أرشيف المقالات

على طريق التوبة

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
2على طريق التوبة
عناصر الموضوع: 1 - الاستسلام الكامل لله.
2 - محاسبة النفس. 3 - كيفية محاسبة النفس.
4 - مراقبة الله.
5 - الحرص على الحسنات.
6 - الخوف من سوء الخاتمة (قصة).
7 - من قصص التائبين (3 قصص).
♦    ♦    ♦
كيف تسير في طريق الله؟ بعد الحمد والثناء... إخوة الإسلام: إذا عرَفنا كيف نبدأ، ومِن أين ننطلق، فأين الطريق الذي نسير عليه إذًا؟ هذه معالِمُه: 1 - الاستسلام الكامل لله جل وعلا: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. والإسلام: معناه الاستسلام الكامل لله تبارك وتعالى في جميع الأمور؛ صغيرها وكبيرها. فمن الناس من يسلِّم في العبادات، ولكنه لا يسلم في المعاملات. ومن الناس من يُسلِّم في المعاملات، لكنه لا يُسلم في العبادات. ومن الناس من يُسلم في أوقات، ولا يُسلم في أوقات.   لكن رب العزة تبارك وتعالى أمَرَنا أن نأخذ الإسلام جملةً وتفصيلًا ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ [البقرة: 208].   ولقد وبخ الله قومًا أخذوا بعض أوامر الله وتركوا بعضها، فقال: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 85].   2 - محاسبة النفس: نفسُك التي بين جنبيك هي الدابة التي تحملك في طريقك إلى الله، فإن أحسنتَ سياستها، وأتقنت قيادتها، أحسنَتْ بك المسير، حتى تصل إلى مرضاةِ ربك.   والناس في ذلك ثلاثة أصناف: طرفان، ووسطٌ. 1 - فطرف أخذها بالشِّدة؛ فقتر عليها في الطعام، والشراب، واللباس، والنوم، والراحة. (ثلاثة الرهط الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: أما أنا، فأقوم الليل كله...، وقال الثاني: وأما أنا، فأصوم الدهر ولا أُفطِر، وقال الثالث: وأما أنا، فلا أتزوَّج النساء، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((أما أنا، فأقوم وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، هذه سُنتي، ومَن رغب عن سُنتي فليس مني))[1].   وطرف ثانٍ: ترك للنفس زمامها يعطيها ما تحبُّ، وأسرف لها في الراحة، فصعبت عليه، وتمردت بين يديه، فالنفس كالطفل إذا أهملتها اعوجَّت، وإذا قوَّمتها استقامت. وكلا الطرفين مخطئٌ، والطريق الصحيح هو: الطريق الوسط. أن يحملها على الطاعة بالتدريج. أن يأتيها من الباب الذي تحبُّ.   إذا ملَّت وكلَّت تركها: ((ليُصَلِّ أحدُكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد))[2]، ((ساعةٌ، وساعةٌ))[3]، ينوِّعُ في العبادات، ولا يشدِّد على نفسه في النوافل.   3 - كيفية محاسبة النفس: إن النفس بطبيعتها تميلُ إلى الشهوات والملذَّات والهوى، فلا بد إذًا مِن محاسبة هذه النفس، ومنعها عن الشرِّ، ودفعها إلى الخير.   ولقد أقسَمَ ربُّ العزة في كتابه الكريم ثمانية أقسام متتالية على أنه لا فلاح ولا نجاح إلا بتزكية النفس وتطهيرها، فقال سبحانه: ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 1 - 10].   قال قتادة: قد أفلح من زكى نفسه بالطاعة، وطهَّرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل.   محاسبة قبل العمل: يسأل نفسه: ماذا يريد بهذا العمل؟ أيريد وجه الله أم شيئًا آخر؟ فإن كانت الأولى مضى واستبشَر، وإن كانت الثانية وقف مرة أخرى مع نفسه يُوبِّخُها، ويُذكِّرها بربِّها، ويُبيِّن لها أن الرياء لا خيرَ فيه.   كيف تتخلص من الرياء؟ اعلم أن الدافع على الرياء هو الطمع في مدح الناس وخوف مذمَّتهم، ويمكن التخلص من الرياء بما يلي: 1 - أن تعلم أن مدح الناس لا ينفعك إن كنت عند الله مذمومًا، وذمهم لا يضرك إن كنت عند الله محمودًا. 2 - أن تعلم أن المخلوق الضعيف الذي تطلبُ مدحه لا يملك لك ضرًّا ولا نفعًا، خاصة يوم فقرك الأكبر، وحاجتك العظمى. 3 - أن تعلم الرياء يُحبط العمل، وربما حوَّله إلى كِفَّة السيئات. 4 - إن كنت تخشى اطلاع الناس على خبث باطنك وسواد قلبك في الدنيا، فالله تعالى مطلعٌ على ذلك، وسيفضحك يوم القيامة يوم الجمع الأكبر، وعلى رؤوس الأشهاد، إن لم تتُب قبل الممات.   محاسبةٌ أثناء العمل: فإذا دخلت في العمل؛ كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وغيرها، فعليك بمراقبة نفسك وتعهُّدها، فإذا التفتَتْ إلى غير الله، فعليك أن ترُدَّها وتزُمَّها وتخطمها كي تعود إليه. ويظلُّ حالك كذلك حتى تنتهي من العمل.   محاسبة بعد العمل: فإذا انتهيت من العمل، فلا تفاخِر به، ولا تذكُره أمام أحدٍ، ولا تستحسنه مِن قِبَل نفسك، بل تذكُرُ تقصيرك وتفريطك، وكُنْ على وَجَلٍ مِن عدم قَبوله، واسأل اللهَ القَبول.   4 - مراقبة الله: يقول عز من قائل: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]. ويقول سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الحديد: 4]. ويقول سبحانه: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7].   ويقول ابن المبارك: إذا ما خلوتَ الدهرَ يومًا فلا تقُلْ: خلوتُ، ولكنْ قُلْ: عليَّ رقيبُ ولا تحسبَنَّ اللهَ يغفُلُ ساعةً ولا أنَّ ما تُخفِي، عليه يَغِيبُ   ويقول غيره: وإذا خلوتَ بريبةٍ في ظُلمةٍ والنفسُ داعيةٌ إلى العصيانِ فاستَحْيِ مِن نظرِ الإلهِ وقل لها: إنَّ الذي خلق الظلامَ يراني
وفي الصحيحين: ((الإحسان أن تعبُد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))[4].   5 - الحرص الشديد على الحسنات: المسلم يتاجر مع ربه، فكما أن التاجرَ حريصٌ على أن تنموَ تجارتُه، ويزداد رِبْحُه، وتقلَّ خسارته، فالمؤمن أشد من ذلك: يكثر من النوافل، ويتقن الفرائض؛ فـ((كل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عن مُنكر صدقةٌ))[5].   ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الصف: 10].   ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261].   الخوف من سوء الخاتمة: إن المؤمن مشفقٌ على نفسه، خائفٌ على مستقبله، المستقبل الأبديُّ إما إلى جنة، وإما إلى النار، إما نعيمٌ لا ينفَد، وإما لهبٌ ولظى، وحياتٌ وعقارب، وضريعٌ وحسرةٌ. اللهم ارحمنا.   شاب مات على المُخدِّرات: قال أحد الدعاة: لقد كان لنا جارٌ لا يصلي إلا قليلًا، فالتقيتُ به مرة في المسجد، وعلمت أن له أصدقاء سوء يجرُّونه إلى المعاصي جرًّا، فأخبرت بعض الشباب الصالحين أننا نريد أن نُبعده عنهم، فالتقينا به وأخذناه معنا إلى البيت نحدِّثه ونؤانسه، ثم اتفقنا أن نخرج إلى البر[6] في عطلة الأسبوع وفعلنا، بل استمر ذلك كل عطلة، والتزم صاحبنا وحافظ على الصلاة، وبدأ يحفظ في القرآن، وترك الغناء، وظهرت عليه علامات الصلاح، وظل هكذا شهرين، ولكن لظروفٍ ما انتقلتُ مِن جواره إلى أطراف المدينة، ولم أتمكن من الاتصال به؛ لعدم وجود الهاتف في بيتي الجديد، لكنني سألت عنه فأخبروني أنه عاد إلى حياته الأولى؛ ترك القرآن، ترك الصلاة، ترك الصالحين! عاد إلى رفقاء السوء؛ الأغاني، الموسيقا، فقرَّرت أن نزورَه مرة أخرى، ونعاود الكرَّة، ولكن قبل أن أذهب اتَّصل بي أحد الأصدقاء يخبرني أن صاحبنا قد مات؛ مات! وكيف؟! سافر مع رفقاء السوء إلى شرق آسيا، وتناول هناك جرعةً كبيرةً من المُخدِّرات، فمات بها، وعاد في تابوت، ومعه تقريرٌ أن سبب وفاته كانت بسبب المُخدِّرات!   6 - من قصص التائبين: 1 - قصة شاب تائب: يقول ذلك الشاب: أمام تلك المرآة القابعة في الزاوية الشرقية من غرفتي، كنت أسرِّح شعري في أصيل يومٍ قائظ، وكانت نغمات الموسيقا تملأ الجو صخبًا وضجيجًا؛ وفجأة خفق قلبي خفقانًا شديدًا لم أعرِفْ سببه، اتَّجهت إلى المسجل وأسكتُّ الموسيقا، تلك الموسيقا الغربية، التي لا أفهم منها شيئًا، وكنت على موعد مع أحد الأصدقاء لنتجه إلى الأسواق لنعاكس الفتيات كعادتنا.   وأثناء خروجي من البيت نادتني أمي: يا أحمد، لقد رأيتك البارحة في المنام، ولكني تجاهلتها، لحقتني وأمسكت ذراعي، ألَا تضع لهذا الاستهتار وضياع الوقت حدًّا؟! لكنني نظرت إليها ثم انطلقت صامتًا؛ فصديقي ينتظرني بسيارته، فوجدته مشعلًا سيجارته: أي سوق تريد أن تذهب؟ وصوت الأغاني مرتفع، لكني صمتُّ، صمتُّ؛ لأن كلمات رجل الحسبة ما زالت ترنُّ في أُذني: (أخي، أليس من العيب أن تضيع شبابك لاهثًا ساعيًا وراء بنات المسلمين، وأن تساهم في إفساد المجتمع..
وأنت مِن فِلْذات أكبادنا، ومن أبنائنا؟ أخي..
ألا تتقي الله!)، كلماتٌ نزلت عليَّ كأنها صاعقةٌ..
لكان أهونَ على نفسي من هذا التأنيب الرهيب.   ونحن في وسط الطريق، قلت لصديقي: ارجعني إلى البيت، لن أذهب إلى السوق اليوم، ارجعني، فرَجَعَني، وكانت المفاجأة الرهيبة، فقد رأيت بيتًا ممتلئًا بالرجال والنساء، أخي يبكي.   أخي ما الذي حدث؟! ما الذي جرى؟ أُمُّك يا أحمد، أُمك! ماذا بها؟ ماتت أمك، ماتت! عجيبٌ، كيف؟ ومتى؟ بنوبة قلبية! فعلمت أن الحياة تنتهي في لحظة، فتُبت إلى الله تعالى، وتركت أصدقاء السوء، واستقمت على الطريق، ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق: 19 - 22].   2 - توبة شاب في بلاد الغرب: كان شابًّا ميسورَ الحالِ، مُنعَّمًا في رفاهية تامةٍ؛ وبعدما انتهى مِن دراسته الجامعية أهدى له والده سيارةً؛ وقال: تعمل معي في شركتي الخاصة؛ لكن صديقي المُرفَّه أيضًا قال: لا بد من سفرنا إلى الخارج لنتمتع كما يتمتع الناس، وحاولتُ إقناع والديَّ؛ فنزلا على رغبتي؛ وسافرت أنا وصديقي إلى إسبانيا، ونزلنا في أحد الفنادق وجرَّني صديقي إلى حانات الشرب والفاحشة والمخازي، ثم سافرنا إلى غَرناطة وطُلَيْطلة من مدن إسبانيا، وكان بصحبتي فتاةٌ غير مسلمة فأخذتني لنشاهد الآثار الإسلامية في إسبانيا، وجلسَت تشرحُ لي عن أحوال المسلمين وما خلَّفوه من آثارٍ ومتاحف، فدخلنا أحد القصور هناك لنرى الآثار الإسلامية، وعلى محراب هذا القصر الإسلامي (مسجد) رأيت مكتوبًا آيات من القرآن الكريم، فلما وقع نظري على ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 23]، ذرفت عيناي بالدموع، فسألتني الفتاة، فقلت: لقد تذكَّرت ذكرياتٍ مؤلمة، وقررت العودة..
وتغيير مجرى حياتي، وتبت إلى الله تبارك وتعالى، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33].   3 - توبة رجل على يد ابنته الصغيرة: يحكي قصته، فيقول: كنت أسهر حتى الفجر مع رفقاء السوء في لهو ولعب وضياع، تاركًا زوجتي المسكينة وهي تعاني الوحدة والضيق، وكم نصحتني هذه الزوجة الصالحة لكني لم أستجب! وفي إحدى الليالي جئتُ مِن إحدى سهراتي العابثة، وكانت الساعة تشير على الثالثة صباحًا، فوجدت زوجتي وابنتي الصغيرة وهما تغطان في سُبات عميق، فاتجهت إلى الغرفة المجاورة لأكمل ما تبقى من ساعات الليل في مشاهدة بعض الأفلام الساقطة من جهاز الفيديو، وفجأةً وأنا منهمكٌ في المشاهدة يُفتح الباب باب الغرفة، فإذا هي ابنتي الصغيرة التي لم تتجاوز خمس السنوات؛ فنظرَتْ إليَّ نظرة تعجبٍ واحتقار وقالت: (يا بابا، عيبٌ عليك، اتقِ الله)، كررتها ثلاث مراتٍ، ثم أغلقتِ الباب ومضت! أصابني ذهولٌ شديدٌ فأغلقت الفيديو، وجلست حائرًا وكلماتها ترنُّ في أذني، فخرجت خلفها، فوجدتها قد عادت إلى فراشها.   وما هي إلا لحظات حتى انطلق صوت المؤذِّن من المسجد القريب؛ ليُمزِّق سكون الليل الرهيب مناديًا لصلاة الفجر، فتوضأت وذهبت إلى المسجد وأقيمت الصلاة وكبَّر الإمام وركع وسجد، وما أن سجدت ووضعت جبهتي على الأرض حتى انفجرت بالبكاء، نعم بالبكاء؛ فهي (أول سجدة أسجدها لله منذ سبع سنين)، شعرتُ فيها بأنني قد وُلِدت من جديد، لقد أحسستُ بأن الإيمان بدأ يسري في جسدي، وبعد الصلاة رجعتُ إلى البيت قليلًا، فلم أذُقْ طعم النوم فذهبتُ إلى العمل فاستغرَب صاحبي حضوري مبكرًا، فقصصت عليه القصة، فقال: احمَدِ الله أن سخَّر لك هذه البنت الصغيرة التي أيقظتك من غفلتك، ولم تأتِك منيَّتُك وأنت على تلك الحال، ولَمَّا حان وقت الظهر كنت مرهقًا؛ حيث لم أنم منذ وقت طويل، فتسلم صاحبي عملي، وعدت إلى بيتي لأنال قسطًا من الراحة، وأنا في شوق لرؤية ابنتي الصغيرة التي كانت سببًا في هدايتي التي دلَّتني على طريق الله بكلماتها، دخلت البيت فاستقبلتني الزوجة باكيةً، ما الذي حدث؟ لقد ماتَتِ ابنتُك؟ كان الخبرُ كالفاجعة، بل كالصاعقة، وانفجرت بالبكاء، فلما هدأت اتصلت بصاحبي وغسَّلناها وكفَّناها، وصلَّينا عليها، ثم ذهبنا لندفنها، فقال لي صديقي: لا بد أن تنزل أنت في القبر فتضعها بنفسك، فحملتُها وعيناي تذرفانِ، ودفنتها في لَحْدِها، وأنا أتصوَّر أنني دفنت النور الذي أضاء لي الحياة، دفنتُ مَن دلَّني على طريق الله، تلك البنت البارَّة أدَّت ما عليها، وبقي أن أستقيم على هدى الله تعالى، فأسأل الله أن يثبِّتني على طريقه.   يقول الشاعر: فيا غافلًا في غمرةِ الجهلِ والهوى صريعَ الأماني عن قريبٍ ستندمُ أفِقْ قد دنا اليومُ الذي ليس بعدهُ سوى جنةٍ أو حرِّ نارٍ تَضَرَّمُ وبالسُّنةِ الغرَّاءِ كُنْ متمسِّكًا هي العُروةُ الوثقى التي ليس تُفصَمُ الدعاء...


[1] أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401). [2] أخرجه البخاري (1150)، ومسلم (784).
[3] صحيح: أخرجه مسلم (2750)، والترمذي (2514)، وابن ماجه (4239). [4] أخرجه البخاري (50)، ومسلم (9). [5] صحيح: أخرجه مسلم (720)، وأبو داود (1285)، وابن خزيمة في صحيحه (1225)، وأحمد في (المسند) (5 /167). [6] البر: يعني الصحراء.




شارك الخبر

مشكاة أسفل ٣