أرشيف المقالات

لذة السجود لله

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
2لذة السجود لله   غاية الخضوع؛ حيث يضع المصلي أشرف أعضائه الظاهرة "وجهه" على أذل شيء في الوجود "الأرض". هنا: الفرحة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا قام يُصلي أُتِيَ بذنوبه كلِّها فوضعت على رأسه، فكلما ركع أو سجد تساقط عنه))[1].   هنا: استشعر العزة والافتخار، علمك ذلك الإمام أحمد: "اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصُنْه عن المسألة لغيرك"[2].   هنا: إذلال الشيطان وإبكاؤه، فهو القائل عند سجودك: ((يا ويله! أمر بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت، فلي النار))[3].   هنا: التلذذ بالطاعة، كما قال سعيد بن جبير رضي الله عنه: لقيني مسروق فقال: "يا أبا سعيد ما من شيء يُرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في هذا التراب"[4].   هنا: السعادة بالرحمة كما علمنا صلى الله عليه وسلم: ((...
حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار، أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود))[5]، وسبب ذلك يوضحه إسماعيل بن عبيد، فيقول: قلت لابن عمر رضي الله عنه: أطول الركوع للقائم في الصلاة أفضل، أم طول السجود؟ قال: "يا ابن أخي، خطايا الإنسان في رأسه، وإن السجود يحط الخطايا"[6]، وذلك كله لأن في السجود ذلًّا واستسلامًا لله سبحانه، وهل يراد منك إلا خضوعك لمولاك واستسلامك لشرعه وحكمه؟!   هنا: اسجد واقترب، حفزك لذلك النبي صلى الله عليه وسلم: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)) [7].   يقول الإمام النووي: "معناه أقرب ما يكون من رحمة ربه وفضله، وفيه الحث على الدعاء في السجود، وفيه دليل لمن يقول: إن السجود أفضل من القيام وسائر أركان الصلاة"[8]. • واعتبرها مسروق رضي الله عنه أعظم اللذائذ، فقال: "ما من الدنيا شيء آسى عليه إلا السجود لله تعالى"[9].   هنا: سجدتك خير من الدنيا وما فيها: بشرك بهذا النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحدٌ، حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها))[10].   وأؤكد لك ذلك بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مرَّ على قبر دفن حديثًا، فقال: ((من صاحب هذا القبر))؟! فقالوا: فلان، فقال: ((ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم))[11]؛ أي: "إن الناس يرغبون عن الدنيا حتى تكون السجدة الواحدة أحب إليهم من الدنيا وما فيها"[12].   وأدعوك لتتدبَّر قوله تعالى: ﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾ [القلم: 43]. "فإذا كان يوم القيامة، وانكشف فيه من القلاقل والزلازل والأهوال ما لا يدخل تحت الوهم، وأتى الباري سبحانه لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم، فكشف عن ساقه الكريمة التي لا يُشبهها شيء، ورأى الخلائق من جلال الله وعظمته ما لا يمكن التعبير عنه، فحينئذ يدعون إلى السجود لله، فيسجد المؤمنون الذين كانوا يسجدون لله طوْعًا واختيارًا، ويذهب الفجَّار المنافقون ليسجدوا فلا يستطيعون؛ لأنَّ ظهورهم كصياصي البقر"[13].   • وهذا الجزاء من جنس عملهم، فإنهم كانوا يُدعون في الدنيا إلى السجود لله وتوحيده وعبادته وهم سالمون، لا علَّة فيهم، فيستكبرون عن ذلك ويأبون، فلا تسأل يومئذ عن حالهم وسوء مآلهم، فإن الله قد سخط عليهم، وحقت عليهم كلمة العذاب، وتقطعت أسبابهم، ولم تنفعهم الندامة ولا الاعتذار يوم القيامة[14].   ولكن احذر العجلة، فلقد حذَّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا تُجزئ صلاة لا يقيم الرجلُ فيها صلبَه في الركوع والسجود))[15].   وهنا سجدتان: فلعلك تسأل: لم التكرار؟ لأنه كثيرًا ما تكرر منك السوء، فواجب عليك أن تقابله بتكرار الخير الماحي لذلك السوء. • كرر: لإظهار عزمك على المغفرة، وأملًا في الجواب، فمن داوم القرع يوشك أن يفتح له الباب. • كرر: رفعًا لليأس، وإظهارًا لصدق الاستغاثة وطلب العون؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.   بين السجدتين: وبعد السجدة ارفع رأسك لا بصرك؛ لأن الله قِبَلك، فأي أدب يكون إذا صرفت بصرك عن مولاك؟ فاجلس مطمئنًا، فهذه الجلسة رحمة من الله بك، وإلا فمن يطلب حاجة يقف أمام سيده لإجابة طلبه، ولكنه الكريم سبحانه، يرضاك عبدًا له، حتى وأنت جالس، فناجه مناجاة المقر المعترف بفيض نعمه وكريم إحسانه، واستحضر ذنوبك، راجيًا مغفرته، ثم أعد السجود ثانية، مستحضرًا سيرك مع الساجدين العابدين لله سبحانه، الذين ﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ﴾ [الفتح: 29].   قائلًا: ((اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني))، وفي رواية: ((وأجرني))[16].   فهنا ستة أشياء: 1) المغفرة: وهي ستر الذنوب والمعاصي، وسؤال الله عدم المؤاخذة عليها.   2) الرحمة: ورحمة الله هي إحسانه لعبده، وتفضله عليه في الدنيا بنعمه، وفي الآخرة بعفوه وجنته.   3) الرزق: ماديًّا ومعنويًّا، وما أجمل رزق الله: علمًا نافعًا، وعملًا طيِّبًا، وولدًا صالحًا، وعافية في بدن، وسلامة في دين، ونجاة من النار، وفوزًا بالجنة.   4) الجَبْرُ: وهو الإصلاح، وكأنك تقول: مولاي أصلح لي إيماني وعبادتي، وسد عجزي وضعفي.   5) العافية: وهي في الدنيا سلامة الجسد من الآفات، وفي الآخرة السلامة من الأهوال والعُقُوبات.   6) الهداية: وهي بيان الشيء وتوضيحه، وكأنك ترجو من ربك أن يُعرفك الحق، مع العمل به والثبات عليه، ودعوة الناس إليه.   السجدة الثانية: ثم أعِدْ سجودك تذللًا وطلبًا للرحمة، وأسألك: كم سجدة سجدتها بطمأنينة قلب، وحضور عقل، وتدبر ذكر؟! إن لم تجرب فانهضْ، وإن لم تفعل فاستدركْ واقتدِ بقافلة الصالحين، واسمع ما قاله أبو الدرداء رضي الله عنه: "أدلجت ذات ليلة إلى المسجد، فلما دخلت مررت على رجل ساجد، وهو يقول: اللهم إني خائف مستجير فأجرني من عذابك، وسائل فقير فارزقني من فضلك، لا مذنب فأعتذر، ولا ذو قوة فأنتصر، ولكن مذنب مستغفر"[17].   ♦ وكان عبدالأعلى التيمي يقول في سجوده: "رب زدنا لك خشوعًا كما زاد أعداؤك لك نفورًا، ولا تكُبَّنَّ وجوهنا في النار من بعد السجود لك"[18].   ♦ وكان عتبة الغلام يقول: "اللهم احشر عتبة بين حواصل الطير وبطون السباع"[19]؛ طلبًا للشهادة.   ♦ وكان مسلم بن يسار رضي الله عنه يقول في سجوده: "متى ألقاك وأنت عني راضٍ، ويذهب في الدعاء، ثم يقول: متى ألقاك وأنت عني راض"[20].   ♦ وانطلق نور الدين محمود في حربه ضد الصليبيين: "اللهم انصر دينك ولا تنصر محمودًا، ومن هو محمود الكلب حتى ينصر؟!"[21].   ♦ مثل هذا السجود الخاشع هو الذي أثمر رجالًا من أمثال (أحمد بن عرفان) رحمه الله (1426هـ)...
يُحكى أنه قصد مرة طبيبًا مسلمًا في بلده، وكان الشيخ قد علت سنه وأنهكهُ المرض، وكان المحل بعيدًا، فما وصل إلى الطبيب إلا وقد بلغ الجهد، وأعياه المشي على الأقدام، وبقي ينتظر خروج الطبيب برهة طويلة، فلما خرج الطبيب بعد انتظار شاق أقبل على عبادةٍ مبتدعة فيها تعظيم لغير الله، فما كاد يقع نظر الشيخ عليه، إلا أمر تلميذه بالانصراف، وخرج من ساعته، فلما كان في الطريق قال له: ما رأيت كاليوم! أجهدت نفسك في الوصول إلى الطبيب، وأطلت الانتظار، فلما خرج بادرت إلى الانصراف ولم تقضِ حاجتك منه؟ فقال له: ويحك ألم تره يعصي الله ويشرك به؟ فقال: ما لنا ولعمله، عليه ضلالته وسخافته، ولنا صناعته وبراعته، فقال: عجبًا لأمرك! إذا سكت على ذلك، واستعنت به، فكيف أقوم في الليلة أمام ربي؟ وبأي لسان أقول في قنوت الوتر: "ونخلع ونترك مَن يفجرك؟!"[22].   فيا أيها الساجد: أوصيك بوصيته صلى الله عليه وسلم: ((عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحطَّ عنك بها خطيئة))[23].   ♦ فيا للحسرة على عبد دُعي للسجود، وما طلب وما تذلل، وما رجا وما دعا؟! وما عرف أي سجود سجد؟ وأي صلاة صلى؟ وفي السجود: استمر في ذكرك، وقل ما قاله صلى الله عليه وسلم: ((سبوح قدوس رب الملائكة والروح))[24]، أو: ((سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي))[25].   هذه أذكار سيد العابدين وتسبيحاته تتوالى، وغيرها في رياض النبوة كثير، فما لك أيها الساجد لا تفقه ذكرك، ولا تشعر بجمال تسبيحك؟ فالعجب من عبد سجد وعاد خالي الوفاض، عاد إلى دنياه فإذا هي...
هي كيف؟ وقد كنت على باب من لا يرد سائلًا، ولا يحرم طالبًا إن صدق في طلبه، وإن لم تطلب هنا فأين؟ وإن لم تتذلل هنا فمتى؟!

[1] أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/ 99)، وصححه الألباني في الصحيحة (1398).
[2] صفة الصفوة لابن الجوزي: (1/ 484).
[3] أخرجه أحمد: (9713)، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (727). [4] الزهد لأحمد بن حنبل: (2032).
[5] أخرجه البخاري: (806)، ومسلم: (182).
[6] الزهد والرقائق لابن المبارك: (1295)، وتعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر: (304).
[7] أخرجه مسلم (482) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] شرح النووي على صحيح مسلم: (4/ 200).
[9] الزهد لأحمد بن حنبل: (2031).
[10] أخرجه البخاري: (3448)، واللفظ له، ومسلم: (155)، دون قوله: ((حتى تكون السجدة)).
[11] رواه ابن المبارك في الزهد، وصححه الألباني في الصحيح (1388). [12] فتح الباري لابن حجر: (6/ 492).
[13] كما قال صلى الله عليه وسلم: ((يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كلُّ مؤمن ومؤمنة، فيبقى كلُّ من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا))؛ أخرجه البخاري (4919) من حديث أبي سعيد الخدري به.
[14] تفسير كلام المنان/ عبدالرحمن السعدي (1/ 881).
[15] أخرجه النسائي: (1027)، وابن ماجه: (870)، والترمذي: (265)، وقال: حسن صحيح، وأبو داود بنحوه: (855). [16] أخرجه أبو داود: (850)، واللفظ له، والترمذي بنحوه: (284)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود: (796). [17] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: (29235)، وكذا أبو نعيم في الحلية: (1 /224). [18] أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: (5 /88).
[19] المصدر السابق: (6 /226).
[20] الزهد لأحمد بن حنبل: (1390). [21] البداية والنهاية لابن كثير: (16 /441). [22] انظر "الصلاة لماذا" محمد أحمد المقدم.
[23] أخرجه مسلم (488) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
[24] أخرجه مسلم: (487).
[25] أخرجه البخاري (735) ومسلم (392).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣