أرشيف المقالات

تكفين الميت وأحكامه

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2تكفين الميت وأحكامه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
بعد الفراغ من غسل الميتِ يجب تكفينه، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك للمحرم الذي وقصَته الناقة، فقال: «كَفِّنُوهُ»[1]، وهو فرض كفاية إذا فعله من فيه كفاية سقط الإثم عن الباقين.
معرفة الفضل والأجر العظيم لمن تولى تكفين الميت المسلم، لحديث أبي رافع وفيه: «مَنْ كَفَّنَ مَيِّتًا كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ سُنْدُسِ وَإِسْتَبْرَقِ الْجَنَّةِ»[2].
الكفن أو ثمنه من مال الميت، ولو لم يخلف غيره، لحديث خباب بن الأرت قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير قُتل يوم أحد، فلم يوجد له شيء، وفي رواية: ولم يترك إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ - وفي رواية: غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإِذْخِرَ[3]»، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها - أي يجتنيها[4].

يكفن المحرم في ثوبيه الذي مات فيهما ولا يغطى رأسه ولا وجهه، ولا يطيب؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنه في الذي وقصته راحلته: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا»[5].
وفي لفظ مسلم: «وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ»[6].
وينبغي أن يكون الكفن طائلاً سابغًا يستر جميع بدنه لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيب يومًا، فذكر رجلًا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل، وقُبر ليلًا، فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل بالليل حتى يُصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَه»[7].
قال العلماء: والمراد بإحسان الكفن نظافته وكثافته وستره وتوسطه، وليس المراد به السرف فيه والمغالاة ونفاسته.
فإن ضاق الكفن عن ذلك ولم يتيسر السابغ، ستر به رأسه، وما طال من جسده، وما بقي منه مكشوفًا جعل عليه شيء من الإذخر أو غيره من الحشيش.
وفيه حديثان: الأول: عن خباب بن الأرت في قصة مصعب، وقوله صلى الله عليه وسلم في نمرته: «ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ -وفي رواية: غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإِذْخِرَ»[8].

الثاني: عن حارثة بن مضرب قال: «دَخَلْتُ عَلَى خَبَّابٍ وَقَدِ اكْتَوَى فِي بَطْنِهِ سَبْعًا، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ»، لَتَمَنَّيْتُهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُول ِاللهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَمْلِكُ دِرْهَمًا، وَإِنَّ فِي جَانِبِ بَيْتِي الآنَ لَأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، قَالَ: ثُمَّ أُتِيَ بِكَفَنِهِ فَلَمَّا رَآهُ بَكَى وَقَالَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إِلَّا بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ، إِذَا جُعِلَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ قَلَصَتْعَنْ رَأْسِهِ، حَتَّى مُدَّتْ عَلَى رَأْسِهِ، وَجُعِلَ عَلَى قَدَمَيْهِ الإِذْخِرُ»[9].
وإذا قَلَّت الأكفان وكثرت الموتى، جاز تكفين الجماعة منهم في الكفن الواحد ويقدم أكثرهم قرآنًا إلى القبلة لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على حمزة بن عبد المطلب فوقف عليه فرآه قد مثل به، فقال: «لَوْلَا أَنْ تَجِدَ صَفِيَّةُ فِي نَفْسِهَا لَتَرَكْتُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الْعَافِيَةُ[10] - وقال زيد بن الحباب: تَأْكُلَهُ العَاهَةُ - حَتَّى يُحْشَرَ مِنْ بُطُونِهَا»، ثم قال: دعا بنمرة فكفنه فيها، قال: وكانت إذا مدت على رأسه بدت قدماه، وإذا مدت على قدميه بدا رأسه، قال: فكثر القتلى وقلت الثياب، قال: فكان يكفن أو يكفن الرجلين - شك صفوان - والثلاثة في الثوب الواحد، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن أكثرهم قرآنًا فيقدمه إلى القبلة، قال: فدفنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليهم، وقال زيد ابن الحباب: «فكان الرجل والرجلان والثلاثة يكفنون في ثوب واحد»[11].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «معنى الحديث أنه كان يقسم الثوب الواحد بين الجماعة، فيكفن كل واحد ببعضه للضرورة، وإن لم يستر إلا بعض بدنه، يدل عليه تمام الحديث أنه كان يسألُ عن أكثرهم قرآنًا فيقدمه في اللحد، فلو أنهم في ثوب واحد جملة لسأل عن أفضلهم قبل ذلك كي لا يؤدي إلى نقص التكفين وإعادته»[12].
اهـ.
لا يجوز نزع ثياب الشهيد التي قُتل فيها، بل يدفن وهي عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد: «زَمِّلُوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ»[13].
يستحب تكفينه بثوب واحد أو أكثر فوق ثيابه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصعب بن عمير وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما.
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث الزبير بن العوام قال: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ تَسْعَى، حَتَّى إِذَا كَادَتْ أَنْتُشْرِفَ عَلَى الْقَتْلَى، قَالَ: فَكَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَرَاهُمْ، فَقَالَ: «الْمَرْأَةَ الْمَرْأَةَ»، قَالَ الزُّبَيْرُ: فَتَوَسَّمْتُ أَنَّهَا أُمِّي صَفِيَّةُ، قَالَ: فَخَرَجْتُ أَسْعَى إِلَيْهَا، فَأَدْرَكْتُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْقَتْلَى، قَالَ: فَلَدَمَتْ فِي صَدْرِي، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَلْدَةً، قَالَتْ: إِلَيْكَ لَا أَرْضَ لَكَ، قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَزَمَ عَلَيْكِ، قَالَ: فَوَقَفَتْ وَأَخْرَجَتْ ثَوْبَيْنِ مَعَهَا، فَقَالَتْ: هَذَانِ ثَوْبَانِ جِئْتُ بِهِمَا لِأَخِي حَمْزَةَ، فَقَدْ بَلَغَنِي مَقْتَلُهُ فَكَفِّنُوهُ فِيهِمَا، قَالَ: فَجِئْنَا بِالثَّوْبَيْنِ لِنُكَفِّنَ فِيهِمَا حَمْزَةَ، فَإِذَا إِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ قَتِيلٌ، قَدْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِحَمْزَةَ، قَالَ: فَوَجَدْنَا غَضَاضَةً وَحَيَاءً أَنْ نُكَفِّنَ حَمْزَةَ فِي ثَوْبَيْنِ، وَالأَنْصَارِيُّ لَا كَفَنَ لَهُ، فَقُلْنَا: لِحَمْزَةَ ثَوْبٌ، وَللِْأَنْصَارِيِّ ثَوْبٌ، فَقَدَرْنَاهُمَا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَكْبَرَ مِنَ الآخَرِ،فَأَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا فَكَفَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الثَّوْبِ الَّذِي طَارَ لَهُ»[14].
يستحب في الكفن أمور: البياض: لقوله صلى الله عليه وسلم: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ»[15].
كونه ثلاثة أثواب لحديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفن في ثلاثة أثواب يمانية بيض سحولية من كرسف[16]، ليس فيهن قميص ولا عمامة [أُدرج فيها إدراجًا][17].
أن يكون أحدها ثوب حبرة إذا تيسّر، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تُوُفِّيَ أَحَدُكُمْ فَوَجَدَ شَيْئًا فَلْيُكَفَّنْ فِي ثَوْبٍ حِبَرَةٍ[18]».[19]
قال الشيخ الألباني رحمه الله: «واعلم أنه لا تعارض بين هذا الحديث، وبين الحديث الأول في البياض: «وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ»، لإمكان التوفيق بينهما يوجه من وجوه الجمع الكثيرة المعلومة عند العلماء، ويخطر في بالي الآن وجهان: الأول: أن تكون الحبرة بيضاء مخططة، ويكون الغالب عليها البياض، فحينئذ يشملها الحديث الأول باعتبار أن العبرة في كل شيء بالغالب عليه، وهذا إذا كان الكفن ثوبًا واحدًا، وأما إذا كان أكثر فالجمع أيسر، وهو الوجه الآتي: أن يجعل كفن واحد حبرة وما بقي أبيض، وبذلك يعمل بالحديثين معًا»[20].

تبخيره ثلاثًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَجْمَرْتُمُ الْمَيِّتَ، فَأَجْمِرُوهُ ثَلَاثًا»[21].
وهذا الحكم لا يشمل المحرم.
لا يجوز المغالاة في الكفن، ولا الزيادة فيه على الثلاثة؛ لأنه خلاف ما كفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه إضاعة للمال، ولا سيما والحي أولى به، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «إن الحي أحق بالجديد- لما قيل له عند تعيينه لثوب من أثوابه في كفنه: إن هذا خَلق»[22] - [23].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] سبق تخريجه ص596. [2] تقدم تخريجه ص 593. [3] بكسر الهمزة والخاء: حشيش معروف طيب الرائحة. [4] صحيح البخاري برقم 1276، وصحيح مسلم برقم 940. [5] صحيح البخاري برقم 1265، وصحيح مسلم برقم 1206. [6] برقم 1206 وقال بعض أهل العلم رواية ولا وجهه غير محفوظة.
انظر زاد المعاد (2 /298). [7] صحيح مسلم برقم 943. [8] صحيح البخاري برقم 1265، وصحيح مسلم برقم 1206 [9] مسند الإمام أحمد (34 /550) برقم 21072، وقال محققوه: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير حارثة بن مضرب، روى له البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن وهو ثقة. [10] هو السباع والطير التي تقع على الجيف فتأكلها، ويجمع على العوافي. [11] مسند الإمام أحمد (19 /311-312) برقم 12300، وقال محققوه: حسن لغيره. [12] عون المعبود شرح سنن أبي داود (8 /285). [13] مسند الإمام أحمد (39 /62) برقم 23657، وقال محققوه: حديث صحيح. [14] (3 /34) برقم 1418، وقال محققوه: إسناده حسن. [15] سنن أبي داود برقم 3878، ومسند الإمام أحمد برقم 3426، وقال محققوه: إسناداه قويان. [16] وهو القطن. [17] صحيح البخاري برقم 1273، وصحيح مسلم برقم 941، والزيادة لأحمد (6 /40-93-118) وغيره من المواضع، قال الشيخ الألباني: والزيادة صريحة الدلالة على أن الأثواب لم تكن مزررة ولا قمصان، والحديث الوارد فيها منكر كما بينته في الضعيفة (5909)، أحكام الجنائز ص83. [18] بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة، ما كان من البرود مخططًا. [19] سنن أبي داود برقم 3150، وقال الشيخ الألباني رحمه الله: وهذا سند صحيح عندي- أحكام الجنائز ص83. [20] أحكام الجنائز ص84. [21] مسند الإمام أحمد (22 /411) برقم 14540، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم، وصححه النووي في المجموع (5 /196). [22] صحيح البخاري برقم 1387. [23] انظر: أحكام الجنائز للشيخ الألباني رحمه الله ص 76-85.



شارك الخبر

المرئيات-١