أرشيف المقالات

يا إبراهيم ما هذا العبث؟

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
2يا إبراهيمُ ما هذا العبث؟
الإقبال على دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور سعي مشكور، وتجارة لا تبور، وهو برهان العلم والعقل، ودليل سلامة الفهم ومعرفة الحياة الدنيا على ما هي عليه.
ذلك أن الحياة الدنيا قليلة فانية، والآخرة كثيرة باقية، والعاقل لا يؤثر الفاني على الباقي، ولا الزائل على الخالد، كما أن هذه الدنيا هي دار ممر لا دار مقر، وليس من الحكمة أن ينشغل الإنسان عن دار مقره بدار ممره.   وما هي إلا أيام حتى ينتقل المرء من دار العمل إلى دار الحساب، أفلا تستحق هذه الدنيا -إذاً- أن يزهد عنها ابن آدم، ويسخر حياته القصيرة لآخرته، ويستعد فيها بزاد التقوى الذي يحمد نفسه على إعداده يوم لقاء ربه؟   ومن الحقائق المهمة التي ينبغي أن تُعرف أن الزهد الاختياري ليس كالزهد الاضطراري، فمن زهد عن الدنيا مع وجود أسباب اللهو والترف، ووفور المال والحياة تحت ظلال رغد العيش؛ ليس حاله كمن زهد تحت سماء الفقر وقلة الحال؛ فالأول حينما يريد هجر لذاته وشهواته؛ طلبًا لرضوان ربه، وامتثالاً لأمره فإنه يصعب عليه الترك؛ لشدة تعلق النفس بما تعودت عليه من تلبية الرغبات، والحياة في كنف الشهوات، فإذا استطاع الإنسان المترف الانتصار على نفسه، والفرار من أسر حياته الرخية المنطلقة في مرعى الهوى بلا قيود، ليصير زاهداً متقللاً من الدنيا؛ فإنه إنسان عظيم.   ومن هؤلاء الأخيار: الإمام إبراهيم بن أدهم، فمن هو هذا الإمام، وكيف اهتدى، وما الآية التي كانت سبب هدايته؟ إبراهيم بن أدهم هو: إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر، القدوة الإمام العارف، سيد الزهاد، أبو إسحاق العجلي، وقيل: التميمي، الخراساني البلخي، نزيل الشام.
حدث عن أبي إسحاق السبيعي ومالك بن دينار، وحدث عنه سفيان الثوري، ومحمد بن يوسف الفريابي وغيرهما.
كان ثقة فاضلاً زاهداً ورعًا.
وكان من أولاد الملوك.
توفي سنة: 162هـ[1].   من أقواله: " ما صدق اللهَ عبدٌ أحب الشهرة"[2].
وقال "طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى، وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر"[3].
وقال: الورع ترك كل شبهة وترك ما لا يعنيك هو ترك الفضلات"[4].
وقال أبو حنيفة يومًا لإبراهيم بن أدهم: " قد رزقت من العبادة شيئًا صالحًا فليكن العلم من بالك؛ فإنه رأس العبادة، وقوام الدين.
فقال له إبراهيم: وأنت فلتكن العبادة والعمل بالعلم من بالك وإلا هلكت"[5].   وأما قصة هدايته: فعن يونس البلخي قال: كان إبراهيم بن أدهم من الأشراف، وكان أبوه كثير المال والخدم، والمراكب والجنائب[6] والبزاة، فبينا إبراهيم في الصيد على فرسه يركضه، إذا هو بصوت من فوقه: يا إبراهيم: ما هذا العبث؟ ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا ﴾ [المؤمنون: 115]، اتق الله، عليك بالزاد ليوم الفاقة.
فنزل عن دابته، ورفض الدنيا وأخذ في عمل الآخرة[7].   فوقعت منه الموعظة بهذه الآية موقعها، ونقلته من تلك الحياة اللاهية إلى حياة الزهد والورع، فصار مضرب المثل في هذا الباب، رحمه الله.   والآية التي فتحت له باب الهداية تُنكر على من ظن أن الإنسان خُلق إلى هذه الحياة دون أن يكون مكلفًا فيها، ومحاسبًا عليها في الدار الآخرة، فهي تقول له: ليس الأمر كذلك، وتنزه الله عن ذلك.   قال ابن كثير في معناها: " أي: أفظننتم أنكم مخلوقون عبثاً بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا، وقيل: للعبث، أي: لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب، وإنما خلقناكم للعبادة وإقامة أوامر الله عز وجل ﴿ وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ أي: لا تعودون في الدار الآخرة، كما قال تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ﴾ يعني: هملاً.
وقوله: ﴿ فَتَعَالَى اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقّ ﴾ أي: تقدس أن يخلق شيئاً عبثاً؛ فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك"[8].   دروس من قصة الهداية: 1- أحسن المواعظ مواعظ القرآن، فمن أراد وعظ العاصين، وزجر اللاهين فعليه بمواعظ القرآن أولاً. 2- على الإنسان العاقل أن يستجيب للنصيحة التي تعلق قلبه بالدار الآخرة، وتنهاه عن لهو الدنيا الذي يبعده عن خالقه سبحانه. 3- الإنسان خُلق لغاية عظيمة، ألا وهي عبادة ربه، فليجدَّ فيها قبل أن يرجع إليه. 4- قد ينتفع الإنسان بموعظة واحدة تكسبه سعادة الدنيا والآخرة. التجافي عن الدنيا والتعلق بالآخرة في نطاق المشروع ليس مذمومًا، بل هو عين العلم والعقل، وهدي الأنبياء والرسل.  


[1] تنظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء، الذهبي (7/ 387) وما بعدها، وفيات الأعيان، ابن خلكان (1/ 32)، البداية والنهاية، ابن كثير (10/ 137).
[2] سير أعلام النبلاء، الذهبي (7/ 393).
[3] طريق الهجرتين، ابن القيم (ص: 85).
[4] مدارج السالكين، ابن القيم (2/ 21).
[5] البداية والنهاية، ابن كثير (10/ 137).
[6] الجنائب: الدواب المقودة.
المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وزملاؤه (1/ 139).
[7] سير أعلام النبلاء، الذهبي (7/ 388)، البداية والنهاية، ابن كثير (10/ 136).
[8] تفسير ابن كثير (3/ 316).




شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣