أرشيف المقالات

جمع السنة وتدوينها

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2جمع السنة وتدوينها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: مثلما حرص السلف الصالح على سماع حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقِّيه من علماء الصحابة والتابعين وضبطِه وإحكامِه، فقد حرصوا - بعد ذلك - على جمعه وتدوينه، وقد دُوِّنت السُّنة في نهاية القرن الأول الهجري، في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله، وفي ذلك يقول ابن حجر - رحمه الله: (اعلم - علمني الله وإياك - أنَّ آثار النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن في عصر أصحابه وكبار مَنْ تَبِعَهم مُدوَّنةٌ في الجوامع، ولا مُرَتَّبةٌ؛ لأمرين: أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نُهوا عن ذلك، كما ثبت في صحيح مسلم[1]؛ خشيةَ أنْ يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.   وثانيهما: لسعة حفظهم وسيلان أذهانهم، ولأنَّ أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة.
ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار، لَمَّا انتشر العلماءُ في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار.   فأول مَنْ جَمَعَ ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عَرُوبَة وغيرهما.
وكانوا يُصنِّفون كلَّ باب على حِدة، إلى أنْ قام كبار أهل الطبقة الثالثة، فدونوا الأحكام...)[2].   الفرق بين الكتابة والتدوين: 1- الكِتابة: قال ابن سِيده - رحمه الله: (كَتَبَ الشَّيءَ يَكتُبُه كَتْباً، وكِتاباً، وكَتَبَه: خَطَّهُ) [3]، فكتابة الشيء خطُّه.   2- التَّدوين: قال الفيروزآبادي - رحمه الله: (الدِّيوان: مُجتمع الصُّحُف...
وجَمْعُه: دَوَاوين، ودَيَاوِين)[4].
و(وقد دَوَّنَهُ تَدْوِيناً: جَمَعَهُ)[5].   فالفرق بين الكتابة والتدوين: أنَّ الكتابة: مُطلق خطِّ الشيء، دون مراعاةٍ لجَمْعِ الصُّحُف المكتوبة في إطارٍ يجمعها.
أمَّا التَّدوين: فمرحلةٌ تاليةٌ للكتابة، ويكون بجمع الصُّحف المكتوبة في ديوان يحفظها.   وعلى ذلك؛ فقول الأئمة: إنَّ السُّنة دُوِّنت في نهاية القرن الأوَّل، لا يُفيد أنها لم تُكتب طيلة هذا القرن، بل يُفيد أنها كانت مكتوبةً، لكنها لم تصل لدرجة التدوين - أي: جمع الصُّحف في دفتر - بل كان أكثر العلماء يكتب ما يسمع من غير ترتيب، وعندما جاءهم أمرُ الخليفةِ عمرَ بنِ عبد العزيز - رحمه الله - أخَذَ الصِّفة الرَّسمية، وأخذ التَّدوينُ أشكالاً مُتعدِّدة، وما فهمه المعاصرون - من أنَّ التدوين هو الكتابة - فهو خطأٌ، منشؤه عدم التمييز بين الكتابة والتدوين[6].   مراحل جمع السنة وتدوينها: قال ابن حجر - رحمه الله: (أوَّلُ مَنْ دَوَّنَ الحديثَ ابنُ شهابٍ الزهري على رأسِ المائة بأمرِ عمرَ بنِ عبد العزيز، ثم كَثُرَ التَّدوين، ثم التَّصنيف، وحصل بذلك خيرٌ كثير فلله الحمد)[7].   وبناءً عليه: مَرَّت السُّنة في جَمْعِها وتدوينها (بثلاث مراحل): المرحلة الأولى: جَمْعُ السُّنة في (أواخر القرن الأول): كانت هناك محاولات لجمع السنة النبوية، ومن أوائل هذه المحاولات: 1- ما قام به عبد العزيز بن مروان، حيث كتب إلى كثيرِ بنِ مُرَّة الحضرمي - وكان قد أدرك بحمص سبعين بدرياً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنْ يكتبَ إليه بما سمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديثهم، إلاَّ حديث أبي هريرة، فإنه عندنا)[8].   ويُستنبط من هذه الرواية أمرٌ هامٌّ للغاية، وهو أنَّ تدوين السُّنة ربَّما بدأ في مرحلةٍ سابقة، حيث أشارت إلى أنَّ ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - موجودٌ بالفِعل عند عبد العزيز بن مروان، ولم تُشِرْ إلى زمان تدوينه، فربما كان في مرحلةٍ سابقة على عهد عبد العزيز بن مروان، كما أنها لم تُشِرْ إلى كونها قد دُوِّنت بأمره أم لا، ممَّا يُعزِّز هذا الاستنباط.   فإذا أضَفْنا إلى ذلك الفَرْقَ الجوهري بين الكتابة والتدوين تبيَّن لنا جليًّا أنَّ كتابة الحديث النبوي بدأت في مرحلة مُبكِّرة للغاية، إلاَّ أنها لم تأخذ طابَعَها العلمي ومنهجها الأكاديمي إلاَّ مع نهاية القرن الأوَّل الهجري.   2- ما قام به ابنه (عمر بن عبد العزيز) من بعده، فقد حرص على جمع السُّنة، وسَلَك في ذلك طريقين: الأول: أنه كتب إلى أبي بكر بن حزم؛ كما جاء في صحيح البخاري: (كَتَبَ عُمَرُ بن عبد الْعَزِيزِ إلى أبي بَكْرِ بن حَزْمٍ: انْظُرْ ما كان من حديثِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ، وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ، وَلاَ تَقْبَلْ إلاَّ حَدِيثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم)[9]، وفي قوله: (وَلاَ تَقْبَلْ إلاَّ حَدِيثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم)، إشارةٌ إلى الدِّقَّة والتَّحرِّي والتَّمحيص عند جمع الحديث وتدوينه؛ لِيُمَيَّزَ بين حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبين غيره ممَّا قد يُنسب إليه وليس من حديثه.   الثاني: أنه أمر ابنَ شهاب الزهريَّ بجمع السنة، حيث قال الزهري: (أمَرَنَا عمرُ بنُ عبد العزيز بجمع السُّنن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كلِّ أرضٍ له عليها سلطان دفتراً)[10].   المرحلة الثانية: تدوين السُّنة في (منتصف القرن الثاني): نشط (تدوين الحديث) في منتصف القرن الثاني الهجري، ومن أوائل المُدوِّنين[11]: • في مكة: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج البصري (ت 150هـ)؛ وسفيان بن عيينة (ت 198هـ). • في المدينة: مالك بن أنس (ت 179هـ)؛ ومحمد بن إسحاق (ت 151هـ)؛ وابن أبي ذئب (ت 158). • في البصرة: الربيع بن صبيح (ت 160هـ)؛ وسعيد بن أبي عروبة (ت 156هـ)؛ وحماد بن سلمة (ت 167هـ). • في الكوفة: سفيان الثوري (ت 161هـ)؛ وزكريا بن أبي زائدة (ت 149هـ)؛ وابن فضيل (ت 195هـ)؛ ووكيع (ت 197). • في اليمن: معمر بن راشد (ت 153هـ)؛ وخالد بن جميل. • في الشام: الأوزاعي، وعبد الرحمن بن عمرو (ت 157هـ)؛ والوليد ابن مسلم (ت 194هـ). • في خراسان ومرو: عبد الله بن المبارك (ت 181هـ). • في واسط: هشيم بن بشير (ت 183هـ). • في الري: جرير بن عبد الحميد (ت 188هـ). • في مصر: عبد الله بن وهب (ت 197).   المرحلة الثالثة: تصنيف السُّنة في (القرن الثالث): قال ابن منظور رحمه الله - في تعريف التَّصنيف: (والتصنيف: تمييز الأشياء بعضها من بعض.
وصنَّف الشيء: مَيَّزَ بعضَه من بعض.
وتصنيفُ الشيء: جَعْلُه أصنافاً[12].   وعليه، فالتصنيف: هو تمييز الجزئيات، كأن يُميِّز المُصَنِّفُ الصواب من الخطأ، أو الأهم من المهم.   الفرق بين (مرحلة التدوين) و (مرحلة التَّصنيف): في مرحلة التدوين: دُوِّن حديثُ النبي صلى الله عليه وسلم فقط؛ لذا جاء في الكتاب الذي كتبه الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: (وَلاَ تَقْبَلْ إلاَّ حَدِيثَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم)[13].   وأما مرحلة التصنيف: فقد أخذت أشكالاً مختلفة، ومن ذلك ضَمُّ الموقوف والمقطوع إلى جانب المرفوع من الحديث، فدوَّن الأئمة أقوال الصحابة والتابعين مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء ذلك في (موطأ الإمام مالك)، وكانوا يؤلفون كل باب على حدة، ومنهم من ألَّف كلَّ الأبواب، ومنهم مَن اقتصر على أبواب الأحكام فقط[14].   وقد نشط (تصنيف السُّنة) في منتصف القرن الثاني الهجري، ومن ذلك: • تصنيف المُصنَّفات: مصنف عبد الرزاق (ت 211هـ)؛ ومصنف ابن أبي شيبة (ت 235هـ). • تصنيف المسانيد: مسند الحميدي (ت 219هـ)؛ ومسند أحمد (ت 241هـ)؛ ومسند الدارمي (ت 255هـ). • تصنيف الجوامع: جامع البخاري (ت 256هـ)؛ وجامع مسلم (ت 261هـ)؛ وجامع الترمذي (ت 279هـ). • تصنيف السُّنن: سنن أبي داود (ت 275هـ)؛ وسنن ابن ماجه (ت 273هـ)؛ وسنن النسائي (ت 303 هـ).   وبذلك يتضح أن أئمة السنة بذلوا جُهداً عظيماً في جمع السُّنة وتبويبها، وتركوا لنا تراثاً غزيراً في عشرات المصنفات والدَّواوين، حتى أصبحت أُمَّة الإسلام تمتلك - بحق - أغنى وأعظم وأرفع وأسمى تراث عرفته البشرية، فلله الحمد على إكمال النِّعمة، وإتمامها[15].


[1] يُشير إلى ما جاء عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ).
رواه مسلم، (4/ 2298)، (ح3004). [2] هدي الساري مقدمة فتح الباري، (ص6). [3] المحكم والمحيط الأعظم، (6/ 775). [4] القاموس المحيط، (ص1545). [5] تاج العروس، (35/ 35). [6] انظر: السنة النبوية: مكانتها، عوامل بقائها، تدوينها، د.
عبد المُهدي بن عبد القادر بن عبد الهادي (ص97). [7] فتح الباري، (1/ 208). [8] الطبقات الكبرى، (7/ 448). [9] أورده البخاري معلقاً مجزوماً به، (1/ 49). [10] جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (1/ 76). [11] انظر: المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، للرامهرمزي (1/ 611)؛ هدي الساري مقدمة فتح الباري، (ص6). [12] لسان العرب، (9/ 198). [13] أورده البخاري معلقاً مجزوماً به، (1/ 49). [14] السنة النبوية: مكانتها، عوامل بقائها، تدوينها، (ص123). [15] انظر: جهود الأئمة في حفظ السنة، (ص30).



شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢