أرشيف المقالات

كيف أكون مخلصا؟

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
كيف أكون مخلصًا؟

الناس معادنُ وأصناف، وخيارُهم - كما لا يخفى على ذي لب - من كان يَحمِل بين جنبيه قلبًا صافيًا طاهرًا، ومَن وفَّقه الله - تعالى - لصفاء السريرة، فقد نال أعظم الهِبات من الله تعالى، فليست الدنيا عن كثرة العرَض والجاه والسلطان؛ وإنما الدنيا الحقَّة هي في نفسٍ عظيمة قوية محبة مُخلِصة.
 
ومِن أعظم الوسائل التي تُعين على امتلاك الإخلاص وحصوله قيامُ الليل، وما أدراك ما قيام الليل؟ وكيف لا وقد أوصى به ربنا صفيَّه من خلقه - صلى الله عليه وسلم - ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]؟
 
ولا يَجلب الإخلاص - فيما أعلم - أعظم من قيام الليل؛ لأنَّ الإخلاص رِزق يهبُه الله لمن يُحب؛ فقد قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "وأربعة تجلب الرزق: قيام الليل، وكثرة الاستغفار بالأسحار، وتعاهُد الصدقة، والذِّكر أول النهار وآخره"؛ فإذا رُزقت إخلاصًا، فقد اصطفاك مُقسِّم الأرزاق.
 
وقائم الليل من أخلص الناس في عمله لله تعالى، وأبعدهم عن الرياء وحب الظهور والتسميع والعجب، وهو من أشدِّ الناس ورعًا، وأعظمهم حفظًا للسانه وتقويمًا له، وأكثرهم رعاية لحقوق الله - تعالى - والعباد، وأحرصهم على العمل الصالح.
 
وذلك أنه يخلو بالله - تعالى - في وقت القَبول والإجابة وتنزُّل الرحمات؛ إذ يقول: ((مَن يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)).
 
جد أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يدع قيام الليل قطُّ بعد أن أمره الله به، كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "ولم يكن يدع قيام الليل حضَرًا ولا سفرًا، وكان إذا غلبه نوم أو وجع، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة".
 
الآثار الإيجابية لقيام الليل:
1- صِحة الأبدان:
ومن الآثار الإيجابية لقيام الليل على حياة الإنسان أنه إذا سَلم قلبه من الأدران والأكدار والأتراح، سَلِم البدن كذلك؛ فقد قال ابن القيم في ذلك عجبًا: "ولا ريب أنَّ الصلاة نفسها فيها من حفظ صحة البدن، وإذابة أخلاطه وفضلاته، ما هو من أنفع شيء له، سوى ما فيها من حفظ صحة الإيمان، وسعادة الدنيا والآخِرة، وكذلك قيام الليل من أنفع أسباب حفظ الصحة، ومن أمنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة، ومن أنشط شيء للبدن والروح والقلب".
 
ولهذا كله وغيره كثير؛ كان النبي يحثُّنا على قيام الليل؛ لما فيه من الفضائل والخيرات والبركات والرحمات، واستجابة دعاء، وقضاء حوائج، وذهاب أسقام، وتفتُّح أبواب المكرمات؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المُحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))[1].
 
2- جَمال في الوجه:
ومن أعظم ما يناله قائم الليل زين في الوجه، ونور وقبول عند الخَلق؛ فعن عبدالله بن سلام - رضي الله عنه - قال: "أول ما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، انجفل الناس إليه، فكنتُ فيمَن جاءه، فلمَّا تأمَّلتُ وجهَه، واستبنتُه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، قال: فكان أول ما سمعتُ من كلامه، أن قال: ((أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعِموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام))[2].
 
وقال سعيد بن المسيب: إنَّ الرجل ليقوم الليل، فيجعل الله في وجهه نورًا، يُحبُّه كل مسلم، فيراه مَن لم يره قط، فيقول: إني أحبُّ هذا الرجل.
 
وسُئل الحسن البصري: ما بال المُتهجِّدين بالليل من أحسن الناس وجوهًا؟ فقال: لأنهم خلوا بالرحمن، فألبسَهم من نوره.
 
3- استجابة الدعاء:
فإذا أردتَ أن تكون ممَّن يستجيب الله دعاءهم، فعليك بقيام الليل؛ فعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما مِن مسلم يبيت طاهرًا، فيَتعارّ من الليل، فيسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه))[3]، وعن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن في الليل لساعة لا يوافِقها رجل مسلم، يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة))[4]، وعن عُقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الرجل من أمتي يقوم من الليل يعالج نفسه إلى الطهور، وعليه عُقَد، فإذا وضَّأ يدَيه انحلت عُقدة، وإذا وضَّأ وجهه انحلت عُقدة، وإذا مسَح رأسه انحلَّت عُقدة، وإذا وضَّأ رجلَيه انحلَّت عُقدة، فيقول الله - عز وجل - للذين وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يُعالِج نفسه، يسألني، ما سألني عبدي هذا، فهو له))[5].
 
4- مغفرة الذنوب:
لا شكَّ بأن كل مسلم إلا ويحب أن يغفر الله ذنبه ويطهره من المعايب، فقيام الليل من أعظم المُطهِّرات؛ فعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: قد غفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبِك وما تأخَّر؟! قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا!))[6]، وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقُربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم))[7].
 
5- الشرف العظيم:
ليس ثمَّة شيء جالب للشرف والعزة للإنسان أعظم من قيام الليل، وقد تتساءل: كيف ذلك؟! وأجيبك وبالله التوفيق بأنك إذا خلوت بربك وناجَيتَه واقتربت منه، أحبَّكَ اللهُ، وإذا أحبَّك أعزك، وإذا أعزك الله فمَن ذا يُذلُّك؟
 
ولأن قيام الليل من أحب الأعمال بعد الفرائض؛ فعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود؛ كان ينام نِصف الليل، ويقوم ثُلثه، وينام سُدسه، ويصوم يومًا، ويُفطِر يومًا))[8].
 
وعن أبي هُرَيرة وأبي سعيد - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصلَّيا، أو صلى ركعتين جميعًا، كُتبا في الذاكِرين والذاكرات))[9].
 
وعن سَهل بن سعد - رضي الله عنهما - قال: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا محمد، عِش ما شئت فإنك ميِّت، واعمل ما شئتَ فإنك مَجزيٌّ به، وأَحبِب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزَّه استغناؤه عن الناس))[10].
 
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أشرافُ أمتي حمَلة القرآن، وأصحاب الليل))[11].
 
6- يَضحك الله إليك:
ما أظنُّ أن عاقلاً في هذا الوجود لا يحب أن يرضى الله عنه، فإذا رضي الله عنك، زادك فوق الرضا شيئًا أحبَّ إلى النفس من كل شيء، وهو أن يَضحك الله إليك يوم القيامة، يا سعادةَ مَن حَباه الله بهذه المزية! فعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة يُحبُّهم الله ويضحك إليهم، ويستبشر بهم: الذي إذا انكشفَت فئة قاتل وراءها بنفسه لله - عز وجل - فإما أن يُقتَل، وإما أن يَنصره الله - عز وجل - ويَكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا، كيف صبر لي بنفسه؟ والذي له امرأة حسنة، وفراش ليِّن حسن، فيقوم من الليل، فيقول: يذَرُ شَهوته ويَذكُرني، ولو شاء رقَد، والذي إذا كان في سفر، وكان معه ركَب، فسَهِروا، ثم هجَعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء))[12].
 
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((عجبَ ربُّنا تَعالى من رجلَين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحبِّه إلى صلاته، فيقول الله - جل وعلا -: انظروا إلى عبدي، ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته، رغبةً فيما عندي، وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله، وانهزم أصحابه، وعلم ما عليه في الانهزام، وما له في الرجوع، فرجع حتى يُهريق دمه، فيقول الله: انظروا إلى عبدي، رجع رجاءً فيما عندي، وشفقةً مما عِندي، حتى يُهريق دمه))[13].
 
الجواهر الحسان: في ختام هذه الكلمة أسوق إلى الشباب والشابات هذه الوصايا عسى ربي أن يُكرمنا وإياهم بقيام الليل؛ حتى نَنال تِلكم العطايا العظام والهدايا النفيسة، فعن عبدالله بن أبي قيس - رضي الله عنه - قال: قالت عائشة - رضي الله عنها -: "لا تدع قيام الليل؛ فإن رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل، صلى قاعدًا"[14].
 
وعنها أيضًا - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما مِن امرئ تكون له صلاة بليل، فيَغلِبه عليها نوم، إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة))[15].
 
وكان أبو إسحاق السبيعي - رحمه الله - يقول: "يا معشرَ الشباب، جِدُّوا واجتهدوا، وبادِروا قوتكم، واغتنموا شبيبتكم قبل أن تعجزوا؛ فإنه قلَّ ما مرت عليَّ ليلة إلا قرأت فيها بألف آية"، وقال الفضيل بن عياض: "من أخلاق الأنبياء والأصفياء ثلاثة: الحلم، والإنابة، وحظٌّ من قيام الليل"، وقال ابن المنكدر: "ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، والصلاة في جماعة".
 
دواء نافع: قد يشكو كثير من الناس من عدم القدرة على قيام الليل؛ لهذا نقدم لهم هذا الدواء الناجع النافع بإذن الله تعالى، فقد قال رجل لابن أدهم - رحمه الله -: إني لا أقدر على قيام الليل، فصف لي دواء؟ فقال: لا تعصِه بالنهار، وهو يُقيمُك بين يدَيه في الليل؛ فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحقُّ ذلك الشرف.



[1] - رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن خزيمة في صحيحِه.


[2] - رواه الترمذي.


[3] - رواه أبو داود، ورواه النسائي، وابن ماجه.


[4] - رواه مسلم.


[5] - رواه أحمد، وابن حبان في صحيحه، واللفظ له.


[6] - رواه البخاري، ومسلم، والنسائي.


[7] - رواه الترمذي.


[8] - رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.


[9] - رواه أبو داود.


[10] - رواه الطبراني في الأوسط.


[11] - رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي.


[12] - رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن.


[13] - رواه أحمد.


[14] - رواه أبو داود، وابن خزيمة في صحيحه.


[15] - رواه مالك، وأبو داود، والنسائي.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١