كن أنت الرابع!
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
كن أنت الرابع!روى البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أوَوْا المبيت إلى غارٍ فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم، كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يومًا فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبتُ لهما غَبوقَهما فوجدتهما نائمينِ، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غَبوقهما، اللهم، إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرِّجْ عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج))، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وقال الآخر: اللهم، كانت لي بنت عمٍّ، كانت أحبَّ الناس إليَّ، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني حتى ألمَّت بها سنةٌ من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلِّيَ بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرتُ عليها قالت: لا أحلُّ لك أن تَفُضَّ الخاتمَ إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها - وهي أحب الناس إلي - وتركت الذهب الذي أعطيتُها، اللهم، إن كنت فعلتُ ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها))، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وقال الثالث: اللهم، إني استأجرت أجراءَ فأعطيتهم أجرهم غيرَ رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمَّرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أدِّ إليَّ أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي! فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا، اللهم، فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون"؛ رواه البخاري ومسلم.
هذا الحديث الصحيح نسمعه مرارًا وتَكرارًا، والفوائد منه كثيرة وعديدة نذكر منها: فضيلة بر الوالدين، وفضيلة العفة، وكذلك حفظ الأمانة، ونلحظ أيضًا أن هؤلاء الثلاثة تذكروا أعمالَهم التي كانت في الرخاء فاستغاثوا بها في حالة الشدة والضرّاء فنجّاهم الله تعالى!
ونحن نتذكر حالة سيدنا يونس عليه السلام حين وقع في الشدة والضيق، وأصبح في حالة وصفها القرآن الكريم بأنها حالة غمٍّ وشدة؛ قال تعالى: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ﴾ [الأنبياء: 88].
لكن المولى سبحانه يذكّرنا بأمر في غاية الأهمية أن يونس عليه السلام كان له شأن مع ربه في حالة الرخاء؛ قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 143، 144].
وقال حين ذكّرنا بنجاته: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 88].
أي: كما نجَّينا يونس من غمِّه بطاعته وتسبيحه لربه، فكذلك ننجي المؤمنين إذا أطاعوا الله ولجؤوا إليه، فحينما نسمع هذا الحديث نسأل أنفسنا لو تعرضنا إلى شدة أو ضيق أو همٍّ - وكلنا معرضون لذلك - هل سألت نفسك هذا السؤال: ما هي الطاعة؟ وما هو السر الذي بيني وبين ربي، والذي إذا وقعت في ضيق أو شدة توسلت إلى ربي به؟
• كن أنت الرابع، وابحث لنفسك عن عمل وليكن سرًّا بينك وبينه، وقد نصحنا صلى الله عليه وسلم بالخبيئة الصالحة؛ فقال:((من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل))، صححه الألباني في صحيح الجامع (6018).
وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال:((اجعلوا لكم خبيئةً من العمل الصالح، كما أن لكم خبيئة من العمل السيئ)).
• إن كنت تريد أن تكون أنت الرابع: فاجعل لك عملاً وزيِّنْه بالإخلاص، وداوم عليه، وابتعد به عن أعين الناس، فإن العمل الذي لا يراه الناس يُرجَى فيه الكمال أكثر مما يرجى في غيره، فينبغي الاهتمام به أكثر، وخاصة أنها وسيلة لا يستطيعها المنافقون أبدًا، وكذلك لا يستطيعها الكذَّابون؛ لأن كلاًّ منهما بنى أعماله على رؤية الناس له، وإنما هي أعمال الصالحين فقط، وأيضًا لأن أعمال السر هي أشد الأعمال على الشيطان، وأبعد الأعمال عن مخالطة الرياء والعجب والشهرة.
• إن كنت تريد أن تكون أنت الرابع، ففتّش من الآن عن أعمال البر، ولن تعدم الوسيلة..
سدِّدْ عن المدين الفقير ولا تخبره، عوِّد نفسك على الذهاب إلى المشفى، وخفّف عن المريض الفقير، فادفع له ثمن العلاج، اذهب إلى المدارس وادفع تكاليف ومصاريف بعض الفقراء والأيتام، ساعد يتيمة مقبلة على الزواج، اختر من تلك الأشياء ما تستطيع أن تداوم عليه.
• ربما تكون فقيرًا، وتريد أن تكون أنت الرابع، فابحث عن عمل يناسبك، اذهب إلى المشفى وتبرَّع من دمك لفقير مثلك لا يستطيع أن يشتريَ أكياس الدم - وهم كثيرون - تجدهم في أقسام الأمراض المستعصية، نسأل الله العافية، أو اجعل لك عبادة في خلوتك، أو أورادًا من الذكر، بِرَّ والديك، فالوسيلة أيضًا لن تعدم.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته، وحسن مراقبته، فاللهم، إنا نسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك.