أرشيف المقالات

قراءة القرآن في الركوع والسجود

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2قراءة القرآن في الركوع والسجود   عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ، وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، وَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ))؛ رواه مسلم.   وفي رواية له: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ السِّتْرَ، وَرَأْسُهُ مَعْصُوبٌ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ ((إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ...)).   وأما البخاري فرواه من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((لم يَبْقَ من النبوَّةِ إِلَّا المبشِّرات))، قالوا: وما المبشرات؟ قال: ((الرُّؤيا الصالحة)).   وعن عَلِيِّ بْن أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: "نَهَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا"؛ رواه مسلم.   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ))؛ رواه مسلم.   تخريج الأحاديث: حديث ابن عباس أخرجه مسلم (479)، وأخرجه أبو داود في كتاب "الصلاة" "باب الدعاء في الركوع والسجود" (876)، وأخرجه النسائي في كتاب "التطبيق" "باب الأمر بالاجتهاد في الدعاء في السجود" (1119)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب "تعبير الرؤيا" "باب الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" (3899).   وأما البخاري فأخرجه من حديث أبي هريرة في كتاب "التعبير" "باب المبشرات" (6990) بلفظ: ((لم يبق من النبوة إلا المبشرات))، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة"، وأما حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأخرجه مسلم (480)، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه أبو داود في كتاب "اللباس" "باب من كرهه" (4044)، وأخرجه الترمذي في كتاب "الصلاة" "باب ما جاء في النهي عن القراءة في الركوع والسجود" (264)، وأخرجه النسائي في كتاب "التطبيق" "باب النهي عن القراءة في الركوع" (1043)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب "اللباس" "باب كراهة المعصفر للرجال" (3642).   وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فأخرجه مسلم (482)، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه النسائي في كتاب "التطبيق" "باب أقرب ما يكون العبد من الله عز وجل" (1136).   شرح ألفاظ الأحاديث: "كَشَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ"؛ أي: رفع الستارة التي كانت بين بيته على بابه وبين مسجده صلى الله عليه وسلم، والسِّتارة - بكسر السين-: الستر الذي يكون على باب البيت والدار، واستعملت حديثًا على النوافذ.   "وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ"؛ أي: يصلي بهم خَلَفًا للرسول صلى الله عليه وسلم في مرض موته.   ((إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ)): وفي رواية البخاري: ((لم يبق من النبوَّة إلا المبشِّرات))، قالوا: وما المبشرات؟ قال: ((الرؤيا الصالحة)) التعبير بالمبشرات خرج مخرج الغالب، وإلا فإن الرؤيا قد تكون منذرةً، وهي صادقة يُريها الله المؤمنَ رفقًا به؛ ليستعد لها، أو يتقيَها بما يجب.   وأما كون الرؤيا من النبوة، قال شيخنا العثيمين: "والمراد بأن الرؤيا جزء من النبوَّة يعني أنها أجزاء من الوحي، وليست وحيًا كاملًا، ولكن فيها شيء من الوحي"؛ [شرح صحيح البخاري (9/ 416)].   وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة)).   ((فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ)): التعظيم: وصف الرب بصفات العظمة والإجلال والكبرياء، والمراد هنا: سبحان ربي العظيم وما يتبعها من صيغ التعظيم الواردة.   ((فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ)): قَمِنٌ: بفتح القاف وكسر الميم، ويجوز فتحها لغتان، بعدها نون صفة مشبهة؛ أي: حقيق وجدير أن يُستجاب دعاؤكم.   من فوائد الأحاديث: الفائدة الأولى: الأحاديث دليل على النهي عن قراءة القرآن في حال الركوع، والحكمة من هذا النهي: أن القرآن أعظم الذكر وأشرفه، ومحله حال القيام لا محل الخفض من ركوع أو سجود؛ تعظيمًا لكلام الله تعالى وتكريمًا له؛ لأن الركوع والسجود حالتا ذُلٍّ وانكسار، فناسب فيهما التعظيم والدعاء والتضرُّع.   واختلف: هل النهي للتحريم أو الكراهة؟ القول الأول: أن النهي للتحريم. وعلَّلوا: بأنه جاء بذكر منهي عنه في هذا الموضع، واختلف أصحاب هذا القول: هل تبطل الصلاة بفعل هذا المنهي أو لا؟ على قولين.   والقول الثاني: أن النهي للكراهة، وبه قال جمهور العلماء، واختاره شيخنا العثيمين. وعلَّلوا: بأن القرآن ذكر مشروع في الصلاة، والمخالفة وقعت في مكان الذكر لا في ذاته، وهذا القول هو الأظهر، والله أعلم.   قال شيخ الإسلام: "اتفق العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود، وتنازعوا في بطلان الصلاة بذلك على قولين؛ هما وجهان في مذهب الإمام أحمد، وذلك تشريفًا للقرآن، وتعظيمًا له ألَّا يُقرأ في حال الخضوع والذل"؛ [الفتاوى الكبرى (2/ 3899، وانظر: فتح الباري؛ لابن رجب (6/ 28)، وسبل السلام للصنعاني (1/ 266)، وتعليق شيخنا على مسلم (3/ 234)].   وأما الدعاء بآيات القرآن حال السجود، فلا يدخل في النهي؛ لأن مراد القائل الدعاء لا التلاوة.   الفائدة الثانية: الأحاديث دليلٌ على البشارة بالرؤيا الصالحة التي يراها المسلم أو تُرى له من غيره، وللرؤيا مباحث ومسائل ستأتي بإذن الله تعالى في أحاديث كتاب الرؤيا، والرؤيا الصالحة لا سيَّما من الصالح غالبًا تَصدُقُ.   قال ابن حجر: "قال المهلب: المراد غالب رؤيا الصالحين، وإلَّا فالصالح قد يرى الأضغاث ولكنه نادر؛ لقلة تمكُّن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم، فإن الصدق فيها نادر لغلبة تسلُّط الشيطان عليهم، قال: فالناس على ثلاث درجات: الأنبياء ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، والصالحون والأغلب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير، ومن عداهم يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث، وقد وقعت الرؤيا الصادقة من بعض الكفار كما في رؤيا صاحبي السجن مع يوسف عليه السلام ورؤيا ملكهما"؛ [الفتح (12/ 362)].   الفائدة الثالثة: حديث ابن عباس رضي الله عنهما دليلٌ على وجوب تعظيم الرب في الركوع، والإكثار من ذلك ولو بتَكرار ((سبحان ربي العظيم))، وإن زاد مما ورد من صيغ التعظيم الواردة؛ كقول: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي))؛ متفق عليه من حديث عائشة، وسيأتي قريبًا، وقول: ((سبوح قدوس رب الملائكة والروح))؛ رواه مسلم من حديث عائشة، وسيأتي غير ذلك من الصيغ الواردة، فحسنٌ وأبلغُ في التعظيم.   الفائدة الرابعة: الأحاديث دليلٌ على مشروعية الدعاء في السجود والإكثار من ذلك؛ لأنه محل إجابة للدعاء، وله أن يدعوَ بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاجتهاد والإكثار من الدعاء فيه لتميُّزه بأمرين: الأول: أنه أحرى مواطن إجابة الدعاء في الصلاة؛ لقوله: ((فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ)).
والثاني: قرب الله تعالى من الساجد؛ لقوله: ((أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد))، والحكمة من احتفاء السجود بهذه الفضيلة، قال شيخنا العثيمين: "ومن أجل هذا التضامُن والنزول الذي فعله لله تعالى، صار أقرب ما يكون الإنسان من ربِّه وهو ساجد، مع أنه لو قام لكان أعلى وأقرب؛ لكن لنزوله لله عز وجل صار أقرب إلى الله، ((فما تواضَعَ أحدٌ لله إلا رفَعَه الله))؛ (رواه مسلم)، هذه هي الحكمة والسِّرُّ في هذا السجود العظيم؛ ولهذا ينبغي لنا أن تسجد قلوبنا قبل أن تسجد جوارحُنا، بأن يشعُر الإنسان بهذا الذُّلِّ والتضامُن والتواضُع لله عز وجل؛ حتى يدركَ لذَّةَ السجود وحلاوته، ويعرفَ أنه أقرب ما يكون إلى الله"؛ [الممتع (3/ 118)].   وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حرَّم الله على النار أن تأكُلَ أثرَ السجود))؛ ولهذا قال بعضهم: يا رب أعضاءُ السجود عتقتَها مِن فضلك الوافي وأنت الباقي والعتقُ يَسري بالغنى يا ذا الغنى فامْنُنْ على الفاني بعِتقِ الباقي   فالقائل توسَّل إلى الله تعالى الذي أعتق مواضع السجود من النار أن يَعتقَ باقي البدن لسَريان العتق إليه.   الفائدة الخامسة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه دليلٌ على قُرْب الله تعالى من المساجد، وأن قربه يتفاوت، فأقرب ما يكون من عبده وهو ساجد، واختلف العلماء في معنى القرب: هل هو قرب حقيقي؛ أي: إنه قريبٌ بنفسه، أو أنه قريب بعلمه، على قولين، أظهرهما الأول، وأنه قرب حقيقي يليق بجلال الله تعالى؛ لكنَّ قربَه لا يستلزم أن يكون في مكان سجود الإنسان في الأرض؛ لأن الله تعالى قريب في علوِّه، عليٌّ في دنوِّه، وعلوُّه من صفاته الذاتية التي لا تنفكُّ عنه، والقول بأن القرب حقيقي هو الصواب إجراءً للنصِّ على ظاهره.   مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الصلاة).



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢