أرشيف المقالات

اسم الله السلام (1)

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2سلسلة شرح أسماء الله الحسنى (29) اسم الله: السلام (1)
انتهَينا في الجزأينِ الماضيينِ - ضمن سلسلة شرح أسماء الله الحسنى - من بيانِ اسم الله "الحسيب" أصلًا وفقهًا؛ فعرَفنا أنه يدل على الكفاية من جهة، وعلى المحاسبة من جهة أخرى، وتبينَّا فقهَه ضمن ثمانية أمور: 1 - العلم بأن كفاية الله لعباده عامَّةٌ وخاصَّةٌ. 2 - الحسيب يقتضي صدقَ التوكُّل عليه. 3 - الاعتقاد بأن الله يُحصِي كلَّ شيء من أقوالنا وأفعالنا، وحركاتنا وسكناتنا. 4 - ضرورة الانصياع للقوانينِ الانضباطية التي لا تُخالف القرآن والسُّنة. 5 - استشعار معيَّة الخالق للعبد في كل زمان ومكان. 6 - المؤمن يحسب حسناته ويزيد فيها، ويحسب وسيئاته ويسعى في محوِها. 7 - عدم المبالغة في إصدار الأحكام. 8 - محاسبة المؤمن نفسَه عن أعماله قبل أن يُحاسَب عليها.   وننتقل - اليوم إن شاء الله تعالى - إلى اسمٍ جليل آخر، له مِن الأسرار العجيبة، والأبعاد الرشيدة - ما يجعَل العبدَ في مأمنٍ مِن خوفِ غير الله، أو سؤال غير الله، أو اعتقاد القوة والعظمة عند مخلوقٍ من مخلوقات الله، اسمٍ يُغنِينا عن التأوُّه والتضجُّر، ويدعونا للرضا بقضاء الله وقدرِه، اسمٍ يجعَلُنا نُكثِر مِن حمد الله على الضراء، كما نُكثِر حمدَه على السراء، اسمٍ قال فيه ابن القيم - رحمه الله -: "الله أحقُّ بهذا الاسم مِن كل مسمًّى به؛ لسلامته سبحانه مِن كل عيب ونقص من كل وجهٍ".   إنه اسمُ الله "السلام" الذي يدل على تنزيه الخالق سبحانه مِن كل نقص وضعف، ويجعَلُه العظيم المتعاليَ على كلِّ شيء، الذي يحتاج إليه كلُّ شيء، قال تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ﴾ [الحشر: 23]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصَرَف مِن صلاتِه استغفر ثلاثًا وقال: ((اللهم أنت السلامُ، ومنك السلام، تبارَكْتَ ذا الجلالِ والإكرام))؛ مسلم.   • والسلام لغةً يدلُّ - كما قال ابن فارس - على الصحة والعافية. • والسلام مصدرٌ استعمل اسمًا للموصوف بالسلامة من كل آفة ظاهرة وباطنة.   • والسلام: الحِلم وقول الخير والسداد، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، قال ابن كثير: "أي: إذا سَفِه عليهم الجُهَّال بالسيِّئ، لم يُقابلوهم عليه بمثلِه، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا".   وقال مجاهد: "﴿ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]؛ يعني: قالوا: سدادًا". ومِن جميل ما وجَّه به الحسن البصريُّ رحمه الله قولَ المؤمنين للجاهلين: ﴿ سَلَامًا ﴾ - قولُه: "إن المؤمنين قومٌ ذُلُلٌ، ذلَّت منهم - والله - الأسماعُ والأبصارُ والجوارحُ، حتى يحسبَهم الجاهل مرْضى، وإنهم لأصحَّاء القلوب، ولكنْ دخَلَهم من الخوف ما لم يدخل غيرَهم، ومنَعَهم من الدنيا علمُهم بالآخرة".   وقال أيضًا: "حُلماء لا يَجْهَلون، وإن جُهِل عليهم حَلُموا ولم يَسفَهوا، هذا نهارُهم، فكيف ليلهم؟! خير ليلٍ، صَفُّوا أقدامهم، وأَجْرَوا دموعَهم على خدودهم، يطلبون إلى الله جلَّ ثناؤه في فكاك رقابهم".   • والسلامُ: الخير والبركة؛ قال تعالى في ليلة القدر: ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5]؛ أي: سالِمةٌ مِن كل شَرٍّ وضُرٍّ، لا يُقضَى فيها إلا الخير، قال ابن زيد: "﴿ سَلَامٌ هِيَ ﴾ ليس فيها شيء، هي خيرٌ كلها".   ويصح الابتداء بقولِه تعالى: ﴿ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ ﴾ [القدر: 4، 5]، قال قتادة: "﴿ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ ﴾ [القدر: 4، 5]؛ أي: هي خيرٌ كلُّها إلى مطلع الفجر".   وقال في البحر: "أي: هي سلامٌ، جعلها سلامًا؛ لكثرة السلام فيها، قيل: لا يَلْقَوْنَ مؤمنًا ولا مؤمنة إلا سلَّموا عليه في تلك الليلة، وقال منصور والشعبي: سلام، بمعنى التحية؛ أي: تُسلم الملائكة على المؤمنين".   • والسلام: الأَمَنة والحِفظ؛ قال تعالى في حق سيدنا عيسى عليه السلام: ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 33]، قال الإمام الطبري رحمه الله: "يقول: والأمَنة مِن الله عليَّ مِن الشيطان وجندِه يومَ وُلِدْتُ أن ينالوا مني ما ينالون ممَّن يُولَد عند الولادة".   والذي اتَّبَع هدى الله عاش سالِمًا مِن كل كرب، معافًى من كل همٍّ، قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: 123]، وقال تعالى: ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ [طه: 47]؛ أي: سلم مِن كرب الدنيا وغمِّ الآخرة، قال السعدي رحمه الله: "أي: مَن اتَّبع الصراط المستقيم، واهتدى بالشرع المبين، حصَلَتْ له السلامة في الدنيا والآخرة".   وتسمَّى الجنةُ دارَ السلام؛ قال تعالى: ﴿ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 127]؛ لأنها سالِمةٌ مِن المصائب والابتلاءات، عاريةٌ عن الأحزان والكربات، بعيدةٌ عن الأسقام والآفات، بل هي سعادةٌ دائمة، ونعمة مقيمة، ﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ [يس: 55 - 58].   • وقيل: السلام بمعنى التحية؛ لأن تحية أهلها فيها سلامٌ، ويمكن أن تكون الجنة مضافةً لاسمِ الله "السلام"؛ تشريفًا وتعظيمًا، كما قال تعالى: ﴿ نَاقَةُ اللَّهِ ﴾ [الأعراف: 73]، قال ابن سِيدَهْ في المُحكَم: "ودارُ السَّلامِ الجنَّةُ؛ لأنَّها دارُ الله عزَّ وجلَّ، فأُضِيفَتْ إليه تَفْخِيمًا لها". دارُ السلام وجنةُ المأوى ومَنْـ ـزلُ عسكرِ الإيمانِ والقرآنِ فالدار دار سلامةٍ وخطابُهم فيها سلامٌ، واسمُ ذي الغفرانِ   • والسلامُ تحيةُ المسلمين التي ذَهَل عنها أهلُ الديانات الأخرى، سُمِّيت سلامًا؛ لأنها خالصةٌ مِن سوء الطويَّة وخبث النيَّة.   قال النبي صلى الله عليه وسلم:خلَق اللهُ آدمَ على صورتِه، طولُه ستُّون ذراعًا، فلما خلقه قال: اذهَبْ فسلِّم على أولئك النفرِ مِن الملائكة، جلوسٌ، فاستمِعْ ما يُحيُّونَك؛ فإنها تحيَّتُك وتحيَّةُ ذرِّيتِك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلامُ عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله))؛ متفق عليه.   وقال صلى الله عليه وسلم: ((السلامُ اسمٌ مِن أسماء الله، وضَعَه الله في الأرض، فأَفشُوه بينكم؛ فإن الرجلَ المُسلِم إذا مرَّ بقومٍ فسلَّم عليهم، فردُّوا عليه، كان له عليهم فضلُ درجةٍ بتذكيره إياهم السلام، فإن لم يردُّوا عليه، ردَّ عليه مَن هو خيرٌ منهم وأطيب))؛ (أي: الملائكة الكرام)"؛ صحيح الجامع.   • والله تعالى هو السلام؛ لأنه مُتنزِّهٌ عن الظلم، قال الزجَّاج: "السلامُ هو الذي سلِم مِن عذابه مَن لا يستحقُّه".   • وهو السلامُ؛ لأنه كاملٌ كمالًا مطلقًا، مُتنزِّهٌ عن كل عيب، قال السعدي في قوله تعالى: ﴿ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ ﴾ [الحشر: 23]: "القدوس كالسلام، يَنفيانِ كلَّ نقصٍ من جميع الوجوه، ويتضمَّنانِ الكمال المطلق من جميع الوجوه؛ لأن النقص إذا انتفى ثبَتَ الكمال كلُّه".   • وهو السلام؛ لأنه المُنزَّه عن مُماثَلة غيره له، فكلُّ المخلوقات يَعتَرِيها الضعفُ والنقص والاحتياج، وهو سبحانه سالِمٌ مِن كل ذلك. وهو السلامُ على الحقيقة سالِمٌ ♦♦♦ مِن كل تمثيلٍ ومِن نُقصانِ
وقال ابن القيم رحمه الله في بيان شافٍ لحقيقة اسم الله "السلام": "إذا نظرتَ إلى أفراد صفات كماله، وجدتَ كلَّ صفةٍ سلامًا مما يضادُّ كمالَها: فحياته سلامٌ من الموت ومِن السِّنَة والنوم. وكذلك قيوميَّتُه وقدرتُه سلامٌ مِن التعب واللُّغوب. وعلمه سلامٌ مِن عزوب شيء عنه، أو عروض نسيان، أو حاجة إلى تذكُّر وتفكُّر. وإرادته سلامٌ مِن خروجها عن الحكمة والمصلحة. وكلماتُه سلامٌ مِن الكذب والظلم، بل تَمَّت كلماتُه صدقًا وعدلًا. وغِناهُ سلامٌ مِن الحاجة إلى غيرِه بوجهٍ ما.   وحِلمُه وعفوُه وصفحُه ومغفرتُه وتجاوزُه: سلامٌ من أن تكونَ عن حاجةٍ منه، أو ذل، أو مصانعة كما يكون من غيره، بل هو محضُ جُودِه وإحسانه وكرمه.   وكذلك عذابه وانتقامه، وشدة بطشه، وسرعة عقابه: سلامٌ مِن أن يكون ظلمًا أو تشفيًا، أو غِلظة، أو قسوة، بل هو محضُ حكمته وعدله، ووضعه الأشياءَ مواضعَها، وهو مما يستحق عليه الحمد والثناء، كما يستحقُّه على إحسانه وثوابه ونعمه، بل لو وضع الثوابَ موضع العقوبة، لكان مناقضًا لحكمته ولعزَّته، فوَضْعُه العقوبةَ موضعها هو من عدله وحكمته وعزته.   وقضاؤه وقَدَره سلام من العبث والجَور والظلم. وشرعه ودينه سلامٌ من التناقض والاختلاف والاضطراب، بل شرعُه كلُّه حكمةٌ، ورحمة، ومصلحة وعدل. وكذلك عطاؤه سلام من كونه معاوضة، أو لحاجة إلى المعطَى.   ومنعُه سلامٌ من البخل وخوف الإملاق، وكذلك ما أضافه إلى نفسه من اليد والوجه، فإنه سلامٌ عما يتخيله مُشبِّه، أو يتقوَّله مُعطِّل". إنْ مَسَّنا الضُرُّ أو ضاقت بنا الحِيَلُ فلن يَخيبَ لنا في ربِّنا أَمَلُ اللهُ في كلِّ خطبٍ حَسْبُنا وكفى إليهِ نرفعُ شكوانا ونَبتهلُ ومَنْ نلوذُ بهِ في كَشْفِ كُرْبَتِنا ومَن عليه سوى الرحمَنِ نتَّكِلُ فافْزَعْ إلى اللهِ واقرَعْ بابَ رَحمَتِهِ فهْو الرَّجاءُ لِمَنْ أعيتْ بهِ السُّبُلُ



شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن