إذ قال الله جل وعلا ناقلا هذا الجزء من مشهد أحسن القصص " وقدّت قميصه من دبر وألفيا سيّدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم".
لا ريب في كون السياق ينضح بعامل المباغثة في غير تراخ ولا إهمال، (قدّت، وألفيا، قالت)، نعم قالت مُلصقة التهمة بالمظلوم كما ألصقها إخوته قديما ـ وقد جاؤوا أباهم عشاء يبكون ـ بسيرة ذئب بريء من دمه عليه السلام، غير أنها ومع هذا الإلصاق ومن فرط محبتها له وبغثة اللحظة إبقاء على مأمولها معلق التحقيق ولو بعد حين، كانت هي من اختارت العقوبة الحصرية بين اختيارين لا ثالث لهما "إلا أن يسجن أو عذاب أليم".
إنني لا أجد تكلفا في استقراء السياق واستنطاقه من خلال شواهد الحقيقة اللغوية، التي تتماشى في صوب واحد مع الحقيقة الشرعية، لهما نفس القبلة وعين المحراب، ما دام أن الأمر كلّه يخدم ويكرس ما أحسبه ـ والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل ـ تبرئة لهذا النبي الكريم، وحسبي في ذلك اعتقادي الجازم بأن الله سبحانه وتعالى ساق وأورد في كتابه العزيز قصص الأنبياء السابقين لتكون لسيد الخلق وخاتم النبيّين معينا له على الصبر لله، ودافعا قويا للمضي في دعوته ورسالته الخاتمة، ولتكون له سياقات الابتلاءات التي تخلّلتها وحفلت بها حياتهم الدعوية والتبليغية وهم يواجهون أهل الكفر والباطل من أقوامهم مؤنسا وبلسما حانيا لما عاناه هو أيضا عليه الصلاة والسلام مع قومه وعشيرته الأقربين من أذى ونصب كبيرين في سيرة حياته الطيبة المباركة.
وقد أوصى الله سبحانه وتعالى رسوله محمد عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بمن سبقه من الهداة المهديين من الأنبياء والمرسلين :"أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين" (الأنعام 90).
ثم بعد أن ذكر سبحانه وتعالى طُرفا من سيرهم الطيبة المباركة ختم قصصهم في سورة الأنبياء بقوله جلّ في علاه شهادة فيهم وتزكية لهم :"إنّهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين" عليهم صلوات ربهم جميعا.
يُتبع مع باقي القطرات :
وهي شواهد وقرائن من سُنة سيد الخلق، وألفاظ وسياقات من القرآن العظيم لها حمولتها ودلالتها العقدية والسلوكية، التي يمكن توظيفها في إنصاف وتجرد مستمطرين بها ومن خلالها غيث البراءة التي نعتقدها في هذا النبي الكريم سواء وفقنا الله إلى الاطلاع عليها، أو لم نعرف لها سبيلا، مكتفين والحال هو عدم المعرفة بمنزلة ومقام النبوة ولازمة العصمة في دائرة الجُعل الرسالي الإلهي وأعظم بهما من دليلين في هذا الخصوص، والله ولي التوفيق...