أرشيف المقالات

الطموح النطوح

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
بسم الله أفتتح وأستفتح من كنوز المعارِف فَهْما، الحمد لله الذي أمر رسوله بدعاء الاستزادة من العلم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [2]، وصلى الله وسلم على نبينا محمد مَن بشّر بخبر «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» كي يَجدَ {لَهُ عَزْمًا} [3]، وعلى آله وصحبه وسلم ومن تبعهم بإحسان مِن "رُهبانِ اللية وفرسانِ النهار" حِلمًا وحَزمًا، أما بعد...

يسرني أن أشعِل اليومَ عشْرَةَ قناديلَ على مائدة معشر قرّائِنا الأعزّاء مِن سوانحِ "الطُموح"...فـ {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [4].

 
القنديل الأول: الطُموح النَطوح:
الطُموح نقطة تحول...حينَ يتطور الْهَمّ إلى الهِمّة، ثم تربو وتنمو وتسمو إلى «مَعالي الأُمورِ وأَشرافها».
فمن يطمَح أي يتطلّع ويتوق إلى أمر فهو طامح؛ وإن بالغ في الطُموح فهو طَمّاح وطَموح، ولبلوغ الآمال لحوح.
وهذا "الطُموح" بين الفينة والأخرى "ينطَح" ذُرى السحاب بمتعدد المواهب والعبقريات، ومتنوّع القوالب والألمعيّات.
 
القنديل الثاني: الطُموح الواقعيّ:
ولكن "الطُموح النَطوح"، حتى ينضبط ويرفرِف بأجنحته في غدٍ صَبُوح، لا بد أن يُعقَل أي يُربط بعِقال الحكمةِ على بصيرة، وبِفُهومٍ راسخةٍ بالوحيين مستنيرةٍ.
""خيرُ الأمورِ أعدلُها"".
وإلا قد ينقلب من حِدّة الإفراط إلى طيش وتهوّر، أو من شِدّة التفريط إلى بخس وتندّر...«القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا».
 
القنديل الثالث: معالم أرباب الطُموح:
أصحاب "الطُموح النَطوح" الفُطَناء...شِعارهم {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ}[5]، ودِثارهم «اسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلا تَعْجِزْ»، ونهجهم «القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا»، وقُدوتهم مَن ""كَانَ خُلُقُه القُرآنَ""، ونِبراسهم «المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعيفِ»، فهُم {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [6]، لعِلْمِهم «إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ وأَشرافَها، ويَكرَهُ سَفْسافَها»، استجابةً للتوجيه النبويّ «فإذا سَأَلْتُمُ اللَّهَ، فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فإنَّه أوْسَطُ الجَنَّةِ وأَعْلَى الجَنَّةِ»؛ فيُضحّون في سبيل نيل ذلك مستوفقين اللهَ عزّ وجلّ عزائمَ نفوسِهم ونفائسَ أعمارِهم وكرائم أموالِهم.
 
القنديل الرابع: التسديد والمقاربة:
ليس خطأً أن يرفع المرء سقف الطُموح ولكن لا بد أن تكون "نسبة" من هذا "الطُموح العالي"، ولا سيما أساساتُه ومبادؤُه، متوافقة مع أرض الواقع، من أجل إصابة مرمَى المواقع.
 
ليس تشاؤمًا من أصل الطُموح ولا تثبيطا لمن يطمحون إلى المعالي، إنما من أجل "التدرج" للانطلاق بخطواتٍ أوثقَ وأحكم، من باب {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ}[7]، وفْق الوَصيّة النبويّة الخالدة «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا» للوصول إلى تلك المراقي من الطُموح التي «فِيْمَا يَبْدُو للنَّاس» لأول وهلة أنها غيرُ متوافقةٍ مع الواقع، وكأنّ بينهما بَون شاسع.
والتدرّج سنّة الله الماضية {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [8]، ولا {تَحْوِيلًا}.
 
القنديل الخامس: التولي يوم الزحف:
ليس الإشكال في الواقع نفسه بقدر ما هو كيف نتعامل مع هذا الواقع وكيف "نُنزِّل المظِنّةَ منْزِلةَ المئِنّةِ" باختلاف الوقائع.
خيار الهزيمة والرضا بالدُّون ليس حلّا يُستساغ، لا شرعًا ولا فطرةً ولا عقلا، ولا مكانة له في قواميس ذوي العقول الراجحة والأهداف السامقة.
«وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ» من الْمُهلكات، خصوصًا في عُرف "طُلابِ إرثِ النُبُوّة"، الذين «أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ يَقْرَؤُوْنَها»، {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [9]، فتلك من عُمْق معاني السياسة الشرعية.
 
القنديل السادس: الاستبدال في الاستخلاف:
"طلب الكل – مع تجاهل الواقع يؤدي إلى – فوات الكل"".
و""ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك جُلّه"".
وإلا مَن {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} يكفيهم الوعيد {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[11] في الاستخلاف، أي: في عمارةِ الأرض بـ"حراسة الدين وسياسة الدنيا ".
و"النكرةُ في سياق الإثبات تفيد الإطلاق أي عموم أوصاف، لا عموم أشخاص"؛ بمعنى أنها تفيد العموم في حيثيات التولي والاستبدال والمستبدَل والمستبدَل به؛ وبما أن المقام مقام إيجاز ونِذارة، فلذلك"حُسن الإشارة يغني عن بَسْط العبارة".
 
القنديل السابع: التكيف لا يعني التنازل:
فمراعاة الأحوال هي "فقه الواقع" وهذا من باب "التكيف"، و""التكيف لا يستلزم التنازل"".
ومن تمام ثبات المرء أن يتعايش مع أناسٍ مختلفي الأذواق والمشارب، لحاجةٍ معتبرةٍ أو مصلحةٍ راجحةٍ، مع رسوخه وصموده على المبادئ والقيم التي يتبناها. «المؤمِنُ الذي يُخَالِطُ الناسَ ويَصْبِرُ على أَذَاهُمْ، خيرٌ مِنَ الذي لا يُخَالِطُ الناسَ، ولا يَصْبِرُ على أَذَاهُمْ»، فمن يغدو ويكبو خيرٌ ممن يغفو ولا يسهو.
 
القنديل الثامن: التأجيل غير التسويف:
والتكيف قد يقتضي التوقف المؤقت أو التأجيل.
و""التأجيل لا يعني التعطيل"".
التأجيل غير التسويف؛ التسويف أحبولة من أحابيل الشيطان ، والتأجيل لعذر بنيّة الاستئناف متناغم مع نواميس الرحمن؛ لا هو علامة ضَعْف ولا مؤشّر عَطْف.
بل التكيف عين الحكمة، والذي يعني: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي... {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [12].
 
القنديل التاسع: الإجمال في الطلب:
لا بد من "الإجمال في الطلب"، أي: الطلب وفاق ما يجمُل ويحسُن ويطِيب لدى النفوس السوية، بشيء من الهدوء والرَويّة.
 «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، وَيُعْطِي على الرِّفق ما لا يُعطي عَلى العُنفِ، وَما لا يُعْطِي عَلى مَا سِوَاهُ».
 
فـ«أَجمِلوا في الطَّلَبِ، فإنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تستوفِيَ رزقَها، وإن أبطأَ عنها»...«فإنّ كُلا مُيسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَه».
""الإعمال أولى من الإهمال وإن طرأ شيء من الإمهال."" المتقرر أنه ""لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة""ولكن ""يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة"".
والذي شيّد "صرح الطُموح" على "هيكل أحلام اليقظة"، فبناؤه على {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [13]، ومَثَله كمَثَل «المُنْبَتّ، لا أَرْضًا قَطَعَ وَلا ظَهْرًا أَبْقَى».
 
القنديل العاشر: المِيزة لا تقتضي الأفضليّة:
المتفنن ليس بالضرورة هو الأتقى والأصلح من غير المتفنن، وإن كان التفنن والاستزادة بصدق وإخلاص مُعينة على التزود من مَعين التقوى والصلاح.
""الميزة لا تقتضي الأفضلية"".
الفيصل في الأمر أن تتحقق الخيرية التي أرادها الله سبحانه في الحديث «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
ولا تتحقق هذه الخيرية إلا من انتفع بهذا الفقه في خاصة نفسه ونفع به غيره، بإصلاح العلاقة مع الخالق بحُسن العبادة، وإصلاح العلاقة مع الخَلْق بحُسن الخُلُق.
وبهذين تُنال التقوى والتي هي الغاية من طلب العلم : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[14].
وبالتقوى يتفاضل شُداة المعالي منزلةً في الكرامةِ ورفعةِ الدرجات عند الله عزّ وجلّ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}15].
 
هذه قناديلُ عشرة... {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}[16].
 
وفي لحظة الوداع أقتبس من نظمي فحْوى المقال، فأستقي من فَيْحاء أحْوى الظِلال:
 
مَعالي الأمورِ اطْمَح لها، سِــرْ مُهرْوِلا   ***   وباللـهِ ثِـقْ دومًـا، تجشّمْ مُقَـنْقِلا 
وسـدِّدْ وقاربهـا، تَـدُمْ ثابتَ الخُطــى   ***   تَمَهّل، إذِ التّسوِيف إنْ جـا تُعُطِّلا 
خيـارَ الهـزيمةِ امْنعَـنْ منـهُ نفْسَــكَـا   ***   رِضا المرْءِ بالنُقْصانِ عيبٌ، لِتَعْقِلا 
بِتَقْوى الإِلهِ ارْقَ مراقي الفُحُول، تُقْ   ***   تحلّــقْ مُــرَفْرِفًا لِتَـعْلـوَ مَــــــنْزِلا 
 
والحمد لله أولا وآخرًا على حسن الختام وبلوغ المرام.
 [1] ابتسام أزاد (غُرّة جمادى الأولى، 1442).
[2][طه: 114].
[3] [طه: 115].
[4] [الحاقة: 19].
[5] [الكهف: 60].
[6] [الأنبياء: 90] [المؤمنون: 61].
[7] [الانشقاق: 19].
[8] [فاطر: 43].
[9] [الأنفال: 16].
[10] [القمر: 45].
[11] [محمد: 38].
[12] [البقرة: 269].
[13] [ التوبة : 109].
[14] [فاطر: 28].
[15] [الحجرات: 13].
[16] [البقرة: 196].
________________________________________
الكاتب: ابتسام أزاد

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢