أرشيف المقالات

من الكبائر الشائعة (3) الرياء

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2من الكبائر الشائعة (3) الرياء
الرِّياء كبيرةٌ مِن أعظم الكبائر، إنها الداء العُضال الذي استشرى في الأُمَّة، وتَمَكَّن مِن قلوب كثير مِن المسلمين، إنه وربِّ الكعبة مِن أعظم أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة، إن المرائي يبْأس في حياته، ويرى العذاب الأليم بعد وفاته، فواحسرتاه على عبدٍ كان حظُّه من عمله ثناء الناس عليه! ويا لشقاء عبدٍ جاء يوم القيامة بحسنات هائلة ثم ضاعتْ عليه، وذهبتْ أدراج الرياح!
مِن الأدلة على أن الرِّياء من كبائر الذنوب: 1- أنَّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سمَّياه شِركًا؛ قال الله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
قال الطبَري رحمه الله: ﴿ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ﴾ يقول: فلْيُخلص له العبادة، وليُفردْ له الربوبية، ﴿ وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ يقول: ولا يجعل له شريكًا في عبادته إياه؛ وإنما يكون جاعلًا له شريكًا بعبادته إذا راءى بعمَله الذي ظاهره أنه لله، وهو مُريدٌ به غيرَه.
وأخرج أحمدُ بإسناد حسن عن محمود بن لبيد رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ أخوفَ ما أخاف عليكم الشِّرك الأصغر))، قالوا: وما الشركُ الأصغرُ يا رسول الله؟ قال: ((الرِّياء، يقول الله عز وجل لهم يومَ القيامة إذا جُزي الناسُ بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تُراؤون في الدنيا، فانظروا: هل تجِدون عندهم جزاءً؟)).
وفي لفظ عن محمود قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إيَّاكم إيَّاكم وشرك السَّرائر))، قالوا: وما شركُ السرائر؟ قال: ((أنْ يقومَ أحدُكم يُزيِّن صلاته جاهدًا؛ لينظُرَ الناسُ إليه، فذلك شِركُ السرائر)).
لقد بذل جهدًا عظيمًا، واجتهد في فِعْل الطاعات، لكن واحسرتاه لقد ذَهَب عملُه هباءً؛ لأنه راءى به، ولم يُرِدْ به وجهَ ربِّه سبحانه، فاحذرْ يا أخي أن تعملَ عملًا ترجو به غير وجه الله سبحانه، واجعلْ شعارك: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 9، 10].
2- أن الله تعالى توعَّد المرائين بالويل: قال الله تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ [الماعون: 4 -7]، توعَّدهم بالويل والعذاب في جهنم عياذًا بالله.
3- أن الله توعَّد المرائين بحبوط أعمالهم: قال الله تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغْنى الشُّركاء عن الشِّرْك، مَنْ عمِل عمَلًا أشْركَ فيه معي غيري تركتُه وشِركَه))؛ أخرجه مسلم.
قال ابنُ الجوزي رحمه الله: "اعلمْ أن الأعمال ثلاثة: عمَلٌ خالص لله، وهو ما لم يُقصد به سواه، فهذا المقبولُ، وعمَلٌ لأجل الخَلْق لولاهم ما عمل؛ فهذا المردود، وهو المراد بقوله في الحديث الآخر: ((إنما قرأتَ ليُقال: فلان قارئ))، وعملٌ يجتمع فيه قصْدُ الحقِّ والخلق، مثل أن يُصلي قاصدًا للثواب، ثم يُدرج في ضمن ذلك قصدَ مِدْحة الخَلْق، وأن يروه بعين التعبُّد، فهذا المراد بالشرك في هذا الحديث، وهو إلى الردِّ أقرب".
4- أن المرائي متوعَّد بدخول النار: عن سليمان بن يسار رحمه الله قال: تفرَّق الناس عن أبي هريرة، فقال له ناتِلُ أهل الشام: أيُّها الشيخُ، حدِّثْنا حديثًا سمِعتَه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نَعَمْ، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أوَّلَ الناس يُقضى يومَ القيامة عليه رجلٌ استُشهِد، فأُتي به فعرَّفه نِعَمَه فعَرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتى استُشهِدتُ، قال: كذبتَ، ولكنك قاتلتَ لأنْ يُقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقيَ في النار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القُرآن، فأتي به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلم وعلَّمتُه، وقرأتُ فيكَ القرآن، قال: كذبتَ، ولكنك تعلَّمتَ العلمَ ليُقال: عالم، وقرأتَ القرآن ليُقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقيَ في النار، ورجلٌ وسَّع الله عليه، وأعطاه مِن أصناف المال كُلِّه، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أن يُنفَق فيها إلا أنفقتُ فيها لكَ، قال: كذبت، ولكنك فعلتَ ليُقال: هو جَوَادٌ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم أُلقي في النار))؛ أخرجه مسلم.
قال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم في الغازي والعالم والجواد وعقابهم على فعلهم ذلك لغير الله، وإدخالهم النار دليلٌ على تغليظ تحريم الرِّياء وشدة عقوبته، وعلى الحثِّ على وجوب الإخلاص في الأعمال.
5- أن الرِّياء من صفات أهل النفاق: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142].
6- أن المرائي متوعَّد بأن الله يُرائي به: عن جُندب العلَقي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يُسمِّعْ يُسمِّع اللهُ به، ومن يُراءِ يراءِ اللهُ به))؛ أخرجه البخاري ومسلم.
قلتُ: فالرياء شرك أصغر، وكبيرة مِن الكبائر بلا خلافٍ أعلمه بين العلماء، وهو: أن يعمل عملًا مما يُتقرَّب به إلى الله يُريد به ثناء الناس عليه!
قال القرطبي رحمه الله: وحقيقة الرِّياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله: طلب المنزلة في قلوب الناس.
وقد عَدَّ الرِّياء في الكبائر: الذهبي، وابن القيم، وابن حجر رحمهم الله، قال ابن حجر: والرياءُ مُحبط للأعمال، وسببٌ للمقْت عند الله، واللعْن والطَّرد، ومِن كبائر المهلكات، وعبَّر بعضهم بلفظ: تعلم العلم للدنيا.
قلتُ: أما تعلُّم العلم الشرعي: فإن كان لينال به وظيفةً يُرزق منها هو وأهله، ولينشر بذلك علمًا نافعًا؛ فلا أراه يأثم، فضلًا أن يكون ذلك كبيرةً، وقد قال جمهور العلماء بجواز أخْذ الأجْر على تعليم القرآن والحديث.
فأما إنْ تعلَّمه لينال به سُمعةً وشُهرةً وثناءً مِن الناس، فهذا هو الرياء الذي ذمَّه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وحذَّرنا منه، وهو كبيرة، وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن تعلَّم علمًا مما يُبتغَى به وجهُ الله عز وجل لا يتعلَّمُه إلا ليُصيب به عَرَضًا من الدنيا - لم يجدْ عَرْفَ الجنة يومَ القيامة))؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه بسند حسَن بشواهده.
قال السندي رحمه الله: الوعيد المذكور لمن لا يقصد بالعلم إلا الدنيا، وأما مَن طلب بعلمه رِضا المولى ومع ذلك له ميلٌ ما إلى الدنيا - فخارج عن هذا الوعيد.
والرِّياء منه ما هو شرك أكبر مُخرج من الملَّة كرياء المنافقين الخُلَّص، وفيهم قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142].
ومنه ما هو شرك أصغر كرياء المؤمن الذي يعمل العمل لله تعالى، ثم يدخله الرِّياء، أو يكون فيه ابتداءً، لكنه لا يُرائي في جميع عمله، وهذا وصف بالشرك للتغليظ والزَّجْر، وسُمِّي شركًا؛ لأنه يجب أن تكون العبادة لله وحده، لكن هذا المرائي جاء فأشرَك مع الله تعالى أحدًا في العبادة.



شارك الخبر

المرئيات-١