نعم المصلى (20) مبتغى الفاتحين - أيمن الشعبان
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:فهذه سلسلة حلقات مختصرة للتعريف بمكانة " المسجد الأقصى" من خلال القرآن والسنة الصحيحة، وارتباطه العقدي الإيماني التاريخي، بالوحي ورسالة التوحيد ودعوة الأنبياء، وإحياء تلك الحقائق في نفوس المسلمين، سميتها " نِعمَ المُصَلَّى " أسوة بحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، الذي أطلق عليه هذه التسمية الجميلة.
الحلقات ستكون بطرح سؤال في كل حلقة، ثم نجيب عليه لتكون أرسخ وأثبت وأحفظ وأوعى، من حيث المعلومة والفهم وديمومة الأُثر.
س20/ ما هي أبرز الفتوحات لبيت المقدس عبر التاريخ؟؟؟
من خصائص هذا المسجد المبارك أنه مبتغى الفاتحين وفيه رباط المجاهدين ومُقام ومحل الطائفة المنصورة، يقول عليه الصلاة والسلام من حديث عمران بن الحصين في سنن أبي داود وصححه الألباني : «لا تَزالُ طائفةٌ من أمَّتي يقاتِلونَ على الحقِّ ظاهِرينَ علَى من ناوَأَهُم حتَّى يُقاتلَ آخرُهُمُ المسيحَ الدَّجَّالَ»، وكما هو معلوم أن الدجال يقتل في باب لد الشرقي بفلسطين.
موسى عليه السلام بعد نجاته وقومه من فرعون وجنوده، كان مقصده الأعظم ووجهته نحو بيت المقدس، لفتحها وتحريرها وإقامة التوحيد فيها، إلا أن قومه خذلوه ولم يستجيبوا لأمره، فعاقبهم الله عز وجل بالتيه أربعين سنة، إلى أن تغير الجيل المخذل وجاء جيل شجاع جديد.
بعد وفاة موسى في التيه قاد بني إسرائيل فتاه يوشع بن نون، فسار إلى بيت المقدس لفتحها، بعد تهيئة الجيل وتحقيقهم العبودية، وكانت من أحصن المدائن سورا وأعلاها قصورا وأكثرها أهلا، فحاصرها ستة أشهر.
بعد الحصار واحتدام المعركة بين جيش يوشع وجيش الجبارين من العمالقة الوثنيين، كانت المعركة الفاصلة يوم الجمعة واقتربت الشمس من الغروب، وإن دخل عليهم المغيب سيدخلون بيوم السبت، فلا يتمكنون معه من القتال!
نظر يوشع إلى الشمس فقال لها: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئا، فحبست وحصلت معجزة لم تحصل عبر التاريخ إلا ليوشع وفي تلك الأرض المقدسة، وفتحت بيت المقدس.
وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام «إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس».[1]
بقيت بيت المقدس بيد الفئة المؤمنة قرابة أربعة عقود، وبعد موت يوشع عليه السلام وغياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خرج جيل منحرف مترف جبان، فسلط الله عليهم من أهانهم واغتصب أرضهم وسامهم سوء العذاب، هم جالوت وجنوده.
بقي الوضع قرابة مائة وخمس وعشرين سنة، حتى خرجت فئة ربانية مؤمنة قادها الملك المؤمن العالم طالوت، وكان من بين جنده داود عليه السلام، وقد قص الله سبحانه علينا هذه القصة في كتابه العزيز.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [2].
بدأت التصفية والغربلة والتنقية في جيش طالوت فاختبرهم عدة اختبارات، لأنه لا يحرر بيت المقدس إلا الصادقون الصالحون المتقون المؤمنون، بغض النظر عن العدد، { قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [3].
ثم يأتي النصر على يد الفئة المؤمنة الثابتة، {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [4].
قيل كان عدد الذين طلبوا ملِكا للقتال معه في سبيل الله ثمانين ألفا، لكن لم يبق منهم إلا قلة قليلة، كما ثبت عَنِ البَرَاءِ، قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَتَحَدَّثُ: أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاَثَ مِائَةٍ.[5]
ومن الصور المشرقة والمواقف التاريخية المهمة النيرة؛ الفتح العظيم لبيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 15هـ، وقد بشر عليه الصلاة والسلام بفتحها، ويذكر أن أرطبون إيلياء لما وصله كتاب عمرو بن العاص بعد فتح غزة، ذكر صفات من سيفتح بيت المقدس وهي تنطبق على عمر رضي الله عنه.
ولما حاصر أبو عبيدة إيلياء طلب أهلها عقد الصلح مع عمر بن الخطاب، فكتب إليه فسار من المدينة إلى بيت المقدس، ليتسلم مفاتيحها كأول مدينة تفتح صلحا ويتسلمها الخليفة بنفسه، وكان يحكم حينها من السند إلى مصر وقد فتحت مئات المدن والقرى والأقاليم في خلافته.
وعند وصول عمر رضي الله عنه بيت المقدس، عرضت له مخاضة طين فَنَزل عن بعيره، ونزع نَعْلَيْه فأمسكها بيدٍ وخاض الماء ومعه بعيرُه، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صُنعًا عظيمًا عند أهلِ الأرض، صنعت كذا وكذا، قال: فصكَّ في صدره وقال: أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذلَّ النَّاس، وأحقر النَّاس، وأقلَّ النَّاس، فأعزَّكم الله بالإسلام فَمَهْمَا تَطْلُبوا العزَّ بغيره يذلكم الله.[6]
ويذكر أن عمر أمر بلالا أن يؤذن، وكان قد انقطع عن الأذان بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رفع بلال الأذان بكى عمر وبكى الصحابة والجيش، وارتج المسجد بالبكاء، لأنهم ذكرهم تاريخا ذكرهم مجدا ذكرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام.
اللهم حرر المسجد الأقصى من براثن الغاصبين، وأبرم لهذه الأمة أمر رشد تعز فيه المقدسات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]السلسلة الصحيحة برقم 202.
[2] (البقرة:246).
[3] (البقرة:249).
[4] (البقرة:250-251).
[5]صحيح البخاري .
[6] البداية والنهاية (7/49).