أرشيف المقالات

الحواس في القرآن الكريم

مدة قراءة المادة : 59 دقائق .
لا يقدر أيُّ مذهب فلسفي أو فكري إنكارَ دَوْر الحواس في العمليات المعرفيَّة، غَيْرَ أنَّ الخلاف قائم حول القيمة المعرفية، ودورها في مراحل الإدراك، فالبحثُ في الحواس من أهمِّ فصول نظرية المعرفة.
الفرع الأول: مفهوم الحس والإدراك الحسي:
الحِسُّ هو الصوت الخفيُّ، وهو أول العلم المدرك بحاسته، تقول: أحسست بالخبر، وحسست الخبر: أيقنت به، والشيء: رأيته وعلمته، أو سمعت حركته؛ قال ابن الأثير: "الإحساس العلم بالحواس، وهي مشاعر الإنسان، كالعين، والأذن، والأنف، واللسان، واليد، وحواس الإنسان: المشاعر الخمسة، وهي: الطعم، والشم، والبصر، والسمع، واللمس".
وعند الراغب الحواس والمشاعر مُترادفة، أمَّا الحاسة فهي القوة التي بها تدرك الأعراض الحسية، والإحساس هو إدراك الشيء مكتنفًا بالعوارض الغريبة، واللواحق المادية، مع حضور المادة، ونسبة خاصَّة بينها وبين المدرك، فالإحساس يكون للحواس الظاهرة، كما أنَّ الإدراك للحس المشترك أو العقل.
والإحساس إن كان للحس الظاهر فهو المشاهدات، وإن كان للحس الباطن، فهو الوجدانيَّات.
*(من النَّاس مَن يقول: إنَّ للنَّفس حاسة سادسة تُدرك بها عوارضَ النفس ، كالجوع والعطش والشبع، والأصحُّ ما عليه العامَّة وهو الخمس؛ لأنَّ لكلٍّ منها علم مخصوص بآلة مخصوصة به، أمَّا ما يُدرك من عوارض النَّفس، فمن دون اختيارٍ إذا وجد شرطه.، انظر: "موسوعة الألفاظ القرآنية"، مختار فوزي النعل، اليمامة للطباعة، بيروت، ط:1، 1423، ص:43.، لكن صرح أهلُ التحقيق على أنَّ القُوى الجسمانيَّة آلاتٌ للإحساس، وإدراك الجزئيات والمدرك هو للنفس)*
لم يَرِد في القرآن حول المعرفة بالحواس - كأدوات غالبًا - إلا مشاعر الأذن والعين، وحاستي السمع والبصر، أمَّا اليد واللمس، فدلالتها المعرفية كانت على أنَّها مقومة للإدراك البصري بالكتابة أو المعاينة؛ لذا نحاول قصر الدراسة حول حاستي السمع والبصر.
 الفرع الثاني: الأذن والسمع في القرآن الكريم :
الأُذن - بضم الألف -: هي عضو السَّمع في الإنسان والحيوان، واللفظ مؤنث؛ قال تعالى: {وَلَهُمْ آَذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، وقال: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة:12]، فالأُذن هي السامعة.
*(تتكون الأذن من أجزاء ثلاثة هي:
أ- الأذن الخارجيَّة: وتتكون من الصيوان، والقناة السمعيَّة الخارجية، وظيفة هذه القناة جمع الموجات الصوتيَّة، وإيصالها إلى غشاء طبلة الأذن، عند نهايتها الداخليَّة.
ب- الأذن الوسطى: وهي حجرة دقيقة تحتوي على العُظَيْمات السمعيَّة، المُهيَّأة لنقل الذبذبات من غشاء الطبلة إلى عُضوِ السمع الحقيقي في الأذن الداخليَّة.
ج- الأذن الخارجية: وتتكون من أكياس غشائيَّة مُتَّصلة فيما بينها، وتتركز بإحكام في تجاويف العظم الصدغي، وقد بلغت من التعقيد في الشكل بحيث تسمى "التيه العَظْمي"، وهذه الأكياس أعضاءٌ حسية رقيقة تُمكننا من السمع.
"موسوعة الألفاظ القرآنية"، ص:43، وص:66، "معجم دقائق العربية وجامع أسرار اللغة وخصائصها"، الأمير أمين آل ناصر الدين، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط:1، 1997، ص:75، "الكليات"، الكفوي، ص:495، "تَيسير الكريم الرحمن"، السعدي، ص:28.
في الآية تقرير لما مرَّ من أنَّ على قلوبِهم أكنَّة مانعة من الفقه، وفي آذانهم وقرًا، وحاجزًا من السماع، وتحقيقٌ لكونِهم بذلك من قبيل الموتى، لا يتصور منهم الإيمان أَلْبَتَّة، والاستجابة والإجابة المقاربة للقَبول؛ أي: إنَّما يقبل دَعوتك إلى الإيمان الذين يسمعون ما يُلقى إليهم.
"تفسير أبي السعود: إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم"، أبو السُّعود بن محمد العمادي؛ تحقيق: عبدالقادر أحمد عطا، دار الفكر، الرياض، 1981، [2/129]؛ لذا قيل لكل من صدَّق بكل خبر يسمعه: هو أُذُن)
*
أمَّا حاسة السمع، فهي أكثر ذكرًا في القرآن الكريم (139 مرة) والسَّمع هو الإحساس الذي به إدراك الأصوات، فهو قوة الأذن، قد يُؤدي إلى الفهم، وربَّما لا يوصل إليه؛ {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ} [الأحقاف:26].
وحاسة السمع لها أهمية كبيرة؛ لأنَّها تتلقى المعلومات بجزئياتِها المتغيرة؛ لذا عُبر عن الأذن بالإفهام، وعن فعل السماع بالسمع والطاعة.
كل موضع أُثبت فيه السمع للمؤمنين في القرآن، أو نفيه عن الكافرين، أو حُثَّ على تحرّيه، فالقصد به إلى تصور المعنى والتفكُّر فيه.
والسمع أنواع هي:
1- سمع الإدراك: متعلقُه الأصوات.
2- سمع الفهم والعقل: متعلقُه المعاني، ويتعدى بنفسه؛ لأنَّ مضمونه يتعدى بنفسه، كقوله: {وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة:104].
3- سمع الإجابة: يتعدَّى باللام، نحو "سمع الله لمن حمده".
4- سمع القبول والانقياد: يتعدَّى بـ (مِن)، كما يتعدى باللام، نحو: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة:41]، وهذا بحسب المعنى، إذا كان يقتضي القبول يتعدى بـ (مِن)، وإذا اقتضى الانقياد يتعدَّى باللام، و(السمع) لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، والفعل الواقع بعد المفعول في موضع الحال.
والسامع أعمُّ لغةً من المخاطَب؛ إذ الحاضر هو المخاطَب الذي يوجَّه إليه الكلام، والسامع يَعُمُّ له ولسائر الحاضرين في المجلس.
والسَّمع يعبر عنه بأنه قوة الأذن، والأذن أيضًا، وما وَقَر فيها من شيء، وهو قوة واحدة، ولها فعل واحد، ولهذا لا يَضبط الإنسان في زمان واحد كلامين، فالأذن محله، ولا اختيارَ فيه، فالصَّوت من أيِّ جانب كان يصل إليه، لا قُدرة له على تخصيص القوة بإدراك البعض دون البعض، بخلاف قوة البصر.
فيُعبر عن الأذن بالسمع، من جهة التعبير عن الأداة بوظيفتها، مثله ذكر الجزء مع إرادة الكل؛ قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7]، "هذه طرق العلم والخير قد سدت عليهم، فلا مطمعَ فيهم"، ففي الآية ومثيلاتها ذكر العضو وهو القلب ، والبصر جعل عليه غشاوة؛ أي: غشاء يغطيه، فلزم أن يكون المراد العين لا قوتها؛ أي: الجارحة، فكان من تناسق الكلام أنْ يفسر السمع على أنه الأذن، لكن ذكر السمع؛ ليوافق مفهوم الختم، وهو الطبع؛ حيث يكون للقلب وللسمع، أمَّا الأذن فتعطل بالوقر؛ {وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام:25]، و[الإسراء:46]، و[الكهف:57]، كما يوصف بالضرب؛ {فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11].
ويعبر عن الفهم والطَّاعة بالسمع، وهذا هو المفهوم من دلالته المعرفيَّة؛ أي: إدراك الأصوات وفهمها، فلا يلزم إدراك الصَّوت فهم المطلوب؛ {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171]؛ فلما بيَّن تعالى عدم انقيادهم لما جاءت به الرُّسل، وردهم لذلك بالتقليد، أخبر تعالى أنَّ مثلهم - عند دعوة الدَّاعي لهم إلى الإيمان - كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها، وليس لها علم بما يقول داعيها ومناديها، فهم يسمعون مُجرد الصوت الذي تقوم به عليهم الحجة، ولكنَّهم لا يفقهونه فقهًا ينفعهم، فلهذا كانوا صُمًّا، لا يسمعون الحقَّ سماع الفهم والقبول، عميًا، لا ينظرون نظر اعتبار، فكل نفي للسمع في القرآن هو نفي للاستجابة لما سمع بالطاعة والانقياد له، وكل إثبات هو بمعنى الفهم من ذلك؛ {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال:31]، وقوله: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأنفال:21]؛ أي: فهمنا وهم لا يستجيبون بالعمل لموجب ما سمعوا، فإذا لم يعملوا بموجبه، فهم في حُكم من لَم يسمع؛ فقال تعالى عنهم: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام:36].
أمَّا القول بأنَّهم لا يفهمون، فهذا فيه نظر؛ لأنَّ قيامَ الحجة لا يكون إلاَّ بعد الفهم، غَيْرَ أنَّ الاقتناع لا يشترط؛ لقولهم في الآية: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة:93]؛ أي: فهمنا ولم نأتمر.
فخصائص السَّمع الممدوح في القرآن الكريم هي: الفهم لما يُلقى، والاستجابة للأوامر، والانتهاء عن الموانع، فإذا تخلَّف الفهم، أو الطاعة والاستجابة، كان النَّفي للسمع، وهذا في حق المؤمنين والكافرين.
فالإعراضُ عن الحق هو إعراضٌ عما سُمع، فيكون في حكم الأصم؛ لذا قال عنه تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان:7].
*(قال ابن القيم عن السماع: "ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [ الفاتحة :3] منزلةُ "السماع"، وهو اسم مصدر، وقد أمر الله به في كتابه، وأثنى على أهله، وأخبر أن البشرى لهم، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} [المائدة:108]، وجعل الإسماع منه والسماع منهم دليلاً على علم الخير فيهم، وعدم ذلك دليلاً على عدم الخير فيهم،، فقال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
وأخبر عن أعدائه أنَّهم هجروا السماع ونهوا عنه، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}[فصلت:26].
فالسماع رسولُ الإيمان إلى القلب، وداعيه ومعلمه، وفي القرآن قوله: {أَفَلَا تَسْمَعُونَ} [القصص:71]، فالسماع أصلُ العقل، وأساس الإيمان الذي انبنى عليه، وهو رائده وجليسه ووزيره، ولكنَّ الشَّأن كل الشأن في المسموع، وفيه وقع خبط الناس، واختلافهم، وغلط منهم مَن غلط، وحقيقة "السَّماع" تنبيه القلب على معاني المسموع، وتحريكه عنها؛ طلبًا وهربًا، وحبًّا وبُغضًا، فهو حادٍ بكل أحد إلى وطنه ومألفه".
" مدارج السالكين "، ابن القيم، ص:481-482، "المفردات"، الراغب، ص:358)
*
فهو سمع لكن لم يستجب، فكان في حكم من لم يسمع؛ لأنَّ الغاية من الخطاب لم تتحقق، فاستوى وجوده بعدمه، حال مقابلته بالرَّفض والعصيان؛ {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُوا} [الأعراف:198]، {إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:14]؛ فالأول هو نَفْيٌ لإدراك الأصوات في حقِّ الموتى، والثاني نفيٌ للرد من طرف الموتى، فكانت النتيجة أنَّهم لا يسمعون.
وتعطُّل السمع - سمع الاستجابة والهداية التوفيقيَّة - إنَّما يكون لتعطل مَحل الإدراك، وهو القلب؛ لذا جُمعا في الختم في كذا آية، وأُفرد البصر بالغشاوة والغطاء، بل صرح بذلك في آية: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف:100]؛ أي: لا يسمعون ما ينفعهم للهداية؛ بل ما يقيم عليهم الحجة فقط، فهم يفهمون ويُدركون بالسمع ماا قيل؛ لكن قلوبهم لا تقتنع، وصدورهم لا تنشرح للحق، فاستوى السَّمع والصمم؛ لأنَّ الاستجابة منتفية، وإن كان الإدراكُ للأصوات، وفهم الكلام قائم؛ فالعمل بموجبه مُتخلف عنه، وهذا قطع للغاية من الخطاب بالأمر أو النَّهي؛ لذا قال تعالى لنبيه عن موقف الناس من دعوته: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام:36]؛ أي: يستجيبُ لدعوتك، ويلبِّي رسالتك، وينقادُ لأمرك ونَهيك، الذين يسمعون بقلوبهم ما ينفعهم، وهمم أولو الألباب والأسماع والأبصار.
والمراد بالسَّماع هنا: سماع القلب والاستجابة، وإلاَّ فمجرد سماع الأذن يشترك فيه البر والفاجر.
فكل المكلفين قامت عليهم حُجة الله تعالى باستماع آياته، فلم يبقَ لهم عذر بعدم القَبول؛ إذ حقيقةُ السماع تنبيه القلب على معاني المسموع، وتحريكه عنها؛ طلبًا وهربًا، وحبًّا وبُغضًا، فهو حادٍ بكل أحد إلى وطنه ومألفه.
لذا نَجد أصحاب السماع أصناف، فمنهم:
1- من يسمع بطبعه ونفسه وهواه، وهذا حظُّه من مسموعة ما وافق طبعه.
2- ومن يسمع بحاله وإيمانه ومعرفته وعقله، وهذا يفتح له من المسموع بحسب استعداده وقوته ومادته.
3- ومَن يسمع بالله، لا يسمع بغيره، وهذا أعلى سماعًا، وأصح من كل أحد.
أمَّا الكلامُ عن المسموع مدحًا أو ذمًّا، فيرجع إلى إدراك صورة المسموع وحقيقته وسببه، والباعث عليه، وثَمرته وغايته، فبهذه الفصول الثلاثة يتحرَّر أمر المسموع، ويتميز النافع منه من الضار، والحق من الباطل.
والمسموع على ثلاثة أضرُب في القرآن الكريم:
أحدها: مسموع يُحبه الله ويرضاه، وأمر به عباده، وأثنى على أهله، ورَضِيَ عنهم به؛ {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83].
الثاني: مسموع يبغضه ويكرهه، ونَهى عنه، ومدح المعرضين عنه؛ {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [ النساء :140].
الثالث: مسموع مباحٌ مأذون فيه، لا يُحبه ولا يُبغضه، ولا مدح لصاحبه ولا ذمه، فحكمه حكم سائر المباحات؛ من المناظر والمطعومات والملبوسات، فمن حرَّم هذا النوع، فقد قال على الله بغير علم، ومَن جعله قربة إلى الله، فقد كذب على شرعه، وجعل من دينه ما ليس منه.
أما الضرب الأول، فهو أساس الإيمان الذي يقوم عليه، وهو على ثلاثة أنواع:
1- سماع الإدراك: ففي قوله حكاية عن مُؤمني الجن قولهم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا .
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}
[الجن:1-22]، فهذا سماع اتَّصل بالأذن.
2- سماع الفهم: وهو المنفي عن أهل الأعراض والغفلة؛ {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52]، فالتخصيص هنا لسماع الفهم والعقل، وإلاَّ فالسمع العام الذي تقوم به الحجة لا تخصيصَ فيه، مثل ذاك: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]؛ أي: لو علم فيهم قبولاً وانقيادًا، لأفهمهم فهم هداية، أمَّا فهم الإدراك، فقد حصل وأعرضوا بعده، فهُمْ سمعوا سَمع الإدراك؛ لكن لم يستجيبوا؛ لأنَّ في قلوبهم مِن دَاعي التولِّي والإعراض ما يَمنعهم عن الانتفاع بما سمعوا.
3- سماع القبول والإجابة؛ كما في الآية: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، فإن هذا سمعُ قَبول وإجابة مثمرة للطاعة،  والتحقيق أنَّه متضمن للأنواع الثلاثة، فقد أخبروا بأنَّهم أدركوا المسموع وفهموه واستجابوا له.
ومن سَمْعِ القَبول قوله تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [ التوبة :47]؛ أي: قابلون مستجيبون لهم.
وسماع خاصَّة الخاصة من المقربين هو سماع القرآن يُتلى بالاعتبارات الثَّلاثة، إدراكًا، وفهمًا، وقبولاً وإجابة، وكل سَماع في القرآن مَدَحَ الله أصحابَه، وأثنى عليهم، وأمر به أولياءه - فهو هذا السماع، سماع كلام ربِّ العالمين، وسماع المواعظ، وكلام الأنبياء والمرسلين، وهذا النَّوع هو حادي القلوب إلى جوار علاَّم الغيوب، وسائق يسوق الأرواحَ إلى ديار الأفراح، ومحرك يثير ساكن العزمات إلى أعلى المقامات، وأرفع الدَّرجات، ومنادٍ يُنادي للإيمان، ودليلٌ يسير بالركب في طريق الجنان، وداعٍ يدعو القلوب بالمساء والصباح من قبل فالقِ الإصباح: "حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح"، فلم يعدم من اختار هذا السماع؛ إرشادًا لحجةٍ، وتبصرة لعبرةٍ، وتذكرة لمعرفة، وفكرًا في الآية، ودلالة على رشد، وردًّا على ضلالة، وإرشادًا من غَيٍّ، وبصيرة من عمى، وأمرًا بمصلحة، ونهيًا عن مضرة ومفسدة، وجلاء بصيرة، وحياة لقلب، وغذاء ودواء وشفاء، وعصمة ونَجاة وكشف شبهة، وإيضاح بُرهان، وتحقيق حق، وإبطال باطل.
الفرع الثالث: العين والإبصار في القرآن الكريم:
أ- العين: العين هي الباصرة، وتُطلق على الحدقة، وهي عبارة عن مجموع طبقات تسع، محيط بعضها ببعض، ويغطي الحدقة الجفن، وقد تُطلق العين على مجموع الغلاف وما فيه، كما يراد بها حقيقة الشيء المدركة بالعيان، أو ما يقوم مقام العيان.
ما يهمنا هو العمليَّات المعرفية؛ أي: العين الجارحة؛ كما في قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ [البلد:8]، وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة:45]، {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83]، فمُهمة العين في القرآن هي "الرُّؤية"؛ {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران:13]، و"الإبصار"؛ وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا [الأعراف:179]، {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف:195]، و"المشاهدة"؛ {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:61].
وصفت العين بأمورٍ كانت خاصَّة بها وهي الطَّمس، القِرى، المد، الازدراء، فيض الدَّمع، التغطية، الدوران، واللَّذة.
*(قالوا في محاسن العين: الدَّعَج: أن تكون العين شديدة السواد مع سعة المُقلة، البَرَج: شدة سوادها، وشدة بياضها، النَّحَل: سعتها، الكَحَل: سواد جفونها من غير كُحل، الحَوَر: اتِّساع سوادها كما هو في أعين الظِّباء، الوَطَف: طول أشفارها وتَمامها، الشُّهلة: حمرة في سوادها.
انظر: "فقه اللغة وسر العربية"، أبو منصور  الثعالبي، ص:115-116، "الكليات"، الكفوي، ص:247، "التعريفات"، الجرجاني، ص:55، "معجم ألفاظ القرآن الكريم"، مجمع اللغة العربية ، 1/100، "الكليات"، الكفوي، ص:474، "تيسير الكريم الرحمن"، السعدي، ص:246، "المفردات"، الراغب، ص:59، "بصائر ذوي التمييز"، الفيروزآبادي [2/222])
*
فالصفة الأولى في قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} [يس:66]، والطمس يكون بذَهاب البَصَر، والتالية: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ [الأحزاب:51]، {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [طه:131]، {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} [هود:31]، {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92]، الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي [الكهف:101]، {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19]، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف:71].
ب- البصر: من أهم عمليَّات العين: البصر، ويرادُ بما يرادفه وهو النَّظر، والرُّؤية، والمشاهدة، والملاحظة، والاطِّلاع، فالبصر هو إدراك العين، ويطلق على القوة الباصرة، وهو قوة مُرتَّبة في العصبين المجوفين، التي من شأنِها إدراك أشباح الصور، بانعكاس الضوء فيها؛ إذ البصر هو حاسة الرُّؤية.
وَرَد في القرآن مع ما يتعلق به من العمليَّات في "274" موضعًا؛ ليدلَّ على العلم القوي المضاهي لإدراك الرُّؤية، فيقال: بصر بالشيء: علمه عن عيان، فهو بصير به.
قال تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} [القلم:5]، {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ .
وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ}
[الحاقة:38-39]، {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [ مريم :42].
وبيان أنَّ العين هي أداة الإبصار في {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف:195]، وفرق بين النظر والبصر؛{وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198]؛ فالنظر هو عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي التماسًا لرؤيته، ولما كانت الرُّؤية من توابع النظر ولوازمه غالبًا، أُجْرِيَ لفظُ النظر على الرُّؤية على سبيل إطلاق اسم السبب على المسبب، كما ورد في حكاية عن طلب موسى؛ {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]؛ فكان الردُّ: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، والرؤية إذا أضيفت إلى الأعيان كانت بالبصر، وتطلق على المنام والوهم، فالبصرر خاص بالمعاينة والمشاهدة بالعين، فلازم البصر الإدراك؛ وهذا غير الرؤيا التي قد تكون مع عدم إحاطة؛ لذا قالل تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، وهذا في الدُّنيا والآخرة؛ "أي: لا تُحيط به الأبصار، وإن كانت تراه وتفرحُ بالنَّظر إلى وجهه، فنفي الإدراك لا ينفي الرُّؤية، بل يثبتها بالمفهوم، فإنه إذا نفى الإدراك الذي هو أخص أوصاف الرؤية، دل على أن الرؤية ثابتة، فلو أراد نفيها، لقال: لا تراه الأبصار، ونحو ذلك.
عودًا على آية الأعراف؛ حيث فرق بين النَّظر والبصر، فالكفَّار يحدقون في النبي صلَّى الله عليه وسلَّم غير أنَّهم لا يبصرون؛ أي: لا يدركون فضله، ولا يستشعرون كرمه عليهم، ولا ينتفعون بالنظر إليه، ولا بالهدى المرسل به.
نتوصل إلى أن البصر يقال للجارحة الناظرة، وللقوة التي فيها، ولقوة القلب المدركة.
*(حاسة البصر إحدى أبواب القلب، وأعمر الطرق إليه، وعملها أكثر أعمال الجوارح وقوعًا وتكرارًا، مما عدا التنفس.
انظر: "زبدة التفسير "، سليمان الأشقر، ص:701، "النظر في أحكام النظر بحاسة البصر"، أبو الحسن علي بن محمد القطان الفاسي؛ تحقيق: إدريس الصمدي، دار إحياء العلوم، بيروت، ط:1، 1996، ص:63)
*
وللبصر صفات عدة في القرآن هي:
— البصير من أسماء الله، وهو للأعمال الظَّاهرة لنا، يقترن كثير بالسميع والخبير، والله تعالى سمى نفسه بصيرًا، ووصف نفسه بأنه بصير لأعمال الناس.
وورد في القرآن وصفه الرُّؤية؛ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144]، كما وصف بالنَّظر؛ {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14].
ضد البصير الأعمى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الرعد:16].
— الزيغ: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]؛ أي: ما مال بصره، فهي رُؤية عين، وليس من خداع البصر.
— الرجوع: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3].
— الانقلاب: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4]، وهنا وصف بالحسرة.
— الحِدَّة: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].
— الشخوص: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42]
أي: لا تطرف من شدة ما ترى من الأهوال، فشخوص البصر يدُلُّ على رُؤية أمر جلل عظيم الأهمية، كما يدل على فزع وانزعاج القلب.
— العمى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [ الحج :46].
—  الخشوع : {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات:9]، وهذا خوف مع هيبة واحترام.
— السُّكْر: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15].
أي: أصابها سُكر وغشاوة، فهي ترى ما ليس موجودًا.
— التقلب: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]، وذاك من الحيرة والتيه؛ بسبب الشبهات.
— الصرف: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:47].
— الطبع: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [النحل:108].
— الغض: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31].
ج - النظر: والنظر هو التحديق لإدراك الصُّور، في أول مراتب الإبصار، ثم تليه الرُّؤية، وهي من لوازمه؛ {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:143].
وقد تقرَّر الشروع بطلب النظر في مواطن كثيرة، إمَّا على جهة الوجوب، وإمَّا على جهة الندب.
كما تقرر النَّهي عن النظر بها، وإيجاب غضِّها، أو النَّدب إليه في مواطن كثيرة، وإباحته والعفو عنه في مواطن كثيرة.
*(أما وجوب النَّظر بحاسة البصر، فيكون للشَّهادة، والاستحباب بالنَّظر في ملكوت الله تعالى للتفكر والاتِّعاظ، والتحريم للعورات وكل ما يفتن ويوقع في محرم، والكراهة إلى ما يستقبح، والإباحة كالنظر إلى كل ما خرج عما تقدم.
انظر: "المفردات"، الراغب، ص:499، "الكليات"، الكفوي، ص:905، "فقه اللغة وسر العربية"، عبدالملك الثعالبي، ص:118-119، "الأعلام"، الزركلي [4/137]، و[3/327]، "بدائع الفوائد"، ابن القيم، مج:2، ج:3، ص:142، "الرد على المنطقيين"، ابن تيمية ، ص:81)
*
واستعمال النَّظر في القرآن كان بالإرشاد إلى التأمُّل، فهو تقليبٌ للبصر مع استغراق وقت؛ إذ يُقاربه في المعنى الانتظار، فلا يكون النَّظر بسرعة بل بتمهل؛ لأنَّ الغاية من تقليب البصر وتحديق العين: الوصول إلى إدراك المنظور إليه؛ لتحصل منه الرُّؤية، وقد يراد به التأمُّل، والفحص، والمعرفة الحاصلة بعد الفحص؛ وهي الرويَّة، واستعمال النظر في البصر أكثر عند العامة، وفي البصيرة أكثر عند الخاصة.
فيقال: نظرت إلى كذا، إذا مددت طرفك إليه، رأيته أم لم أره، ونظرت فيه: إذا رأيته وتدبَّرته، ونظرت له: رحمته، وإليه: رأيته، وعليه: غضب عليه، ونظره: انتظره..
وللنَّظر أحوال مُختلفة وكيفيَّات مُتنوعة نفصل منها:
— إذا نظر الإنسان إلى الشيء بمجامع عينه، قيل: رَمَقَهُ.
— فإن نظر إليه من جانب أذنه، قيل: لَحَظَهُ.
— فإن نظر إليه بعجلة، قيل: لَمَحَهُ.
— فإن رماه ببصر مع حِدَّة نظر، قيل: حَدَجَهُ بطرفه.
— فإن نظر إليه بشدة وحِدة، قيل: أرْشَقَهُ، رشقه، وأسَفَّ النظر إليه.
— فإن نظر إليه نظر المتعجب منه، والكاره له، والمبغض إياه، قيل: شَفَنَه، شفن إليه.
— فإن أعاره لحظ العداوة، قيل: نظر إليه شزرًا.
— فإن نظر إليه بعين المحبة، قيل: نظر إليه نظرة ذي "عَلَقٍ".
— فإن نظر إليه نظر المتثبت، قيل: توضَّحَه.
— فإن نظر إليه واضعًا يده على حاجبه، مستظلاًّ بها من الشمس؛ ليستبين المنظور إليه، قيل: استكَفَّه واستوضحه واستشرفه.
— فإنْ نشر الثوب ورفعه لينظر إلى صفاته، أو سخافته، أو يرى عوارًا إن كان به، قيل: استشفَّه.
— فإن نظر إلى الشيء كاللمحة، ثم خفي عنه، قيل: لاحَهُ، لَوَّحَه.
— فإن نظر إلى جميع ما في المكان حتى يعرفه، قيل: نفضه، نفضًا.
— فإن نظر في كتاب أو حساب؛ ليُهذِبه، أو ليستكشف صِحَّته، وسقمه، قيل: تصفَّحه.
— فإن فتح جميع عينيه لشدة النظر، قيل: حَدَّق.
— فإن لألأهُما، قيل: بَرَّق عينيه.
— فإنِ انقلبَ حملاق عينيه، قيل: حمْلَقَ.
— فإن غاب سوادُ عينيه من الفزع، قيل: برِق بصره.
— فإن فتح عينه مُفْزَعًا أو مهددًا، قيل: حَمَّجَ.
— فإن كسر عينيه في النظر، قيل: دَنْقَسَ، وطَرْفَشَ.
— فإن نظر إلى أفق الهلال لِلَيلته ليراه، قيل: تَبصَّرَه.
— فإن اتَّبع الشيء بصره، قيل: أثاره بصره.
غير أنَّ غالب ما ورد في القرآن الكريم من اللفظ كان المراد به التأمُّل والتحري، فلم يكن المراد التوقف عند التحديق، بل التجوز إلى التفكر والتروي.
الفرع الرابع: المفاضلة بين السمع والبصر في القرآن الكريم:
أ- التفاضل بين السمع والبصر عند العلماء : اختلف ابن قتيبة، وابن الأنباري في السمع والبصر، أيهما أفضل؟ ففضل ابن قتيبة السمع، ووافقه طائفة من العلماء، واحتج بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ}
 [يونس:42-43]؛ قال: فلما قرن بذهاب السمع ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النَّظر إلا ذهاب البصر، كان دليلاً على أن السمع أفضل.
وقال الأنباري: بهذا غلط، وكيف يكون السمع أفضل، وبالبصر يكون الإقبال والإدبار؟ والقُرب والنَّجاة، والبُعد من الهلاك، وبه جمال الوجه، وبذهابه شينه، وأجاب عمَّا ذكره ابن قتيبة بأنَّ الذي نفاه الله تعالى مع السمع بمنزلة الذي نفاه عن البصر؛ إذ كأنَّه أراد إبصار القلوب، ولم يُرد إبصارَ العيون، والذي يبصره القلب هو الذي يعقله؛ لأنَّها نزلت في قوم من اليهود كانوا يستمعون كلام النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فيقفون على صحته ثم يكذبونه، فأنزل الله فيهم: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} [يونس:42]؛ أي: المعرضين، ولو كانوا لا يعقلون، ومنهم من ينظر إليك بعين نقص، ولا حجة في تقديم السمع على البصر هنا، فقد أخبر في قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} [هود:24].
واحتجَّ مفضلو السمع بأن به ينال غاية السَّعادة، من سماع كلام الله وسماع كلام رسوله، فقالوا: وبه حصلت العلوم النَّافعة، وبه يدرك الحاضر والغائب، والمحسوس والمعقول، فلا نسبة لمدرك البصر إلى مدرك السَّمع، ولهذا يكون فاقده أقلَّ علمًا من فاقد البصر، بل قد يكون فاقد البصر أحدَ العلماء الكبار، بخلاف فاقد السمع، فإنَّه لم يعهد من هذا الجنس عالم أَلْبَتَّة.
لكن قال مفضِّلو البصر: أفضلُ النعيم النظر إلى الله تعالى وهذا يكون بالبصر، كما أنَّ ما يراه البصر لا يقبل الغلط، بخلاف ما يُسمع؛ فإنه يقع فيه الغلط والكذب والوهم، فمدرك البصر أتم وأكمل، كما أن محله أحسن وأكمل وأعظم عجائبَ من محل السمع، وذلك لشرفه وفضله.
قال ابن تيمية: البصر يرى من مباشرة المرئي، والسمع لا، وإن كان يحس الأصوات، فالمقصود الأعظم به معرفة الكلام، وما يخبر به من العلم.
والتحقيق أنَّ إدراكَ البصر أكمل؛ قال الأكثرون: "فليس المخبر كالمعاين".
*(المعاينة قد تحصل سماعًا، إذا استثنينا وصف المرئيَّات، فالعلم غالبه قد ينقل مشافهة، وفاقد البصر قد يعوضه سمعه في التلقين، لكن فاقد السمع لا يُمكنه معرفة اللغة، ولا فهم الكلام، فكان بهذا تحصيله للعلوم عسيرًا، لكن نضيف لغة الإشارة، فهذا يعوض عن التلقين بالسَّماع، ويَجتمع مع تَمكن الأصم المبصر من القراءة، لكن أقل من السامع الأعمى.
انظر: "نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة"، راجح الكردي، ص:552، "التحرير والتنوير"، ابن عاشور [13/232]، "تفسير المنار"، رشيد رضا، [11/355]، [10/156]، "نظرية المعرفة في القرآن الكريم"، أحمد الدغشي، ص:226، "القرآن وعلم النفس"، محمد عثمان بخاتي، دار الشروق، بيروت، ط:5، 1993، ص:126-127، "التفسير الكبير"، الرازي، [1/186] ، ظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة"، راجح الكردي.
ص:554، شرح نظم الورقات في أصول الفقه للمبتدئين"، محمد بن صالح العثيمين، دار ابن الهيثم، القاهرة، ط:1، 2002، ص:34، "الفصل في الملل والأهواء والنحل"، علي بن أحمد بن حزم الأندلسي، تحقيق: محمد إبراهيم نصر، وعبدالرحمن عصيرة، دار عكاظ، الرياض، ط1، 1983، [5/366-367]، "ضوابط المعرفة"، الميداني، ص:134، "بصائر المسلم المعاصر"، عبدالرحمن حبنكة الميداني، دار القلم، دمشق، ط:2، 1988، ص:59، "نظرية المعرفة في القرآن الكريم"، أحمد الدغشي، ص:235، " العقيدة الإسلامية"، عبدالرحمن حبنكة الميداني، ص:15، "نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان"، فؤاد زكريا، ص:190-205)
*
لكنَّ السمع يحصل به من العلم أكثر مما يحصل بالبصر، فالبصر أقوى وأكملُ، والسمع أعمُّ وأشمل، وهاتان الحاستان هما الأصل في العلم بالمعلومات التي يَمتاز بها الإنسان عن البهائم، ولهذا يقرن الله بينهما وبين الفؤاد.
ب- الجمع بين السمع والبصر في القرآن الكريم: وَرَدَ السمع والبصر في القرآن مُنفردين وجمعًا في"36" موضعًا، منها: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [يونس:31]، {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]، فالحديث عن الحواس كأدوات للمعرفة كان غالبًا عن السمع والبصر مجموعين، وذاك لعدة أسباب، منها:
1- أنَّهما أداتان من أهم أدوات الإدراك التي يترتب عليها معرفة الله تعالى كأعلى أنواع المعرفة وموضوعاتها، وإدراك دلائل الاعتقاد لا يكون إلا بهما.
2- أنَّهما الطريقان الرئيسان بين المعرفة والعقل، فهما الواسطة، ودونهما لا يعرف، بل لا يدرك الإنسان شيئًا، وقد يستغني عن غيرهما من الحواس؛ لذا قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [المؤمنون:78]، فهذه الثلاث هي طرق العلم الرئيسة، وأدواتها الأذن والعين والقلب.
3- فقدان الحاستين يُفقد العلم كله كلامًا ولغة وقراءة، فالقُدرة على الكلام وفهم اللغة يَحتاج إلى السمع؛ ليَعِيَ الدلالات الصوتيَّة، بل قد يتعطل حتى عن تدبير حياته العضوية، فهما مدار الحياة الحيوانية، وكمال البشرية، وتحصيل العلوم الأولية بهما.
4- ورد السمع حالَ اقترانه بالبصر مفردًا، خلاف البصر، فقد ورد جمعًا إلا في [الإسراء:3]؛ فليس نصًّا في العموم، لاحتمال توهم بصر مخصوص، فكان الجمعُ أدل على قصد العموم، وأنفى لاحتمال العهد ونحوه، بخلاف قوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]؛ لأنَّ المرادَ الواحد لكل مخاطب بقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، ويَحتمل أن يكون ذلك؛ لأنَّ السمع يستقبل جميع الأصواتت باختلاف جهاتها، في حين البصر لا يستقبل دون توجه العين نحو الْمُبْصَر المراد، فالبصر لا يدرك إلا الزَّاويةة الموجه نحوها، على غير السمع؛ فيلتقط في الزَّوايا كلها.
5- السمع يدرك خلالَ الضَّوء والظُّلمة، ومع وجودِ الحواجز الفاصلة بين السامع وغيره؛ إلا أن تكونَ كاتمة، على عكس البَصَر لا يبصر إلا بوجود ضوء ينعكس في العين.
كما أنَّ النائمَ أول ما يستيقظ منه المنبِّه السمعي ويليه البصري، فكان أول الحواس اشتغالاً بعد النوم، وآخرها قبل النَّوم، وترادفهما يحقق أعلى مُستويات الاستيعاب والتحصيل.
ج- أسباب تقديم السمع على البصر في القرآن الكريم: ما يلاحظ في القرآن الكريم أنَّ السمع كان دائمًا مقدمًا على البصر في الذِّكر كلما اقترنا، وهذا الترتيبُ كان في كتاب الإعجاز اللُّغوي والبلاغي؛ وهو القرآن، فلا يكون إلا عن سر، وهو قاعدة أفضليَّة المتقدم على اللاحق، خاصة أنَّ هذا التقديم شمل كل المواضع التي اجتمعَ فيها السمع مع البصر، وهذه الملاحظة هي إحدى أدلة القائلين بأفضلية السمع على البصر من الناحية المعرفية، وهذا يستند إلى دلائل أخرى في القرآن الكريم والواقع، وهي:
1- اقترن السمع بالعقل في غير ما آية، دون اقتران البصر بالعقل، مثل: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف:100].
2- اقترن لفظ السميع بالعليم، بينما اقترن البصير بالخبير؛ ليجتمعا في العليم: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}[الإسراء:30]، أمَّا السمع والعلم؛ {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، في حوالي "32" آية، وهذا أكثر من اقترانِ السَّمع مع البصر في القرآن، فكان السمع أقرب للعلم معنى وأتم.
3- حاسة السمع دائمة العمل دون توقُّف، بخلاف البصر فتتوقف بإغماض العين؛ وإن كان المغمض مستيقظًا.
لهذا ذكر الله عن أصحابِ الكهف أنَّه ضرب على آذانهم، فكان ذلك أشدَّ دلالة على الاستغراق في النوم لتوقف أشد المنبهات؛ {فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11].
أمَّا من زاوية معرفية خالصة، فالأفضليَّة كانت لأمورٍ منها:
1- السمع أهم في إقامة الحجة على الخلق، فالبصر لا يكون إلا حال عرض المعجزة دون زمان من سيأتي، أما السمع فطريقه أعمُّ وأشمل للزمان والمكان.
2- قال الرازي: السمع سبب لاستكمال العقل بالمعارف، والبصر لا يوقفك إلا على المحسوسات.
3- السمع ينقل المعارف الماضية والأخبار الآتية، أمَّا البصر فينقل الحاضر المعاين؛ {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ}
 [السجدة:26-27].
غير أنَّ انتشار الكتابة والقراءة قد يَجعل البصر ناقلاً للمعارف السابقة وغيرها أكثر من السمع، فالتاريخُ لم يَعُدْ يؤخذ سماعًا بل قراءة، ومع ذلك فأكثر الأخبار والمعلومات تتناقل سماعًا بين الناس.
4- السمع جهات استقباله مُتعددة، عكس البصر لا يكون إلا بالمقابلة.
5- حاسة السمع تشتغل ليلاً ونهارًا؛ وفي الظلام والنور، في حين البصر لا يعمل إلا في النهار والنور، وفي هذه الميزة قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}
 [القصص:71-72]، في ذهاب الضوء نَبَهٌ للسمع، وحال وجوده نبه للبصر، والسمع ضمنًا هو يشتغلل  ومتنبه معه.
6- أوَّل حاسة تستجيبُ من النَّائم حاسة السمع؛ وإن كان مغمض العينين.
7- فاقد السمع يفقد النُّطق؛ لعدم القُدرة على التلقين، وإدراك المخارج والصفات، فيفقد خاصية المخاطبة.
د- أسباب تقديم البصر على السمع في القرآن الكريم: وَرَدَ البصر متقدمًا على السمع في مواضعَ، كان الغالب فيها الذَّم والتعطيل والعقاب، ففي حالات المدح والمنَّة - كما سبق - قدِّم السمع، أمَّا فيما عاكسها فقدِّم البصر، وهذا لا ينفي أفضلية السمع بل يثبتها.
والمواضع التي قدِّم فيها البصر على السمع هي:
1- في قوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، هنا كان المقام مقام تحقير لهم؛ كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
والبصر أهم للحيوانات من السمع؛ لأنَّه لا يعدو أن يكون وسيلة لحفظ الحياة، ولا يُؤدِّي كلٌّ منهما الدَّور المعرفي الذي ينتجُ عنه الهدى، ثم هذه الآية الكلامُ فيها عن تعطيل الحواس؛ لذا كان تقديم البصر.
2- مثلها نجد في قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} [هود:24]، فقدمت حاسة البصر المعطلة على حاسة السمع المعطلة.
3- وفي موقف تعذيبهم: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97]، ذاك أن أكرم موضع في الوجه العينان، وأشد الإهانة بإفقاد حاسة البصر حال المحاسبة.
4- وفي قوله تعالى عن ندم الكفار: {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]؛ فالمعاينة بالبصر أقوى من الخبر المنقول، والمشاهدة آكد حجية.
ويبقى موضعان في [الأعراف:195]، و[المائدة:71] تَدُلُّ نفس الدلالة، وهي التعطيل، إمَّا بفُقدان الحاسة أصلاً للآلهة؛ كما في الأعراف، فهي لا تبصر التعبُّد لها ولا عبّادها أصلاً.
أو لصدود بني إسرائيل كما في المائدة، وذلك بأنَّهم شاهدوا المعجزات قبل سماع الوحي، ثم صدوا كأنْ لم يبصروا شيئًا.
الفرع الخامس: وظيفة الحواس وقدرتها المعرفية:
يُقسِّم أهلُ الأصول العلم إلى اضطراري واكتسابي، غَيْرَ أنَّهم يَجعلون الضروري ما يدرك بالحواس الخمسة وما يدرك بالمتواتر؛ قال ناظم الورقات:           
وَالْعِلْمُ إِمَّا بِاضْطِرَابٍ يَحْصُلُ *** أَوْ بِاكْتِسَابٍ  حَاصِلٍ  فَالْأَوَّلُ
كَالْمُسْتَفَادِ بِالْحَوَاسِ الْخَمْسِ ***  بِالشَّمِّ أَوْ بِالذَّوْقِ أَوْ  بِاللَّمْسِ
وَالسَّمْعُ وَالْإِبْصَارُ  ثُمَّ  التَّالِي *** مَا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى اسْتِدْلاَلِ   
فالحواس هي أبواب المعرفة الأولى، والحس أوَّل مراتب الإدراك؛ لذا جعل الله تعالى مَن عُطِّلت حواسه وقلبه في حكم الميت، ومَن لم يستجب للحق في حكم البهيمة، له من حواسه وقلبه لإدراك العام مما يستعينُ به على دُنياه، دون أن يصلَ إلى الرُّشد والهداية الخاصَّة، والفهم الخالص، غَيْرَ أنَّ الاقتصار على الحس كطريق وحيد للمعرفة لم يرد قطُّ في القرآن، بل الحس مجموع دائمًا مع القلب والفُؤاد - أي: العقل - لأن الغاية من الإدراك الحسي ليس التحسس؛ بل فهم المحسوس، وأجمعَ أكثرُ أهل التحقيق على أنَّ النفس هي المدركة، والحواس نواقل للمعلومات؛ لذا كان قطع المعارف عن أيِّ إنسان بقطع حاسَّتين ومركز التعقُّل؛ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7].
أمَّا القول بنسبية الحواس، وأنَّها مصدر خطأ؛ فالبعض يغلو فيه، والبعض لم نفهم تقعيدهم لهذه النسبية؛ بجعلها دليل الخطأ، وحجة في عدم بلوغ اليقين بها، قبل أن نناقش نظرياتهم نقرر ما يلي:
1- حاجَّ القرآن الإنسان، وجعل الحجة قائمة بأن مُنح السمع والبصر والقلب، فدل على أن هذه طرق بلوغ اليقين، ولو كانت لا يقين بها لرفع التكليف، أو كان مع المشقة، والمشقة مُنتفية في التشريع الربَّاني، والتكليف يسقط مع المشقة، ولا معنى للمحاججة فيما العجز قائم حتَّى في إدراك الحجة، فضلاً عن فقه وجه الاستدلال فيها.
2- من المسلَّمات أن العلم يتجزأ، يزيد وينقص، فيلزم أنَّ العلم والمعارف البالغة عبر الحس تتجزَّأ، وتتفاوت من فرد إلى آخر، وفي الفرد نفسه من معرفة لأخرى.
3- من عرضنا السابق نَخلص إلى أنَّ النفس؛ أي: القلب هو مركز الإدراك، أمَّا الحواس، فهي ناقلة له عن العالم الخارجي، مع اكتسابه لصفة الإدراك الحسي.
4- تكامُل الحواس والعقل في القرآن أمر مسلم به؛ حيث لا تقوم منفردة، وفقدان أو ضعف أيٍّ منها نقصٌ في جهة من العلم، فانتقاصها انتقاصٌ للعقل.
يرى الكثير من الباحثين في الفلسفة والفكر بفروعها أنَّ الحواس تُخْطِئ، ولا تصل إلى اليقين، ويتبعون في ذلك آراء بعض الفلاسفة القُدامى، وفلاسفة المسلمين ومُفكريهم وعلمائهم، ومنهم كثير، كأبي حامد الغزَّالِي وابن حزم وغيرهما.
ولأن بحثنا ليس للمقارنة؛ فلا يسعنا الخوض في هذا كثيرًا، غَيْرَ أنَّ بعض من كتب في نظرية المعرفة في القرآن أخذ ذلك الكلام، وبنى له أدلة من القرآن الكريم، وهذا أبعد ما يكون حول طرق الاستدلال.
نُحاول ذكر مثال يعرضه الكثير فيما يدرك بالحواس، يرى الإنسانُ شخصًا من بعيد، فيظنه فلانًا، ويحلف عليه، ويكابر ويُجرد، ثم يتبيَّن له أنه ليس هو.
ويستدل البعضُ بأنَّنا نرى الشمس بحجم الدِّرهم، وهي أعظمُ من الأرض حجمًا، ونرى الملعقة في كأسٍ من الزُّجاج وهي وسط الماء منكسرة، وقد يشم أحدُنا رائحة، ويُخْطئ حول مصدرها.
واستدلَّ البعض حول خطأ الحواس بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].
والأدلة حول هذا تتكرر غير أن ما يلاحظ عليها كلها:
1- الاستدلال بالشاذ؛ لمصادرة القاعدة العامَّة، وهذا منافٍ لقواعد العقل والمنطق، فالشاذ والنَّادر لا يخرم القاعدة العامة، والحكم للغالب.
فأكثر أدلَّتهم عن العمى، وضعف البصر بين الأفراد، أو في حالات للفرد نفسه، فبصر الفرد حالَ الإرهاق ليس كبصره في الوضع الطَّبيعي، والأمراض تزيدُ في ضَعف البصر، وهذا يرتفع عن ذكره مثالاً؛ فضلاً عن أن يُرْفَع لمقام الدليل، فكلامنا كله حول الأحوال العادية.
2- إذا علمنا قطعًا أنَّ مَراتب الفهم مُتفاوتة، ومدارك الحواس مُتنوعة ومُتفاوتة بين الناس، بين القوة والضَّعْف، فلا يلزم أنْ نستدلَّ بالضعيف لنُعمِّمه على الكل، فهذا نسحبه على العقل مثلاً، سيترتب عن ذلك القول بعدم إمكانيَّة بلوغ اليقين؛ أي: مقالة الشكاك، وهذه نظرية نتجاوزها في القرآن، بل لم تُعر حتى التفاتة بذكرها، ولو بالرد.
3- استدلالاتهم تُنْبِئ بعدم ضبط مفهوم السَّمْع والبَصَر، فالبصر وهو عمل العين تحسس المرئيَّات، وذلك يتمُّ بانعكاس أشعة الضوء من الأجسام نحو العين، ثم تنقل الصورة إلى العقل ليعيها ويفهمها، والسَّمع تردد الموجات الصوتية بتحرك الهواء داخل تجاويف الأذن، ثم تتحول إلى ذبذبات تنتقل للعقل ليفسر الصوت.
فالاستدلال بأن الشمس تراها العين بحجم الدِّرهم حقيقة؛ لأنَّ الحجم المنعكس من جسم الشمس نحو العين كان بقدر الدِّرهم، كما لا نتأمل الشمس بالمنظار المجهري بل بالتليسكوب، ولن يقول عاقل: إنَّ المنظار المجهري ينقل صورة خاطئة وهو مخطئ، بل إنَّه صُنِعَ ليكبر الصَّغير؛ لا ليصغر الكبير؛ أي: إنَّ علم الضوئيات والعدسات يفرق بين العدسات المكبِّرة والمصغرة؛ وذلك لفروق فيزيائيَّة هندسية ضوئية بالزجاج.
فالعين كذلك لها مجالها البصري من بُعْد وقصر، وقدرتها في نقل الصُّور، فهي تنقل كما صنعت، غَيْرَ أنَّ العقل هو المدرك للحجم الحقيقي، بالتحقق بأدوات أخرى، هي من الحواس نفسها، لكن بشروط غير الأولى، كما نفعل في التأمُّل من انكسار الملعقة بالماء في الكأس الزجاجيَّة؛ بحاسة اليد بالتلمس، أو إخراج الملعقة والنَّظر إليها في مجال واحد، فما جهل بحاسة أدركَ بحاسة أخرى، فالعين والبصر والأذن والسمع والحواس كلها تدرك الوسائطَ، حسب خواصها وقدراتها المؤهلة لها.
مثلاً حال الملعقة داخلَ الكأس مُنكسرة: جزء خارج الماء، وجزء داخل الماء، وهو ما نراه منكسرًا، التحليل العلمي: أنَّ الأشعة المنبعثة من الجزء الخارج عن الماء درجة انكسارها في الهواء مُختلفة عن درجة انكسار الأشعة من الجزء الآخر في الماء؛ لأنَّ الوسطين مُختلفان، فتصل الصورة الكاملة كأنَّ الملعقة منكسرة، وهذه هي الصورة الحقيقيَّة فعلاً؛ لأنَّ الأشعة انعكاسها منكسر بين جزئيين من وسطين مُختلفين، فأي عينٍ تعرض عليها التجربة، سترى نفس الصورة، فالعينُ المطلقة البشرية، ومطلق العين البشرية ترى نفس الصورة، فلا يعقل القول بأنَّها تُخْطئ منذ خلق الله الأعين إلى الآن، بل الحقُّ أن يقال: إنَّ مجال رؤيتها نسبي ومحدود.
من جهة أخرى لا نزعم بأنَّ قوة الحواس مطلقة، وهذا كلام لا يستقيم؛ فكيف والثابت محدودية العقل، وهو مركز العلم والمعرفة، هل يعقل أنْ يقال: إنَّ الحواس مطلقة، لكن هذا لا ينفي وصولها إلى اليقين، فالله تعالى حاجَّ عبادَه بأنْ منحهم الحواس والعقل، فدَلَّ على أنها مراكز إثبات اليقين في جميع طبقات الناس؛ إلا من رفع القلم عنه؛ لأنَّ الرِّسالة الإلهية للناس كافة بليدهم وذكيهم، كبيرهم وصغيرهم.
فالحواسُّ نسبية، وفي حالاتِها العادية هي ناقلة لما تصل إليه بِحَسَبِ قدراتها التي خلقت لها، وكُيِّفت مع الوسط الكوني في مجال الشهادة ، وإدراك الحقيقة لا يكون إلا بها، سواء باستعمالها معًا، أم الاستعانة بوسائل مُساعدة من أجهزةٍ وآلات.
فالمعرفة الحسية اليقينيَّة هي التي تقدِّم شهادةَ الحسِّ، مؤكِّدة قاطعة عندما تتواتر شهادات الحس هذه، وتتفق مع الحواس الأخرى، ولا تتعارض مع أصول العقل وقوانينه، أمَّا عندما تنزل عن هذا المستوى، فإنَّ قيمتها المعرفيَّة تتراجع إلى ما دونها حتى آخر مرتبة الظَّن المرجوح.
فأحَدُّ الناس بصرًا لا يتمكن من رُؤية ما هو موجود إلا قدرًا يسيرًا، بالنظر إلى ما لا يستطيع رُؤيته، فهو يَملك من البصر بمقدار ما يرى، ولديه من العمى بمقدار ما لا يستطيع رُؤيته، وهكذا النسبية في جميع الحواس، فالحواسُّ الخمس لا تستطيعُ الإحاطة بكل شيء، ولو قُدِّر لأي من الناس غير هذه الحاسة، لربَّما اكتشف أشياء كثيرة مغيبة عنَّا، وقد اكتشف العلماء أن الفضاء مملوء بالصور التي لا نستطيعُ مشاهدتها بالنظر المجرد؛ لعَدَمِ وجود قدر من الانسجام والتوافُق بين وضعها ووضع أبصارنا، وهذه في السمع كذلك، فهناك مستوًى يعلو عن مستوى سمعنا، وآخر دونه، وثَمَّة أجهزة تقارِب الصور والصوت؛ فنرى ما لا نبصر بأعيننا، ونسمع ما لا نسمع بآذاننا، نتدبر في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ .
وَمَا لَا تُبْصِرُونَ}
 [الحاقة:38-39]، وقوله: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}[الشعراء:21-22].
العالَم عالَمَان: شهادة، وغيب، والغيب نسبي، وهو حتى في عالم الشَّهادة، فنَحْنُ لا نرى الجنَّ والشيطان، والحيوانات من كلاب وحمير تراها، ونحن لا نسمع خطاب الجان، وصراخَ الموتى في القُبُور، ولا كلامنا يَصِلُ إليهم، أقل من ذاك كله الأضواء، فالمبصر لنا سبع موجات، أمَّا ما فوق البنفسجي وتحت الأحمر، فلا تدركه أبصارنا؛ لذا نجد الكثير من الباحثين يقرِّرون أنَّ دَوْرَ الحواس نقل المحسوسات من العالم الخارجي إلى النفس، ولكن دون معيار يُتيح لها التمييز، غير النفس المدركة، بل ذهب بعض الفيزيائيين إلى أنَّ الألوان لا توجد في الطبيعة بل في العقل فقط، مستدلين بمرض عمى الألوان، فالحواس هنا صادقة في النَّقل، والعلة في خلايا الدماغ.
أمَّا طرح البعض بأنَّ الحواسَّ لا تُميِّز، بل قولهم حول إمكان المعرفة وصدق الحواس بأنَّها احتمالية غير يقينية، وقد يكون ما نتيقَّنه خيال أو وَهْم أو حتى حلم يقظة، فهذه سفسطة، نتجنب الخوضَ فيها، و"الشك" هذا مرض أعاذنا الله منه، وأصحابه مرضى؛ فحال شفائهم يناقشون.
والبصر والسمع لم يُنْفَ عنهما اليقين في القرآن الكريم إلا في حالة وجود عوائق؛ {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15]، فهنا كان ذهاب العقل لتعطيل قدرة البصر؛ إمَّا لسكر العقل وتخدره، أو بتأثير السِّحر على الأعين؛ قال تعالى: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف:100]، وهنا السمع سمع استجابة، فكلُّ ذم للحواس في القرآن أو قطع لها عن العلوم إنَّما هو لمرتبة أعلى من مَرتبة الإدراك الحسي العام، فكلها حول الهداية التوفيقيَّة التي تكون جزاءً من الله تعالى على ترك الهداية الإرشادية بإرادة من الإنسان نفسه، والعقاب بقطعها جزاء عن الإعراض عن الاهتداء بعد السَّمع والبصر والفهم للحجة، فتحجب الهداية التوفيقيَّة، وتبقى الإرشادية الخاضعة لإرادة الإنسان.
*(الحواس في القرآن إذا عطلت مع التكليف، فالمراد ذلك الاستجابة والهداية التوفيقية الخارجة عن إرادة الإنسان، بل هي من الله - تعالى - يَمنحها جزاء على الاستجابة، وإذا عطلت مع انتفاء التكليف، فإما لمرض أو لحاجز مانع، ولم يرد قطُّ التشكيك في يقينها، بل كان التشكيك غالبًا في قُدرات الإدراك؛ أي: فهم ما نقلت الحواس؛ {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:198]، فالنَّظر تحسس المرئي، والبصر هنا إدراك الصُّور المرئية، فأثبتت الرؤية، ونُفِيَ الإدراك، فاليقين منقوص في الإدراك لا في الإحساس.
انظر: "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، محمد إقبال، ترجمة: محمود عباس، دار الترجمة: القاهرة، ط:2، (د.ت)، ص:146، "تأمُّلات حول وسائل الإدراك في القرآن الكريم"، محمد الشرقاوي، ص:12، "درء تعارض العقل مع النقل"، ابن تيمية[5/134]، "تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية"، إبراهيم عقيلي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، ط:1، 1994، ص:367، "نقض المنطق"، ابن تيمية، ص: 202-203)
*
فالله تعالى منح عباده الحواسَّ؛ لينتفعوا بها على قدر ما مَنَحَهم من قدرة ومجال يدركون فيه، وهو مُشترك بين جميع المكلفين، ثُمَّ يقوى من فرد لآخر ومن حاسة لأخرى، غير أنَّ الطاقة البشرية لا تقتصر على الحسِّ دون غيره طريقًا للمعرفة؛ لأنَّ ذلك يدخل في مزالق عدة، فالله تعالى أثبت الحجية على عباده بأنْ مَنَحَهم ثلاثَ طرق وأدوات للمعرفة؛ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:788].
الفرع السادس: أهمية الحواس معرفيًّا في القرآن الكريم:
مِن تدبُّر مواضع ذكر الحواس في القرآن الكريم نستخلصُ منه فوائد منها:
1- القرآن الكريم يُعبِّر عن الحواس على أنَّها من نعم الله تعالى التي تستحقُّ الشكر والعمل بها لإدراك الغاية المرجُوَّة لها للآخرة، وتعطيلها عن فهم الغاية من الخلق والاستجابة للحق يَجعل صاحبها في مقام البهيمة، حواسها لحياتِها البيولوجيَّة وبقائها حيةً فقط.
2- لم توضعْ حدودٌ فاصلة بين الحواس وغيرها من وسائل المعرفة، فلقد اقترن القلب والفؤاد بها على أنَّها كلها وسائلُ للمعرفة وطرق لتحصيل العلم؛ {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:26]، فلقد كمل القرآن الإدراك الحسي بإدراك آخر هو إدراك القلب والفؤاد.
3- مُنِحَت الحواسُّ ثقةً في القرآن الكريم ينبغي للإنسان أنْ يُوليها لها، بحيث تكون معطياتها منطلقَ التفكير والتدبُّر، فالدعوة المستفيضة إلى تأمُّل المخلوقات من سماوات، ونجوم، وكواكب، وأرض بجبالها وبِحارها، وخيراتها، والأنفس بما وَهَبها الله - إنَّما هو دليل دامغ على الوثوق بوسيلة التأمُّل؛ والناقل للمُتَأمَّل إلى مركز التأمُّل حكمة منه.
فالقرآنُ لم يُهمل الحواس الإنسانيَّة، ولم يُشكك فيها مثلما فعلت بعضُ الفلسفات العقليَّة، وكذلك لم يرفع القرآن الحواسَّ فوق الوسائل الأخرى، مثلما فعل التجريبيُّون الحسيون.
فالاعتدال في القرآن نحو الحواسِّ لم يدع مجالاً لمشكلة حقيقيَّة؛ ذلك أنَّ معطيات الحس في القرآن هي المادة الأولى التي تعملُ عليها وسائلُ الإدراك الأخرى، أو بعضها على الأقل، ولا يدرك روعة وقيمة هذا الحل القرآني الواضح اليسير لمشكلة الحس إلاَّ مَن أحاط علمًا بالصراع الذي أجَّجه الفلاسفة مِنْ أنصار ومن معاندي أهمية الحواس على السواء.
فالحس هو أحد الطُّرق الثلاثة لتحصيل المعرفة الإنسانيَّة، بل هو أصل المعرفة العقلية والخبريَّة؛ فالعقلُ خاصيته الاعتبار والقياس والتعميم؛ لذا لا بُدَّ أن يعتمد على المبادئ الحسية، وكذا الخبر لا بُدَّ أن يكون في أصله إخبارًا عن قضايا حسية، وما لا يُمكن معرفته بالحس، فلا وجودَ له بالخارج، وتقسيم الأمور الخارجية إلى معقولة ومحسوسة غير صحيح.
قال ابن تيمية: "إنَّ المعقول الصرف الذي لا يُتصور وجوده في الحس، هو ما لا يوجد إلا في العقل، وما لا يُوجد إلا في العقل لم يكن في الخارج عن العقل"، فأمورُ الجنة والنار وعذاب القبر ونعيمه بينتِ الرُّسل أنَّها أمورٌ حسية، يَجوز إدراكها، حتى الرُّوح وذات الله تعالى يُمكن رؤيتها بالأبصار، لكن لما كانت غائبة عنَّا سميت "غيبًا" مقابل "الشهادة"، ولم تُسمَّ معقولة مقابل المحسوسة، فالقُرآن الكريم قسم المعلوم إلى عالمين مشهود وغيبي، والمشهود في عالم الشهادة كذلك مشهود وغيبي نسبي، هذه هي مصطلحات القرآن، ولم يرد أن المعجزات، وعالم الجنَّة، والجان، والملائكة أنَّها معقولة غير مَحسوسة، بل هذا التقسيم مغرض، وأصحابه سحبوا ذلك على النظريات القائلة بأنَّ الأنبياء حاولوا تصوير الخيال واقعًا؛ ليرهبوا ويرغبوا الناس، ومعلوم بطلان هذا.
فالعلم بمطابقةِ المقدر الموجود في الخارج، والعلم بالحقائق الخارجيَّة - لا بُدَّ له من الحس الباطن والظاهر، ورَغْم القول بالتمايُز والفصل بين الحواس؛ من حيث التعامُلُ مع المعلومات وتوظيفها؛ فإنه من الناحية المعرفية هنالك تكاملٌ؛ لأنَّ أحدهما لا يستقلُّ عن الآخر في المعرفة وتلقي المعلومات.
فالعقلُ يَحتاج إلى المعلومات الأولية التي يتلقَّاها عن الحس، والحس يكتسبها من الواقع، ولا يَحمل لا العقل ولا الحواس معلومات قلبيَّة، فالحواس هي وسائلُ العقل للاتِّصال الخارجي؛ يقول ابن تيمية: "فأمَّا أنَّ العقلَ الذي هو عقل الأمور العامَّة التي أفرادها موجودة في الخارج يحصل بغير الحس، فهذا لا يُتصور، وإذا رجع الإنسانُ إلى نفسه في مثل: الواحد والاثنين، والمستقيم والمنحنى، والواجب والممكن والممتنع، ونحو ذلك مما يَفرضه هو ويُقدره، لوجد ذلك، فأمَّا العلم بمطابقة ذلك المقدر للموجود في الخارج، والعلم بالحقائق الخارجيَّة؛ فلا بد فيه من الحس الباطن أو الظاهر، فإذا اجتمعَ الحس مع العقل كاجتماعِ البصر والعقل، أمْكَنَ أن يدرك الحقائق الموجودة المعيَّنة، ويعقل حكمها العام الذي يندرج فيها أمثالها لا أضدادها، ويعلم الجمع والفرق، وهذا هو اعتبار العقل وقياسه".
د.
بليل عبدالكريم

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢