أرشيف المقالات

الإسلام كعامل في المدنية

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
8 (بقية ما نشر في العدد الماضي) للأستاذ أحمد أمين والمسألة الثانية هي (الثقافة الإسلامية) وأثرها في المدنية وأريد أن أكرر هنا ما أشرت إليه من أن الثقافة الإسلامية كانت أثراً من آثار العقيدة الإسلامية التي ألممت بها.
فالقرآن رفع مستوى العقل إلى درجة يستطيع فيها التفكير الصحيح بما حارب من خرافات وأوهام، وعبادة أصنام، وبما حث على النظر في الكون ومراقبة تغيراته، واختلاف مظاهره، ودوام حركاته، وبتوجيه العقل إلى أن وراء كل المظاهر المختلفة وحدة، فالناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم يرجعون إلى أصل واحد هو آدم وحواء، والبحار والأنهار المختلفة كلها ترجع إلى ما أنزل من السماء من ماء، والعالم كله يرجع إلى وحدة الخالق (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت).
فهذه الوحدة في العالم تحمل على التفكير الصحيح والثقافة العميقة والنظر الفلسفي الروحي.
فالقرآن من ناحية فك قيود العقل، وهذا هو العامل السلبي؛ ومن ناحية أخرى أخذ بيده ليشرف على العالم من مرقب عال، وهذا هو العامل الإيجابي من أجل هذا كانت الثقافة الإسلامية نتيجة العقيدة الإسلامية لا نتيجة شيء آخر، فإن هي اتجهت إلى الاستعانة بالفلسفة اليونانية والثقافة الفارسية والهندية، فلأن الدين حملها على ذلك وطلب منها أن تتطلب العلم حيث كان ومن أي كائن كان وقد بذر الإسلام في نفوس أصحابه بذوراً تأصلت فيهم فكانوا إذا اقتبسوا من الفلسفة اليونانية أو أية ثقافة أخرى لم يكونوا مقلدين تقليداً صرفاً، إنما كانوا دائماً يُعملون العقل فيما نقلوا، ويعملون العقيدة الدينية فيما قرءوا.
فإذا نظرنا إلى ما كتب الفارابي وابن سينا وابن رشد رأيناهم لم يقفوا موقف التلميذ فحسب، بل نقدوا وزادوا ووفقوا بين الفلسفة والدين وأمدوا كل شيء وأخذوه بروح من عندهم، فكان لثقافتهم طابع خاص وشارة تعرف بها - حتى هذا المنطق اليوناني الذي دانت له كل الأمم زاد الغزالي في بعض كتبه فصولاً عن القرآن؛ وابن تيمية وابن حزم وغيرهما نقدوا منطق اليونان وعدوه منطق شكل لا منطق مادة.
وكان شأنهم في كل فرعٍ هذا الشأن تقريباً.
فدعوى أن المسلمين في ثقافته كانوا حفظة للثقافة اليونانية أكثر منهم مبتكرين لثقافة خاصة دعوى أملاها عدم الدراسة للثقافة الإسلامية دراسة وافية والحق أن فضلهم على المدنية الحديثة كان من الناحيتين جميعاً: من ناحية حفظهم لثقافة غيرهم من الأمم ولولاهم لضاع كثير منها، ومن ناحية ما أنشئوا وابتكروا وبثوا من روح في الثقافات القديمة.
وقد بدأ علماء أوروبا يبحثون نواحي تأثير الثقافة الإسلامية في الثقافة الأوروبية؛ وكان من آخر ما أظهروا في هذا الباب كتاب ما خلفه الإسلام تناولوا فيه أثر الثقافة الإسلامية في الجغرافيا والتجارة، وفي القانون والاجتماع والفن والعمارة وفي الأدب، وفي التصوف وفي الفلسفة واللاهوت، وفي العلم والطب، وفي الهيئة والرياضيات.
وهذا البحث وإن كان آخر ما ألفوا فهو أول ما كتشفوا من طريق يشرف على آثار قيمة ضخمة لا تزال تنتظر مكتشفين أبعد مدى، وأقوى على تحمل مشاق الطريق ولعلنا لكي نقرب من موضوعنا نسأل هذا السؤال: هل كان العالم يستطيع أن يقف على درجة السلم التي يقف عليها الآن لو لم تكن مدنية الإسلام؟ هل لو لم يكن في الوجود مدنية بغداد ومدنية قرطبة والحروب الصليبية كانت المدنية الحديثة تبلغ ما بلغت الآن؟ هل كانت النهضة الأوربية الحديثة تحدث في الزمن الذي حدثت فيه لو لم ترتكز على المدنية الإسلامية؟ هذا سؤال واحد في أوضاع مختلفة والإجابة عنه يسيرة، وهي إجابة بالنفي القاطع.
ولا يعلم إلا الله كم كانت تتأخر المدنية الحديثة لو لم ترتكز على المدنية الإسلامية وتطير من على عاتقها، فالمتتبع لتاريخ المدنيات يرى أنه حلقات يسلم بعضها إلى بعض، ويستفيد لاحقها بما وصل إليه سابقها.
وقد كانت المدنية الإسلامية هي التي في الذروة قبيل المدنية الحديثة، ولم يكن يضارع بغداد وقرطبة مدينة أخرى في العالم في مدنيتهما وثقافتهما وصناعتهما، ونضمهما الإدارية والحربية.
ولتوضيح ذلك ننظر في أسس المدنية الحديثة ونبين علاقة هذه الأسس بالمدنية الإسلامية لقد بنيت النهضة الحديثة في الثقافة على أساسين وهما الشك والتجربة - كانت الثقافة في القرون الوسطى تعتمد كل الاعتماد على آراء اليونان وتقدس ما قال أفلاطون وأرسطو كل التقديس.
فإذا قال أرسطو قولاً فلا يمكن إلاّ أن يكون صحيحاً، وإذا كان الحس يدل على غير ما يقول وجب أن نعتبر الحس خدّاعاً، والحقيقة ما قال أرسطو.
لقد قال أرسطو إن الجسم إذا كان أثقل كان إلى الأرض أسرع، ولكن صعد بعضهم من مكان عال ورمى في وقت واحد حديدتين وزن إحداهما ضعف الأخرى فوصلا إلى الأرض معاً، ومع هذا قالوا إن الحق ما قال أرسطو، ويجب أن يؤول الواقع وهكذا.
وكانوا يعتمدون كل الاعتماد على القياس المنطقي وحده يؤيدون به المذاهب والآراء، والقياس المنطقي وحده وسيلة عقيمة لأنه يجعلك تسلم بالمقدمات تسليما أعمى وتعنى فيه بالشكل.
فجاءت النهضة الحديثة تشك في هذه المقدمات العامة وتمنحها وتجري التجارب عليها ولا تؤمن بشيء حتى تدل التجارب على صحته، وكان هذا دعامة النهضة الحديثة.
والحق أن هذه طريقة لم تكن بعيدة عن المسلمين ولا خفيت عليهم؛ فالتاريخ يحدثنا أن النّظّام ألف في نقد آراء أرسطو، وأن تلميذه الجاحظ في كتابه الحيوان يطلع اطلاعاً واسعاً على أقوال أرسطو ثم لا يمنحها هذا التقديس؛ بل ينقدها نقداً جريئاً ويقول قد جرّبنا قول أرسطو فلم نجده صحيحاً.
ويقول: (إن قوله هذا غريب)، و (هو قول لا يجيزه العقل) إلى كثير من أمثال ذلك، وربما فضّل على قوله قولاً آخر قاله عربي جاهلي في بيت من الشعر، لأنه أقرب إلى العقل.
فهو بهذا قد جعل عقله حكماً على أرسطو، على حين أن فلاسفة القرون الوسطى في أوروبا جعلوا أرسطو حكما على العقل، والبيروني يحكم عقله في الرياضيات، ويقارن بين نظريات اليونان ونظريات الهند، ويفضل هذه حيناً وهذه حيناً فكتابه الآثار الباقية، وحيناً لا يقبل هذه ولا تلك ويعتمد على عقله الصرف، ويقف الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال) الموقف الذي وقفه بعدُ ديكارت فيقول: (إنه رأى صبيان النصارى ينشئون على النصرانية، وصبيان اليهود على اليهودية، وصبيان المسلمين على الإسلام، وأنه لم يقنع بهذا الدين التقليدي التلقيني، وطلب أن يعلم حقائق الأمور وأن يبني دينه على يقين، وقال إنه بدأ بالشك في كل ذلك حتى يقوم البرهان على صحته، ولم يسمح لنفسه باعتقاد حتى يتأكد من صحته) وقال: (كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني)، وابن خلدون نظر إلى المجتمع الإنساني هذا النظر الحر الطليق فاستفاد مما قال أرسطو وغيره ولكنه لم يتقيد به، ونظر في مجتمعات لم يصل إليها علم أرسطو وهي القبائل العربية والدول الإسلامية، واستنتج من ذلك كله نظرياته التي كانت ولا تزال محل تقدير علماء الاجتماع والتاريخ من الأوروبيين وإعجابهم وعلى الجملة فهذه الأسس التي بنيت عليها النهضة الحديثة في أوروبا من تحرير العقل من قيود الأوهام، ومن عبادة العظماء أمثال أرسطو، ومن وضع القوانين بعد الملاحظة والتجربة، وبعد الشك فيما اتخذه الأقدمون قضايا مسلمة، كله كان منبثاً في الثقافة الإسلامية في عصورها الزاهية.
وكل ما في الأمر أن الذين بنوا على هذه الأسس القيمة هم الأوروبيون لا المسلمون، وأن من سوء حظ المسلمين أن وضعت في سبيلهم عقبات ليس منشؤها دينهم حالت بينهم وبين أن يتموا ما بدءوا، وأن يشيدوا فوق ما أسسوا.
ولكن من الحق أنا إذا أردنا أن نقوّم بناء لا نكون سطحيين فنقوم ظاهره، ولا نقوم باطنه؛ ونقوم أعلاه، ولا نقوم أساسه ووجه آخر بجانب هذا، هو أن ثقافة المسلمين لم تكن جميعا متجهة اتجاه الفلسفة اليونانية والعلوم اليونانية؛ فقد كانت لهم مناح في الثقافة خاصة بهم لم يعتمدوا فيها على غيرهم إلا اعتماداً ضعيفاً غير مباشر؛ فما أنشئوا من علوم لغتهم كالنحو والصرف والبلاغة وأدبهم الذي رقوا به أدب جاهليتهم وساروا به على منهج خاص بهم، لا على المنهج اليوناني، ولا على المنهج الفارسي؛ والعلوم الغزيرة التي أنشئوها حول دينهم من تفسير للقرآن والحديث، ومن فقه قابلوا به قضاياهم ونظامهم وحياتهم الاجتماعية الخاصة، وما أسسوا له من (أصول الفقه) الذي لم يجروا فيه على منوال سبق - كل هذه وأمثالها كانت مظهراً من مظاهر الاختراع العقلي للمسلمين، وكل هذه كانت عوامل في بناء المدنية الإسلامية التي بنيت عليها المدنية الحديثة وقد حفظ لنا التاريخ بعض الصلات التي ربطت بين المدنية الإسلامية والمدنية الأوروبية، وأبان لنا كيف استمدت الثانية من الأولى، وكشف لنا عن بعض الجداول التي كانت تتسرّب من المدن الإسلامية تصب في المدن الأوربية، وإن كان بعضها لم يزل مطموراً إلى اليوم ولم يستكشف بعد فقد اتصل الأوربيون بالمسلمين في الأندلس اتصالاً وثيقاً، واتخذ علماؤهم فلاسفة المسلمين أساتذة يتعلمون منهم ويدرسون عليهم، ونشطت حركة واسعة النطاق لنقل أهم المؤلفات العربية إلى اللغة اللاتينية، وهي لغة الأدباء والعلماء في القرون الوسطى، حتى أن كثيراً مما بقى من مؤلفات ابن رشد حفظت إلى الآن باللغة اللاتينية ولا نجد أصلها بالعربية، وكان من أشهر من قام بهذه الحركة (ريموند) الذي كان مطراناً لطليطلة من سنة 1130 - سنة 1150، فقد أسس جمعية لنقل أهم الكتب الفلسفية والعلمية العربية إلى اللغة اللاتينية، فنقلوا من العربية أهم كتب أرسطو وما علقه عليها العرب من شروح، كما نقلوا أهم كتب الفارابي وابن سينا، وكان من أثر هذه الجمعية أن رأينا منطق أرسطو المترجم من العربية إلى اللاتينية يقرأ في باريس بعد ثلاثين سنة من عمل هذه الجمعية.
وقد مرت حركة استفادة الأوربيين من الثقافة اليونانية في ثلاثة أدوار، الدور الأول: نقل الفلسفة اليونانية والكتب العلمية من العربية إلى اللاتينية، والدور الثاني: النقل من اليونانية مباشرة بعد سقوط القسطنطينية.
والثالث: نقل الشروح العربية إلى اللاتينية وجاء فردريك الثاني سنة 1215، واتصل بالمسلمين اتصالاً وثيقاً في صقلية وفي الشام في حروبه الصليبية، واقتبس كثيراً من آرائهم وعاداتهم وعقائدهم، وقد وصفه المؤرخون بأنه كان يعجب بفلاسفة المسلمين، وكان يعرف اللغة العربية ويستطيع أن يقرأ بها الكتب الفلسفية في مصادرها الأصلية.
وأنشأ سنة 1224 مجمعاً في نابلي لنقل العلوم العربية والفلسفة العربية إلى اللاتينية والعبرية لنشرها في أوربا.
وبفضل فردريك ذهب (ميكائيل سكوت) إلى طليطلة وترجم شروح ابن رشد على أرسطو، وقبل ذلك كانت قد نقلت إلى اللاتينية جمهرة من كتب ابن سينا واستعملت في باريس حول سنة 1200م وفي القرن الثالث عشر كانت كل كتب ابن رشد تقريباً قد ترجمت إلى اللاتينية ماعدا كتباً قليلة، منها كتاب تهافت التهافت الذي رد به على تهافت الفلاسفة للغزالي، فقد ترجمت في القرن الرابع عشر وكان أهم مركز لتعاليم ابن رشد في جامعة بولونيا وجامعة بادوا في إيطاليا ومنهما انتشرت هذه الثقافة في إيطاليا الشمالية الشرقية إلى القرن السابع عشر، واستمرت كتب ابن سينا في الطب سائدة إلى ما بعد هذا العصر ورجال النهضة الحديثة الذين قاموا بحركة الثورة الفكرية كانوا يدرسون على هذه الكتب، أو يتتلمذون لمن درسوا عليها، فروجر بيكون الذي سبق أهل زمنه في معارفه وطريقة بحثه أخذ ثقافته العلمية من الأندلس، ودرس فلسفة ابن رشد، والقسم الخامس من كتابه في البصريات مستمد ومساير لكاتب ابن الهيثم في هذا الموضوع نفسه وطالما ارتفعت شكوى رجال الدين في الأندلس من أن المسيحيين يدرسون علم العرب المسلمين، وعابوا مطران أشبيلية لأنه يدرس في جد فلسفة الكافرين، يعنون المسلمين وعلى كل حال فجملة الأمر في مدنية المسلمين كما لخصها الأستاذ لكي خير تلخيص إذ قال: (لم تبدأ النهضة الفكرية في أوربا إلا بعد أن انتقل التعليم من الأديرة إلى الجامعات، وإلا بعد أن حطمت العلوم الإسلامية، والأفكار اليونانية، والاستقلال الصناعي، سلطان الكنيسة) هذا هو موقف المسلمين أمس من المدنية، ولابد أن نلقي نظرة على موقفهم اليوم من المدنية الحديثة.
ومما يؤسف له حقاً أن نقول إن المسلمين لا يشتركون اليوم في بناء صرح المدنية اشتراكا كبيرا، لأن حديثهم هو تقليد للمدنية الحديثة، وقديمهم هو مدنية القرون الوسطى، فهم في الصناعات والمخترعات ونظم الحكومات والإدارات، وفي كتبهم التي تؤلف في العلوم الحديثة من جغرافيا وتاريخ وطبيعة وكيمياء وما إليهما، ونظام مدارسهم الحديثة ومحاكمهم وقوانينهم؛ كل هذا يقلدون فيه المدنية الغربية.
وكلما زاد التقليد فيها عدت أقرب إلى الكمال؛ وقديمهم من مثل دراسات علومهم كالنحو والصرف والفلسفة الإسلامية، ومن مثل قضائهم في المحاكم الشرعية، ومن مثل مدارسهم الدينية، ونحو ذلك، كلها على نمط مدينة القرون الوسطى.
فهم - في ظاهر الأمر - لا يضعون أحجاراً كبيرة في بناء المدنية الحديثة، ولا يلونونها بلون خاص.
ولكن هل الذنب في ذلك ذنب الإسلام والمسلمين؟ إذا عرضت نفسك لتبني فمنعك صاحب البناء بالقوة فالذنب ذنب من مَنع لا من مُنع، وهكذا الشأن في موقف المسلمين.
لقد سبقهم الغربيون باستخدام العلم في قوة تسلحهم إلى أقصى حد يمكن فيه استخدام العلم، فوجهوا هذه القوى الهائلة إلى الشرق، ولم يكن قد صحا بعد من سباته الذي سببه ما فسد من عقيدته، وما فسد من سياسته، وما فسد من شؤونه الاجتماعية، فسلط عليه الغرب كل قوته، فانتبه مذعورا؛ ونظر إليه الغرب نظرة استغلال، فساعده على كل ما يفيد الاستغلال، ومنعه عن عمل كل شيء يفيد الاستقلال، فهو إذا أراد أن يتثقف كما يشاء، أو يرقي شؤونه الاجتماعية كما يشاء، أو أن يحكم نفسه كما يشاء، أو أن يرقي أخلاقه كما يشاء، منعه الغرب من ذلك حرصاً على فائدته في هذا الاستغلال، والشرق لا يستطيع أن يقاوم إلا بالقوة، والقوة محرمة عليه.
فهل بعد ذلك هو الذي يتحمل تبعة عدم اشتراكه في البناء إني لأرجو أن الزمن ورقي الأفكار السياسية التي تخطو في هذه الأيام خطوات سريعة تجعل الغربي ينظر إلى الشرقي نظرة تعاون، فيدرك أن طريقة الاستغلال ليست أصلح الطرق حتى من الناحية الاقتصادية، وأن رقي الشرقي والسماح له بالبناء يزيد في صرح المدنية ويرفع بناءها، ويسرع في علو شأنها.
وكما تبين للناس أن نظام الإقطاع وتسخر الملك للعبيد لم يكن في مصلحة الملاّك ولا العبيد، فحطموا هذا النظام من أساسه، وأسسوه من جديد على تحرير العبيد وتعاون الملوك والمستأجرين، وأرباب الأموال والعمال، فكذلك سيكون الشأن مع الحاكمين والمحكومين يتعاونون ولا يتقاتلون، ويتفاهمون ولا يتنازعون، ويتحاكمون إلى الرأي والعقل لا إلى القوة والسلاح.
وأرجو ألا يكون ذلك بعيداً على أن من العدل أن نقول إن التبعة في ذلك كله لا تقع على الغربيين وحدهم، فإن هناك عوامل في المسلمين أنفسهم جعلتهم في هذا الموقف الحرج.
فهناك علماء جامدون ضيقوا العقل، وقفوا موقفاً مزرياً في تاريخ المسلمين، وعاقوا رقيهم وتقدمهم، فكان كلما حاول الإصلاح محاول ثاروا عليه باسم الدين، إن أراد إصلاح المحاكم ثاروا عليه ورموه بالمروق، وإن أراد تنظيم الإدارة الحكومية قالوا لا عهدنا لنا بهذا، ويجب أن نتتبع آباءنا وإنا على آثارهم مقتدون.
وإن أراد تعليم المرأة قالوا ما بهذا أتى الدين! وهكذا كانوا حجر عثرة في سبيل كل مصلح حتى عظم الخطب، واشتد الكرب، وأولو الأمر في المسلمين إذ ذاك لم يكن يهمهم إلا شهواتهم وفخفختهم الكاذبة، ومظاهرهم الخادعة.
أما الاتجاه الصحيح إلى ترقية رعيتهم وتثقيفهم، وتنوير أذهانهم، ونشر العدل بينهم فكانوا قلما يأبهون له.
فهؤلاء وأولئك كانوا السبب في أن يقف المسلمون هذا الموقف الذين شكونا منه من قبل ومع هذا فتنبه المسلمين اليوم، وسير حركات الإصلاح بينهم سيراً حثيثاً، يدعونا أن نؤمل قرب اليوم الذي يتبوأون فيه مكانتهم اللائقة بهم.
فإذا قارنت هذه النهضة الداخلية في رقي الفكر السياسي عند الغربيين، وتعديل نظرتهم نحو المسلمين كان من وراء ذلك كله نهضة جدية يبني فيها المسلمون في المدنية بناء صالحاً مصبوغاً بعقيدتهم وأفكارهم، فنرى إذ ذاك فلسفة خاصة وثقافة خاصة، وروحانية خاصة، قد تلون المدنية الحديثة عامة بلون خاص غير لونها الحالي أحمد أمين

شارك الخبر

المرئيات-١