أرشيف المقالات

اسما الله تعالى: القابض الباسط (تأصيلا وفقها)

مدة قراءة المادة : 20 دقائق .
2اسما الله تعالى: القابض الباسط (تأصيلًا وفقهًا)   هما اسمان جليلان، يوطِّدان لسلامة العقيدة، ويُطهِّران شوائب الإيمان، ويرفعان المؤمن إلى درجة العبودية الخالصة، والتعلُّق الكلي بربِّ السماوات والأرض، الذي لا يجري شيء في الكون إلا بعلمه، ولا يتصرَّف شيء إلا بقُدْرته، ولا يحدث للإنسان شيء إلا بإرادته.   وهما اسمان عظيمان، مَنْ تأمَّلَ حقيقتَهما عاش حياة السعادة، ومن آمن بمقتضياتهما تقلَّب في رَغَدِ الطُّمَأْنينة، ومَن فَقِه غايتَهما اكتفى بما عنده، ولم يطمَع فيما عند غيرِه، وقنِعَ بما رزَقه الله، ولم يلتفت إلى دنيا غيره، فاستراحت نفسُه، وقلَّ همُّه، وذهب غمُّه، وتبدَّد قَلَقُه، وهما من الأسماء المزدوجة التي لا يتحقَّق وصْفُ الكمال الإلهي إلَّا باجتماعها.   والقَبْض هو: الأخْذ؛ تقول: قبضتَ الشيء: إذا أخذتَه وأمسكتَ به، وقُبِضَتْ رُوحُ فلان؛ أي: أُخِذَتْ منه وسُلِبتْ، ويُقال للشحيح المقْتِر في النفَقة: قَبَض يدَه؛ كما قال تعالى في وصف المنافقين: ﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67]؛ أي: يمتنعون عن الإنفاق.   أما البَسْط - بالسين والصاد - فهو نقيض القَبْض، والبَسْطة هي السَّعة في الشيء؛ قال تعالى: ﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾ [البقرة: 247].   والله عز وجل قابضٌ - أي: مانعٌ - عطاءه ورزقَه على من يشاء ابتلاءً، وباسط - أي: مُوسِّع - في الرزق على من يشاء كرمًا وجُودًا.   والدليل عليهما حديث أنس رضي الله عنه قال: قال الناس: يا رسول الله، غَلا السِّعْرُ فَسَعِّرْ لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ هو الْمُسَعِّرُ، القابِضُ، الباسِطُ، الرَّازِقُ، وإنِّي لأَرْجُو أنْ ألْقَى اللهَ وليس أحَدٌ منكم يُطالِبُني بِمَظْلمةٍ في دَمٍ ولا مالٍ))؛ صحيح سنن ابن ماجه.   وهما اسمان مستفادان أيضًا من ورود اتصاف الله تعالى بهما في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245]، وقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِر ﴾ [الرعد: 26]، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يَقْبِضُ الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويَطْوِي السماءَ بيمينِه، ثم يقول: أنا الملكُ، أيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ؟))؛ متفق عليه؛ قال ابن القيم رحمه الله في نونيته: هو قابِضٌ هو باسِطٌ هو خافِضٌ ♦♦♦ هو رافِعٌ بالعَدْلِ والميزانِ   والمؤمن موقنٌ بأن الله تعالى يَبْسُط الرزق لعباده بجُوده ورحمته، ويُوسِّعه عليهم ببالغ كَرَمِه، ويُمسك الرزق عن العِبادِ بلُطْفه وحِكْمته، فيُضَيِّقُ الأسباب على هذا، ويُوسِّعها على هذا اختبارًا وامتحانًا، فلو شاء سبحانه ملأ الدنيا نِعَمًا، وأغدَق على أهلها عطاءً، فما بقِي على ظهرها فقيرٌ أو محتاج، ولكن الله تعالى يُنزِل من فضله بمقدار ما يُصلِح العباد والبلاد؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21].   يقبض سبحانه بالعدل، ويبسط بالفضل، يقبض بالحِكْمة، ويبسُط بالرَّحْمة، فكم من الناس لا يُصلِح حالَه إلا القَبْضُ، وكم منهم لا يُصلِحه إلا البَسْطُ. قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: "طلبْنا الفقرَ فاستقبَلَنا الغِنى، وطلب الناسُ الغِنى فاستقبَلَهم الفقرُ".   وقال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: "ابْتُلِينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضرَّاءِ فَصَبَرْنا، ثم ابْتُلِينا بالسرَّاءِ بَعْدَه فلم نَصْبِرْ"؛ صحيح سنن الترمذي؛ قال ابن الأثير: "يريد: إنا اختُبِرنا بالفقر والشدَّة والعذاب، فصبرنا عليه، فلمَّا جاءتنا السرَّاءُ - وهي الدنيا والسَّعة والراحة - بَطِرنا ولم نصبِر".   والله تعالى يبسُط الرزق لمن يشاء؛ حتى لا تبقى فاقةٌ: ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان: 20]، ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ﴾ [إبراهيم: 34]، ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [النحل: 18]، ويقبضه حتى لا تبقى طاقةٌ، ﴿ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ﴾ [التوبة: 118]، وكل ذلك منه سبحانه بقدر: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر ﴾ [القمر: 49]، هذه عقيدةُ المؤمنين الصادقين.   أما اليهود، فقد ظنُّوا أن منعَ الله تعالى إنما هو عن بخل وفقرٍ، فقالوا: ﴿ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾ [المائدة: 64]، فرَدَّ الله تعالى عليهم: ﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64]. ولقد ضرَب الله عز وجل في موضعٍ واحدٍ مَثَل مَنْ فتح الله عليه الدنيا، فتجبَّر وطغى، ومَنْ منَعه الله إيَّاها، فرجع وارعَوى.   ها هو قارون الذي كان من أتباع موسى مُلقبًا بالمنور لحُسْن صوته بالتوراة، ابتلاه الله بالدنيا التي فُتِحَت عليه من كل جانبٍ، لكنه اغترَّ بماله، وصَلِفَ بجاهه، ونَسِيَ شُكر نعمة ربِّه، حتى قال: ﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78]، أما أتباعه فلم يلحظُوا سُنَّة الابتلاء في كثرة المال والجاه، فقالوا: ﴿ يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [القصص: 79]؛ لكن لما خسَف الله به وبداره الأرض؛ لتجبُّره وتكبُّره، وفساد عقيدته، رجَعوا إلى أنفسهم، وعلموا أن خيرهم في فقرهم، وأن فلاحَهم في مَنْعِهم: ﴿ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ﴾ [القصص: 82]، فتابوا إلى الله عن تمنِّي الدنيا إلا بحقِّها، وأن الله حكيم في بَسْطِها وقَبْضِها.   وقد يَقتُرُ الله على من يُحبُّه زيادةً له في الإيمان، وتقويةً له على الشُّكْر، فقد أُوتي عبدالرحمن بن عوف بطعامٍ وكان صائمًا، فقال: "قُتِلَ مُصْعَبُ بن عُمَيْر، وهو خيرٌ منِّي، كُفِّنَ في بُرْدةٍ، إنْ غُطِّيَ رأسُهُ، بَدَتْ رِجْلاهُ، وإنْ غُطِّيَ رِجْلاهُ، بَدا رأسُهُ، وقُتِلَ حمزة وهو خيرٌ منِّي، ثم بُسِطَ لنا من الدنيا ما بُسِطَ، أو قال أُعْطِينا من الدنيا ما أُعْطِينا، وقد خَشِينا أنْ تكونَ حَسَناتُنا عُجِّلَتْ لنا"، ثم جَعَلَ يبكي حتَّى تَرَكَ الطعامَ؛ البخاري.   قال بعض الصالحين: نَصبَتْ لنا الدنيا زخارفَ حُسْنِها مَكْرًا بنا وخديعةً ما فَتَّرتْ وهي التي لم تَحْلُ قَطُّ لذائقٍ إلَّا تغيَّرَ طَعْمُها وتَمَرَّرَتْ خدَّاعةً بجَمالها إنْ أقْبَلَتْ فجَّاعةً بزوالها إنْ أَدْبَرَتْ وهَّابةً سلَّابةٌ لهِباتِها طَلَّابةً لخَرابِ ما قَدْ عَمَّرَتْ وإذا بَنَتْ أمرًا لصاحِب ثَرْوةٍ نَصَبتْ مَجانِقَها عليه فَدَمَّرَتْ   وقد ينطوي المنعُ والتضييق على نِعَمٍ كثيرة، يجد الإنسان أثَرَها عيانًا؛ كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما أُصِبْتُ ببلاء إلَّا وجدْتُ لله عليَّ فيه أربع نِعَمٍ: الأولى أنه لم يكن في ديني، والثانية أنه لم يكن أكبرُ منه، والثالثة أنني لم أُحْرَم الرِّضا به، والرابعة أنني أرجو ثواب الله عليه".   وقال سفيان الثوري رحمه الله: "لم يفقه عندنا من لم يَعُدَّ البلاء نِعْمةً، والرَّخاء مُصيبةً".
وقال وهب بن مُنبِّه رحمه الله: "إذا سُلِكَ بِكَ طريقُ البلاء، سُلِك بكَ طريقُ الأنبياء".
وقال مطرف رحمه الله: "ما نزل بي مكروهٌ قَطُّ فاستعظمتُه، إلَّا ذكرتُ ذُنُوبي، فاستصْغَرْتُه".   وعَثَرَتْ قَدَمُ أحد الصالحين بحجر فابتسم، وقال: "الحمد لله"، قيل له: فيكَ كلُّ هذا الوجَع وتبتسم؟ قال: "إن حلاوة الثوابِ، أنستني مرارةَ الألم".   والمؤمن البصير ينظر ماذا وجد، لا ماذا فقد، ينظر إلى النِّعَم الوفيرة التي مَنَّ الله بها عليه، وقد حُرِمَ منها ألوفٌ غيرُه، فيكون ذلك أدْعَى له على الشُّكْر.   ورَحِمَ الله عروة بن الزبير لما ابتُلي بقَطْع رِجْله قال: "اللهم إنْ كنتَ أخذْتَ فقد أعطيْتَ، وإنْ كنتَ ابتليْتَ فقد عافيْتَ".   وفي القدر خفايا وأسرار، ولو كُشِف للعبد قَدَرُه، ما اختار غيرَ ما يقضيه اللهُ له.
للهِ في الخَلْق ما اختارتْ مشيئتُه ما الخيرُ إلَّا الذي يختارُه اللهُ إذا قضى اللهُ فاستسْلِمْ لقُدْرَتِه ما لامرئٍ حِيلةٌ فيما قضى اللهُ   وإن تفيُّؤ ظِلال هذين الاسمين الكريمين، يُحيلنا على كثيرٍ من المعاني المباركة التي تُقوِّي إيمان المسلم، وتُقرِّبه من خالقه عز وجل، منها: 1- إثبات صفتي القَبْض والبَسْط لله سبحانه إثباتًا تامًّا، من غير تشبيه أو تكييف، أو تعطيل أو تحريف؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67].   قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ووَصَفَ نفسَه ببسْط اليدين، فقال: ﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ [المائدة: 64]، ووَصَفَ بعض خلقه ببسط اليد في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29]، وليس اليد كاليد، ولا البَسْط كالبَسْط".   2- خُلِق آدمُ عليه السلام من قبضة الربِّ سبحانه من جميع الأرض، تحقيقًا للاختلاف الذي جاء عليه بنوه؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ مِنَ قَبْضةٍ قَبَضَها من جميع الأرض، فجاء بنو آدَمَ على قَدْرِ الأرض، جاء منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسَّهْلُ، والحَزْنُ، والخَبِيثُ، والطيِّبُ، وبين ذلك))؛ صحيح سنن أبي داود؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فالمفهوم من هذا الكلام، أن لله تعالى يدين مختصَّتين به، ذاتيَّتين له، كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه خَلَق آدَمَ بيده دون الملائكة وإبليس، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السماوات بيده اليمنى، وأن يديه مبسوطتان".   3- وكما يبسط يده سبحانه بالرزق لمن شاء من عباده، فيُوسِّعه عليهم بمنِّه وجُودِه وكَرَمِه، فكذلك يبسُط يده بالتوبة على مَنْ شاء ممَّن أساء من عباده؛ قال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: ((إنَّ الله عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بالليل لِيَتُوبَ مُسِيءُ النهار، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنهار لِيَتُوبَ مُسِيءُ الليل، حتَّى تَطْلُعَ الشمس مِنْ مَغْرِبها))؛ مسلم.   4- قَبْضُه سبحانه قلوبَ الظالمين، فلا تسري فيها رحمةٌ، وبَسْطُه قلوبَ الصالحين، فلا تشوبها قَسْوةٌ؛ كما قال سبحانه: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الأنعام: 125].   5- وقد يبتلي المؤمنين بقبْضِ قلوبهم وبسْطِها تهذيبًا لها وتشذيبًا؛ كما ثبَت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ [الحج: 1] أنه قال لهم: ((هل تدرون أي يوم ذلك؟))،قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذاك يوم يُنادي اللهُ فيه آدمَ، فيقول: يا آدَمُ، ابْعَثْ بَعْثَ النار، فيقول: يا رَبِّ، وما بَعْثُ النارِ؟ فيقول: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعمائةٍ وتِسْعةٌ وتِسْعُونَ إلى النار، ووَاحِدٌ في الجنة))، فَيَئِسَ القومُ حتَّى ما أَبْدَوْا بِضاحِكةٍ، فلَمَّا رَأَى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بأصْحابِه، قال: ((اعْمَلُوا وأَبْشِرُوا، فَوَالذي نفس محمدٍ بيده، ما أنتم في الناس إلَّا كالشَّامةِ في جَنْبِ البعِيرِ، أو كالرَّقْمةِ في ذِراع الدَّابَّةِ))، فَسُرِّيَ عن القوم بعضُ الذي يَجِدُونَ؛ صحيح سنن الترمذي.   وقال بعض العلماء: "إن أعظم البَسْطِ: بَسْطُ الرحمة على القلوب؛ حتَّى تستضيء وتخرج من وَضَرِ الذنوب، وهذا هو الشرح المذكور في قوله عز وجل: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 22].   6- قَبْضُ الأرواح وبسْطُها بأجَلٍ مُسمًّى؛ قال الغزالي رحمه الله: "(القابض الباسط) هو الذي يقبض الأرواح عن الأشباح عند الممات، ويبسط الأرواح في الأجساد عند الحياة".   وكلَّف سبحانه الملائكة ببَسْط أيديهم لإخراج أرواح العباد، فتُؤمَر بالبَسْط اليسير عند قَبْض أرواح المؤمنين، وبالبَسْط القوي المصحوب بالضَّرْب عند قَبْض أرواح الظالمين؛ قال سبحانه: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الأنعام: 93].   قال السعدي رحمه الله: "(القابِضُ الباسِطُ): يَقْبِضُ الأرْزاقَ والأرواحَ، ويَبْسُطُ الأرزاقَ والقلوب، وذلك تَبَعٌ لِحكْمَتِهِ ورَحْمَتهِ".   7- ليس بسط الرزق لبعض الناس دليلًا على محبَّة الله لهم، بل هو استدراج قاصرٌ على ملذَّات الدنيا، موصِّل إلى عذاب الله يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44].   وقد يكون الابتلاء ظاهرُه القَبْض، وهو يطوي من البَسْط ما يُسَرُّ به المؤمن في العاجل والآجل؛ كما قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]، فهذه المحن ما هي إلا نِعَمٌ مَحَّصَ اللهُ بها المؤمنَ من المنافق، والصادقَ من الكاذب.   قال القرطبي رحمه الله: "وهذا إشارةٌ إلى أنَّ ما أصابَ المؤْمِنَ مِنْ مِحَنِ الدنيا نِعْمةٌ، وما أصابَ الكافرَ من نِعَمِ الدنيا فِتْنةٌ".   8- دعاء النبي صلى الله عليه وسلم باسْمَيِ الله القابض الباسط، وبخاصة عند أصعب المواقف التي يعظم فيها الاحتياج إلى اللَّجأ إلى الله تعالى؛ فعن رِفاعةَ الزُّرَقِيِّ رضي الله عنه قال: لَمَّا كان يومُ أُحُدٍ، وانْكَفَأَ المشركون، (قال ابن القيم: "فظنَّ المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراري والأموال، فشقَّ ذلك عليهم")، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسْتَوُوا حتَّى أُثْنيَ على ربِّي))، فصارُوا خلفَه صُفُوفًا، فقال: ((اللهم لك الحمد كله، اللَّهُمَّ لا قابضَ لِمَا بَسَطْتَ، ولا باسطَ لِمَا قَبَضْتَ، ولا هاديَ لِمَا أَضْلَلْتَ، ولا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، ولا مانعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، ولا مُقَرِّبَ لِمَا باعَدْتَ، ولا مُباعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللَّهُمَّ ابْسُطْ علينا من بركاتِكَ، ورَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ، وَرِزْقِكَ ...
اللَّهُمَّ إنِّي عائذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ ما أَعْطَيْتَنا، وشَرِّ ما مَنَعْتَ...)
)
؛ صحيح الأدب المفرد، فانقلَب المشركون إلى مكة، وكفى الله المسلمين شَرَّهم. واللهُ فتَّاحٌ عليمٌ علمُهُ وَسِعَ الأراضيَ كلَّها وسَمَاهُ هو خافضٌ هو رافعٌ هو قابضٌ هو باسطٌ تَهِبُ العطاءَ يداهُ   9- إن مِن فِقْهِ اسم الله "الباسط"، أن يتعوَّد الغَنيُّ منَّا بَسْطَ يده في الإنفاق والعطاء، وأن يتفضَّل على عباد الله المحتاجين بما تفضَّل الله به عليه، شكرًا لهذه النِّعْمة، وطمعًا في دوامها، فالله تعالى يقول في الحديث القدسي: ((أَنْفِقْ يا بنَ آدَمَ، أُنْفِقْ عليك))؛ متفق عليه.   فإن لم يفعل، فيُخشى أن يقبضَ الله عنه رزقَه، كيف والإحصاءات في بلد عربي واحد تُشير إلى وجود 200 ألف متسوِّل: 49% منهم ذكور، و51% نساء، منهم 23 ألف طفل وطفلة يمتهنون التسوُّل، أو يُستغلُّون من قِبَل بعض الأشخاص، مع ارتفاع قروض الاستهلاك بأكثر من 22% حسب إحصاء سنة 2012م، مع ملاحظة أن رُبع سكان العالم العربي يرغبون في الهجرة "الدائمة" إلى الخارج، بحثًا عن حياة أسعد، وعيش أرغد!   وعلى العالِم أن يتعوَّدَ بَسْطَ عِلْمِه للناس، فيتقرَّب منهم، ويُجيب عن أسئلتهم، ويُفقِّهُهم في دينهم؛ حتى يفتح الله على يديه القلوب، ويشرح بين يديه الصدور، فإن لم يفعل، فيُخشى أن يقبض الله عنه عِلْمَه، ولو عَلَّم كلُّ متعلِّمٍ أُميًّا واحِدًا، لَمَا بَقِيَ عندنا مَنْ يجهل الكتابة والقراءة، ممَّن يُقَدَّرُون في العالم العربي بأزيد من 65 مليونًا.   وعلى القوي أن يتعوَّد بَسْط قوَّته في نُصْرة المستضعفين، والدفاع عن العاجزين، ورفع الظُّلْم عن المظلومين، والأخذ على يد الغشَّاشين والمرتشين، واللُّصوص والمعتدين؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عن الْمُنْكَرِ، أو لَيُوشِكَنَّ الله أنْ يبعَثَ عليكم عِقابًا منه، ثم تَدْعُونَهُ فلا يُسْتَجابُ لكم))؛ صحيح سنن الترمذي.   10- ومن ابتُلي فضاقَ عليه رزقُه، وعظُم احتياجُه، فليعلم أن له ربًّا ناظرًا إليه، هو القابض بعَدْله، الباسط برحمته، لا يُظلَم عنده أحدٌ.   قال القرطبيُّ رحمه الله: "فيجب على كل مكلَّف أن يعتقد أنْ لا قابِضَ ولا باسِطَ إلا الله سبحانه، هو الذي يقبض الجميع ويبسطه، وهو الذي يبسط القلوب، والألسنة، والأيدي، وسائر الأسباب".
يا واهِبَ الأرزاقِ يُكرِمُ خَلْقَه أنَّى تَشَا أنتَ الجَوادُ القَابِضُ إنْ جُدْتَ أَدهَشَنا النَّعِيمُ مُبارَكًا فالخيرُ من كُلِّ المنافِذِ فائضُ وإذا قبَضْتَ الرِّزْقَ ليسَ بِمقبِلٍ إلَّا بإذْنِكَ أنت أنت القابضُ



شارك الخبر

المرئيات-١