من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
مدة
قراءة المادة :
32 دقائق
.
من يرد الله به خيراً يفقهه في الدينطلب العلم..
فضله وآدابه
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فالعلم النافع هو الطريق الموصل لرضوان الله عزَّ وجل؛ فبالعلم يصحُّ إيمان المرء وعقيدتُه، وبالعلم يُصلِح المرءُ عبادتَه وطاعاته، فعملٌ بلا علمٍ لا قيمةَ له؛ فمن يعمل بلا علم قد يقع في البدعِ من حيث لا يَدري، ثم يجد عملَه يوم القيامة هباءً منثورًا، فاللهُ عز وجل لا يقبل من العمل إلاَّ أخلصَه وأَصْوبه، وبالعلم نتعلَّم الإخلاصَ والمتابعة؛ لذلك قال علماء السلف: "العلمُ قبل القولِ والعمل".
والعلمُ هو الحصن الذي يحفظ السالِكَ لرضوان الله من الشُّبهات التي يُلقيها الشيطان في القلوب، ويحفظه من الوقوعِ في حبائل الفِرَق الضالَّة وشبهاتها مع نشاط هذه الفِرَق وتستُّرها ولبسها ثوبَ الناصح الأمين.
فلا سبيلَ إلى النجاةِ وسلوك الطريق القويم إلاَّ بطلب العلم.
فضل طلب العلم:
أولاً من القرآن الكريم:
1- ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18]، قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: هذه الآية دليلٌ على فضل العلم وشرفِ العلماء؛ فإنه لو كان أحدٌ أشرفَ من العلماء لقرنهم اللهُ باسمه واسمِ ملائكته كما قرن العلماء.
وقال ابن القيم: "استشهد سبحانه بأولي العلم على أجلِّ مشهودٍ عليه، وهو توحيدُه، وهذا يدلُّ على فضل العلمِ وأهلِه".
2- ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، قال ابن القيم: هذا كقوله: ﴿ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ﴾ [الحشر: 20]، وهذا يدلُّ على غاية فضلهم وشرفِهم، وقال القرطبي رحمه الله: "أي كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيعُ والعاصي".
3- ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، قال ابن كثير: "أي: إنما يخشاه حقَّ خشيته العلماءُ العارفون به؛ لأنه كلَّما كانت المعرفةُ بالله العظيم أتمَّ والعلمُ به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر".
وقال السعدي: "فكلُّ من كان بالله أَعلم، كان أكثر له خشية، وأوجبَت له خشيةُ الله الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء مَنْ يخشاه، وهذا دليلٌ على فضيلة العلم؛ فإنه داعٍ إلى خشية الله، وأهلُ خشيته هم أهلُ كرامته".
4- ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11]، قال القرطبي: "أي: الثواب في الآخرة والكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمنَ على من ليس بمؤمنٍ، ويرفع العالمَ على من ليس بعالم، والمعنى: أنه يرفع الله الذين أوتوا العلمَ على الذين آمنوا ولم يؤتَوا العلم درجات في دينهم، إذا فعلوا ما أُمروا به".
5- ﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الرعد: 19]، قال ابن القيم: فما ثمَّ إلا عالمٌ أو أعمى، وقد وصف سبحانه أهلَ الجهل بأنهم صمٌّ بكمٌ في غير موضع من كتابه.
6- ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43].
قال ابن كثير رحمه الله: "أي: وما يفهمها ويتدبَّرها إلا الراسخون في العلمِ، وعن عمرو بن مرة قال: ما مررتُ بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني؛ لأني سمعتُ اللهَ تعالى يقول: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ...
﴾ الآية، وكان بعض السلف إذا مرَّ بمَثَلٍ لا يفهمه يبكي، ويقول: لستُ من العالِمين".
7- أن الله تعالى أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بطلب المزيد من العلم؛ قال اللهُ جل جلاله: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، قال الكرماني: "طلبُ زيادة العلم يدلُّ على فضله؛ إذ لولا فضلُه لما أمر اللهُ تعالى بطلبه".
وقال ابن القيم: "وكفى بهذا شرفًا للعلم؛ أنْ أمَر نبيَّه أن يسألَه المزيد منه".
ثانيًا من نصوص السنة:
1- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يُرِدِ اللهُ به خيرًا، يفقهه في الدِّين))؛ رواه البخاري ومسلم، قال النووي: فيه فضيلة العلم، والتفقُّهِ في الدين، والحثُّ عليه، وسببُه أنه قائدٌ إلى تقوى الله تعالى.
قال ابن القيم: وهذا يدلُّ على أن من لم يفقهه في دينه لم يُرِد به خيرًا، كما أن من أراد به خيرًا فقَّهه في دينه، وهذا الفقهُ الذي يستلزم العمل، لا أن يُراد به مجرَّد العلم".
قيل للحسن يومًا في شيء: ما هكذا قال الفقهاءُ، قال: "ويحك، هل رأيت فقيهًا؟! إنما الفقيه: الزاهدُ في الدنيا، الرَّاغب في الآخرة، البصيرُ بأمر دينه، المداوم على عبادة ربه".
2- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضعُ أجنحتَها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالمَ ليستغفرُ له مَن في السموات ومَن في الأرض حتى الحيتانُ في الماء، وفَضْل العالمِ على العابد كفضلِ القمرِ على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثةُ الأنبياء، إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنما ورَّثوا العلمَ؛ فمَن أخَذه، أخَذ بحظٍّ وافر)).
• قال في مختصر منهاج القاصدين: "قال الخطابي: في معنى وضع الملائكة أجنحتَها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه بسطٌ للأجنحة.
الثاني: أنه بمعنى التواضع؛ تعظيمًا لطالب العلم.
الثالث: أن المراد به النزول عند مجالس العلم، وترك الطيران.
• وإنه لما كان العالم سببًا في حصول العلم الذي به نجاةُ النفوس، وكانت نجاة العباد على يديه؛ جُوزِيَ من جنسِ عمله، وجُعل من في السموات والأرض ساعيًا في نجاته باستغفارِهم له.
• ((فضلُ العالم على العابد))؛ تشبيهٌ مطابِقٌ لحال القمر والكواكب؛ فالقمرُ يضيء الآفاقَ، ويمتدُّ نوره في أقطار العالم، وأما الكواكب فنورها لا يجاوز نفسها أو ما قرب منها، وهذا حال العابدِ الذي يضيء نور عبادتِه عليه دونَ غيره.
• ((وإن العلماءَ وَرثة الأنبياء))؛ فهذا من أعظم المناقب لأهلِ العلم؛ فإن الأنبياء خيرُ خلق الله، فورثتُهم هم خيرُ الخلق بعدهم، ولما كان كلُّ موروث ينتقل ميراثُه إلى ورثته؛ إذ هم الذين يقومون مقامَه مِن بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامَهم في تبليغ ما أُرسلوا به إلا العلماء؛ فكانوا أحقَّ الناس بميراثهم، وفي هذا تنبيهٌ على أنهم أقربُ الناس إليهم؛ فإن الميراث إنما يكون لأقربِ الناس إلى الموروث، فكذلك هو في ميراث النبوَّة، ﴿ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 105].
ويُذكر عن أبي هريرة أنه مرَّ بالسُّوق فوجدهم في تجاراتهم وبيوعاتهم، فقال: أنتم ها هنا في ما أنتم فيه، وميراثُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم يُقسمُ في مسجده، فقاموا سراعًا إلى المسجد، فلم يجدوا فيه إلا القرآن والذِّكر ومجالس العلم، فقالوا: أين ما قلتَ يا أبا هريرة؟! فقال: هذا ميراثُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم يقسم بين ورثتِه، وليس بمواريثكم ودنياكم، أو كما قال.
3- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلا ذِكر الله وما والاه، وعالمًا ومتعلِّمًا))، قال الطيبي: "وكان من الظاهر أن يكتفي بقوله: ((وما والاه))؛ لاحتوائه على جميعِ الخيرات والفاضلات ومستحسَناتِ الشرع، لكنه خصَّص بعد التعميم؛ دلالةً على فضل العالِم والمتعلِّم، وتفخيمًا لشأنهما صريحًا، وإيذانًا بأن جميع الناس سواهُما همجٌ".
4- وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مَثَل ما بَعثني اللهُ به من الهُدى والعلم كمَثَلِ غيثٍ أصاب أرضًا، فكانت منها طائفةٌ طيبة؛ قَبِلَت الماءَ وأنبتت الكلأَ والعشبَ الكثير، وكان منها أجادبُ أمسكت الماءَ؛ فنفع الله بها الناسَ فشربوا منها وسقوا، وأصابت طائفةً أخرى منها إنما هي قيعانٌ، لا تُمسك ماء ولا تُنبت كلأ، فذلك مَثَلُ من فقُه في دين الله، ونفَعه ما بعثني الله به فعَلِمَ وعلَّم، ومَثَل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يَقبل هُدى الله الذي أُرسلت به))؛ رواه البخاري ومسلم.
قال ابن القيم: شبَّه صلى الله عليه وسلم العلمَ والهدى الذي جاء به بالغيثِ؛ لِما يحصل بكل واحد منهما من الحياةِ والمنافع وسائرِ مصالح العباد، وشبَّه القلوبَ بالأراضي التي يقع عليها المطر؛ لأنها المحلُّ الذي يُمسك الماءَ فينبت سائرَ أنواع النبات، كما أن القلوبَ تعي العلمَ فيثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته، ثم قسَّم الناس إلى ثلاثة أقسام:
أ- أهل الحفظ والفَهم؛ الذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيه، واستنبطوا وجوهَ الأحكام والحكم.
ب- أهل الحفظ؛ الذين رُزقوا حفظه ونقله وضبطه، ولم يُرزقوا تفقهًا في معانيه، ولا استنباطًا، فهُم بمنزلة من يقرأ القرآنَ ويحفظه ويراعي حروفَه وإعرابه ولم يُرزق فيه فهمًا خاصًّا عن الله.
ج- الذين لا نصيب لهم منه؛ لا حفظًا ولا فهمًا، وهؤلاء هم الأشقياء.
5- عن أبي أمامة الباهلي قال: ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما عابدٌ، والآخر عالم، فقال: ((فضلُ العالمِ على العابد، كفضلِي على أدناكم)).
ثالثًا: من آثار السلف:
1- قال قتادة: قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تذاكُر العلم بعض ليلةٍ، أحبُّ إليَّ من إحيائها".
2- قال علي رضي الله عنه: "كفى بالعلم شرفًا أن يدَّعيه من لا يُحسنه، ويفرحَ به إذا نُسب إليه، وكفى بالجهل ذمًّا أن يَتبرأ منه من هو فيه".
3- قال معاذ بن جبل: "تعلَّموا العلمَ؛ فإن تعلُّمه لله خشيةٌ، وطلبَه عبادةٌ، ومدارسته تسبيحٌ، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقةٌ، وبذله لأهله قُربة، وهو الأنيس في الوَحدة، والصاحبُ في الخلوة".
4- قال سفيان بن عيينة: قال عمر بن عبدالعزيز: "من عمل في غيرِ علمٍ، كان ما يفسد أكثرَ ممَّا يُصلح".
5- وقال أيضًا: "أرفع الناس منزلةً عند الله، من كان بين اللهِ وبين عبادِه؛ وهم الرسلُ والعلماء".
6- قال الحسن: رأيت أقوامًا من أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يقولون: "من عمِل بغير علمٍ، كان ما يفسدُه أكثرَ مما يصلحه، والعامل بغير علمٍ كالسائر على غير طريقٍ، فاطلبوا العلمَ طلبًا لا يضرُّ بالعبادةِ، واطلبوا العبادة طلبًا لا يضرُّ بالعلم".
7- قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكُمَيل: "إن القلوب أوعيةٌ، فخيرُها أوعاها، احفظ ما أقولُ لك: الناسُ ثلاثة؛ فعالمٌ ربَّانيٌّ، ومتعلِّمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع أتباعُ كلِّ ناعقٍ، يميلون مع كلِّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنورِ العلمِ ولم يَلجؤوا إلى ركنٍ وثيق، العلم خيرٌ من المال؛ العلمُ يحرسُكَ وأنت تحرس المالَ، العلم يزكو على العملِ، والمال تنقصه النفقةُ".
آداب طالب العلم:
1- إخلاص النية لله في طلب العلم:
تقرَّر في الشرع أن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العبادات إلا ما كان لوجهه خالصًا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((بشِّر هذه الأمة بالسَّناء والتَّمكين في البلاد، والنَّصر والرفعةِ في الدِّين، ومَن عمل منهم بعملِ الآخرة للدُّنيا فليس له في الآخرة نصيب)).
وقال ابن جماعة رحمه الله: "حُسن النيَّة في طلب العلم: بأن يقصدَ به وجهَ الله تعالى، والعملَ به وإحياءَ الشريعة، وتنوير قلبِه وتحليةَ باطنه، والقربَ من الله تعالى يوم القيامة، والتعرُّضَ لما أعد لأهله من رضوان وعظيمِ فضله...، ولا يَقصد به الأغراضَ الدنيوية؛ من تحصيل الرياسةِ والجاهِ، ومباهاة الأقران، وتعظيمِ الناس له وتصديره في المجالس".
قال أبو يوسف رحمه الله: "يا قوم، أريدوا بعملكم اللهَ تعالى؛ فإني لم أجلس مجلسًا قطُّ أنوي فيه أن أتواضعَ إلا لم أقم حتى أعلوَهم، ولم أجلس مجلسًا أنوي فيه أن أعلوَهم إلا لم أقم حتى أفتضحَ".
والعلمُ عبادة من العبادات؛ فإن خلصَت فيه النيةُ قُبل وزَكَا ونمت بركته، وإن قُصد به غير وجه الله تعالى حَبط وضاع وخسر صفقته.
وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن: ((أول الناس يُقضى يوم القيامة عليهم ثلاثةٌ))، منهم: ((رجل تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأَ القرآنَ، فأُتي به، فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العلم وعلمتُه وقرأتُ فيك القرآنَ، قال: كذبتَ، ولكنك تعلمتَ ليقال: عالمٌ، وقرأتَ ليقال: قارئ، فقد قيلَ، ثمَّ أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار))، فهذا الحديث قاضٍ بأن على طالب العلم أن يصحِّح نيتَه في طلبه؛ فلا يكون إلا لله وحده، يبتغي عنده الرضوانَ، ويرجو لديه الثواب، لا ليرتفعَ في أعين الناس.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب العلمَ ليباهي به العلماءَ، ويماري به السفهاءَ، أو ليصرف وجوهَ الناس، فهو في النَّار))؛ رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
ومِن علامات هذه الشهوة الخفيَّة: أن المتفقهَ يتعجلُ الفتوى والتدريسَ بمجرَّد أن يتصيَّد مسألةً من هنا أو هناك، ومن علاماتها: أن يشتغل بعلوم الاجتهاد قبل التفقُّه في دين الله.
قال أبو قلابة لأيوب السختياني: "يا أيوب، إذا أحدث الله لك علمًا، فأحدِث له عبادةً، ولا يكن همك أن تحدِّث به الناسَ".
وقال الحسن البصري: "همَّة العلماء الرعاية، وهمة السفهاء الرِّواية، فإذا لم تجد القولَ موافقًا للعمل، فاعلَم أنه نذيرُ النفاق".
فلتحذر يا طالبَ العلم من هذه الشهوة الخفيَّة، فطلب العلم طريقٌ إلى الجنة؛ فإن اتخذتَه طريقًا إلى الدنيا، لم تُبق لنفسك حظًّا من الجنة.
وكم رأينا ممَّن حازوا العلمَ، ولكن لم يجعل الله فيه خيرًا ولا بركةً، وتأثيره في نفوس الناس ضعيفٌ، مهما بلغَت كثرتُه، ولكنه كثير بلا بركة، بخلاف من تعلَّم العلمَ لله، وبذَلَه للناس لوجهِ الله والدَّارِ الآخرة، تجد عليه بركةً ولو كان قليلاً، وتجد له نورًا ولو كان يسيرًا، وتجد تأثيره في نفوس الناس عظيمًا.
فيجب على طالب العلم أن يجاهدَ نفسَه، ويدفعَ عنه هذه الآفة، وأن يُدافعها في كلِّ حين، وأن يجدِّد نيتَه لله عز وجل، وأن يدعو اللهَ أن يرزقه الإخلاصَ في القول والعمل.
ولكن، على طالب العلمِ ألاَّ ينقطعَ عن الطلب لعدم خلوص نيته؛ فإن حُسن النية قد يأتي له بفضل بركة العلم.
قال كثير من السلف: "طلبنا العلمَ لغير الله، فأبى إلاَّ أن يكون لله".
وقال غيره: "طلبنا العلمَ وما لنا كبير نيَّة، ثم رزقَ اللهُ النية بعدُ".
أسأل اللهَ عز وجل أن يرزقنا الإخلاصَ في القول والعمل، وأن يعلِّمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علَّمنا.
2 - الاشتغال بطهارة الباطن والظاهرِ من شوائب المخالفات:
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الملائكة لا تدخلُ بيتًا فيه كلبٌ ولا صورة))؛ فكيف ينزلون قلبًا مليئًا بالأنجاسِ ومذمومِ الصفات؛ مثل: الغضبِ والحسَدِ والحِقد والكِبْر، وغيرِها؟! فالقلبُ المظلم المشحون بالذنوب لا يستطيع استقبالَ الملائكة، ولا يبقى فيه مكانٌ للعلم الذي هو نورٌ يقذفه اللهُ في قلوب من أراد.
قال الإمام الشافعي:
شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حِفظي
فأرشدَنِي إلى تركِ المعاصي
وأخبرني بأنَّ العلمَ نورٌ
ونورُ الله لا يُهدى لعاصِي
فعلى طالب العلم أن يطهِّر ظاهرَه؛ بمجانبة البدع، والتحلِّي بسننِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحوالِه كلِّها، وأن يطهِّر قلبَه من كل غشٍّ وحسدٍ وسوءِ عقيدة وخُلُقٍ؛ ليصلُح بذلك لقبول العلمِ وحفظه والاطِّلاع على دقائق معانيه.
فإن العلم كما قال بعضُهم: "صلاةُ السرِّ، وعبادة القلبِ، وقربةُ الباطن"، وكما لا تصحُّ الصلاة - التي هي عبادةُ الجوارح الظاهرة - إلاَّ بطهارة الظَّاهر من الحدَث والخبَث، فكذلك لا يصحُّ العلم الذي هو عبادةُ القلب إلا بطهارته.
قال سهل: "حرامٌ على قلبٍ أن يدخلَه النورُ وفيه شيءٌ مما يكره اللهُ عز وجل".
3- تفريغ القلب للعلم:
قال في مختصر منهاج القاصدين: "وينبغي له قطعُ العلائق الشاغلة؛ فإن الفكرةَ متى توزَّعَت قصرَت عن درك الحقائقِ، وقد كان السلف يؤثرون العلمَ على كلِّ شيءٍ".
وقال ابن جماعة رحمه الله: "على طالب العلم أن يبادرَ شبابَه وأوقات عمرِه إلى التحصيل، ولا يغترَّ بخدع التسويفِ والتأميل؛ فإن كلَّ ساعة تمضي من عمره لا بدلَ لها ولا عِوض عنها، ويقطع ما يقدرُ عليه من العلائقِ الشاغلة والعوائقِ المانعة عن تمام الطَّلبِ وبذلِ الاجتهاد وقوة الجدِّ في التحصيل؛ فإنها كقواطع الطريق".
4- الاستعانة بالله وإدامة الذكر:
أهمُّ ما ينبغي لطالب العلم الحرص عليه ذكرُ الله عزَّ وجل في كلِّ حالٍ؛ فإن ذكر اللهِ هو باب الفتحِ الأعظم، وسبيل الوصول الأقوم، ومن صدَف عنه فقد حُرم الخيرَ كلَّه، وسار على غير سبيل، ومن وُفِّق إليه فقد هُدي إلى الرشدِ.
قال ابن القيم: "حضرتُ ابن تيمية مرَّة صلى الفجرَ ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريبٍ من انتصاف النهار، ثم التفتَ إليَّ، وقال: هذه غَدوتي، ولو لم أتغدَّ الغداء لسقطَت قوتي".
هذا حالُهم، وهذا الذي بلغ بهم ما بلغوا من علمٍ كثيرِ البركة؛ ولهذا فُتح لهم من أبواب العلم ما لم يُفتح لغيرهم.
وكان شيخُ الإسلام ابن تيمية يقول: "ربما طالعتُ على الآية الواحدة مائةَ تفسيرٍ، ثم أسأل اللهَ الفهمَ، وأقول: يا معلِّم إبراهيم علمني".
5- اختيار الصاحب والرفيق:
ينبغي لطالب العلم ألا يخالِط إلا من يفيده أو يستفيد منه، وإن تعرَّض لصحبةِ من يضيِّع عمرَه معه ولا يفيده ولا يستفيد منه ولا يعينه على ما هو بصددِه، فليتلطَّف في قطعِ عِشرته به مِن أوَّل الأمرِ قبل تمكُّنها؛ فإن الأمور إذا تمكَّنَت عسرَت إزالتُها، ومن الجاري على ألسنة الفقهاء: "الدَّفعُ أسهلُ من الرفع"، وإن احتاج إلى من يصحبه فليكن صالحًا تقيًّا ورعًا ذكيًّا كثيرَ الخير قليل الشرِّ، إن نسيَ ذكَّره، وإن ذَكر أعانه، وإن احتاج واساهُ، وإن ضجر صبَّره.
6- علو الهمة:
على طالب العلم أن تكون همتُه عالية؛ فلا يرضى باليسير من العلمِ مع إمكان الكثير، وألا يؤخِّر واجبات يومِه إلى غده، ولا يغفل عن استحضاره دروسه، ولا يضيِّع وقتَه.
قيل للشعبي رحمه الله: من أين لك هذا العلم كلُّه؟ قال: "بنفي الاعتماد، والسيرِ في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبُكور كبُكورِ الغراب".
وينبغي على طالب العلم تركُ الكسل والتواني، فقد قال يحيى بن أبي كثير: "لا يُستطاع العلمُ براحة الجسم"؛ فإن المرء يطيرُ بهمَّته كالطير يطير بجناحيه.
قال الحسن: "إنما يذهب العلمُ بالنسيانِ وتركِ المذاكرة".
وعلى طالب لعلم: المداومةُ على الطلب، قال مالك رحمه الله: "لا ينبغي لأحد يكون عنده علمٌ أن يتركَ التعلُّم".
وقال محمد بن الحسن: "إن صناعتَنا هذه من المهدِ إلى اللَّحدِ، فمن أراد أن يترك عملَنا هذا ساعةً، فليتركه السَّاعة".
آفات طالب العلم:
سبيل العلم محفوفةٌ بالمكاره والمشاقِّ، ومداخل الشيطان فيه لا تُحصى، فمنها ما يُفسِد العلمَ ذاته على صاحبه، ومنها ما يُفسِد القصدَ والإرادة فيه، ومنها ما يُفسد سبيلَ الطلب، والناجي مَن عصَمه الله؛ لذلك ينبغي لطالب العلم أن يَلتفِتَ إلى درس الآفات التي تَعرِضُ للعلم فتفسده؛ حتى لا يصيبه شيءٌ منها.
1- تعلُّم العلم لغير وجه الله:
فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وأُريد به وجهُه الكريم.
• عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلَّم علمًا ممَّا يُبتغى به وجهُ الله تعالى، لا يتعلَّمه إلا ليصيبَ به عرضًا من الدنيا، لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة)).
• عن علي رضي الله عنه: أنه ذكر فتنًا تكون في آخرِ الزمان، فقال له عمر: "متى ذلك يا علي؟ قال: إذا تُفقِّه لغير الدين، وتُعلِّم العلمُ لغير العمل، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة".
• قال الحسن: "من طلب العلمَ ابتغاء الآخرة أدركَها، ومن طلب العلمَ ابتغاء الدنيا فهي حظُّه منه".
2- كتم العلم:
على طالب العلم أن يبذل ما بيده من العلم النَّافع الدالِّ على العمل الصالح، ولا يكتم منه شيئًا، فالعالم كلَّما بذَل علمَه للناسِ ازدادَ كثرةً وقوة.
• عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((من سُئل عن علمٍ فكتمَه، أُلجم يوم القيامة بلجامٍ من نار)).
• وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثَل الذي يتعلَّم العلمَ ثم لا يحدِّث به، كمَثَل الذي يَكنز الكنزَ ثم لا يُنفِق منه)).
• وعن سليم بن عامر قال: "كان أبو أمامة يحدِّثنا فيُكثر، ثم يقول: عَقلتم؟ فنقول: نعم، فيقول: بلِّغوا عنَّا فقد بلغناكم".
• وعن ابن القاسم قال: كنا إذا ودَّعنا مالكًا يقول لنا: "اتقوا اللهَ، وانشروا هذا العلمَ، وعلِّموه ولا تكتموه".
3- القول على الله بغير علم:
• قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33].
• قال ابن القيم رحمه الله: وأمَّا القول على الله بغير علم، فهو أشدُّ هذه المحرمات تحريمًا وأعظمها إثمًا؛ ولهذا ذُكر في المرتبة الرابعة من المحرَّمات التي اتَّفقَت عليها الشرائعُ والأديان ولا تُباح بحالٍ، بل لا تكون إلا محرمة، وليست كالميتة ولحم الخنزير الذي يُباح بحالٍ دون حال.
• وهو يتضمَّن الكذبَ على الله ونسبتَه إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفيَ ما أثبته وإثبات ما نفاه.
• قال بعض السلف: "لِيحذر أحدُكم أن يقول: أحلَّ اللهُ كذا وحرَّم اللهُ كذا، فيقول الله: كذبتَ، لم أُحلَّ هذا ولم أحرِّم هذا"؛ يعني: التحليل والتحريم بالرَّأي المجرَّد بلا بُرهان من الله ورسوله.
• وقد قيل: "إذا كان نصف العلم: (لا أدري)، فنصفُ الجهل: (يقال، أو أظن)".
4- الدعوى في العلم والقرآن:
• عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحر، وحتى تخوض الخيلُ في سبيل الله، ثمَّ يظهر قوم يقرؤون القرآنَ، يقولون: مَن أقرأ منا؟ مَن أعلم منا؟ مَن أفقه منا؟))، ثم قال لأصحابه: ((هل في أولئك خير؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أولئك منكم مِن هذه الأمة، وأولئك هم وقود النار))؛ رواه الطبراني، وحسنه الألباني.
• وقال أبو عمر رحمه الله: من أدب العالم تركُ الدعوى لما لا يحسنه، وتركُ الفخر بما يحسنه.
5- فقد الخشية فيه:
• قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
• عن ابن مسعود: "ليس العلمُ عن كثرة الحديث، ولكنَّ العلم من كثرةِ الخشية".
• قال مالك: "إن العلم ليس بكثرة الرِّوايةِ، وإنما العلم نورٌ يجعله الله في القلب".
• قال سفيان الثوري، عن أبي حيان التيمي، عن رجل قال: "كان يقال العلماء ثلاثة:
"عالم باللهِ عالمٌ بأمر الله؛ وهذا هو الذي يخشى اللهَ ويعلم الحدودَ والفرائض، وعالمٌ بالله ليس بعالمٍ بأمرِ الله؛ وهو الذي يخشى اللهَ ولا يعلم الحدودَ والفرائض، وعالمٌ بأمر الله ليس بعالمٍ بالله؛ وهو الذي يعلم الحدودَ والفرائض ولا يخشى اللهَ".
• قال ابن رجب: "العلم النافع: هو ما باشرَ القلوبَ فأوجبَ لها السكينةَ والخشية والإخبات لله والتواضعَ، وإذا لم يباشر القلبَ ذلك العلمُ وإنما كان على اللسان؛ فهو حجَّةُ الله على بني آدم".
• وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذُ من قلبٍ لا يخشع، كان يقول: ((اللهم إنِّي أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشَع، ومن دعوةٍ لا يُستجاب لها)).
• وعن أبي قلابة: "إذا أحدث اللهُ لك علمًا، فأحدِث له عبادةً، ولا يكن همك أن تحدِّث به".
• قال ابن مسعود: "إن أقوامًا يقرؤون القرآنَ لا يجاوزُ تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخَ فيه نفعَ صاحبَه".
• وقال الحسن رحمه الله: "العلم علمان: علم باللسانِ، وعلم بالقلبِ؛ فعلم القلب: هو العلمُ النافع، وعلم اللسان: حُجَّة الله على بني آدم".
6- الكِبر والعُجب:
قال في مختصر منهاج القاصدين: اعلم أن العلماءَ والعبَّاد في آفةِ الكِبْر على ثلاث درجات:
الأولى: أن يكون الكِبر مستقرًّا في قلب الإنسان منهم؛ فهو يرى نفسه خيرًا من غيره، إلاَّ إنه يجتهدُ ويتواضع؛ فهذا في قلبه شجرةُ الكِبر مغروسة، إلاَّ أنه قد قَطع أغصانَها.
الثانية: أن يُظهر لك بأفعاله من الترفُّع في المجالِس والتقدُّم على الأقرانِ والإِنكار على من يقصِّر في حقِّه؛ فترى العالمَ يصعِّر خدَّه للناسِ كأنَّه معرِض عنهم.
الثالثة: أن يُظهر الكبر بلسانه؛ كالدعاوى والمفاخر وتزكيةِ النفس وحكاياتِ الأحوال.
• وعن أبي مسلم أن عمرَ بن الخطاب قال: "تعلَّموا العلمَ وعلِّموه الناسَ، وتعلموا له الوقارَ والسَّكينة، وتواضعوا لمن تعلَّمتم منه ولمن علَّمتموه".
7- النسيان:
قال الزهري: "إنما يُذهِب العلمَ النسيانُ وتركُ المذاكرة".
8- التعصُّب بالهوى والتقليد الأعمى:
فالواجب أخذ الحقِّ بدليله، وتركُ التعصُّب والتقليد جانبًا، فالخيرُ كلُّ الخير في الاتِّباع، والشرُّ كل الشر في الابتداع.
قال أبو حنيفة رحمه الله: "إذا قلتُ قولاً يخالف كتابَ الله تعالى وخبرَ الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتركوا قولي".
وقال مالك رحمه الله: "إنَّما أنا بشرٌ أخطئ وأصيب، فانظروا في رَأيِي؛ فكل ما وافق الكتابَ والسُّنةَ فخذوه، وكل ما لم يُوافق الكتابَ والسنة فاتركوه".
9- التسرُّع في الفتوى:
عن البراء قال: "لقد رأيتُ ثلاثمائةٍ من أهل بدر، ما مِنهم من أحدٍ إلا وهو يحبُّ أن يكفيه صاحبُه الفتوى".
وقال ابن عيينة: "أعلم الناسِ بالفتوى أسكتُهم فيها، وأَجهل الناس بالفتوى أنطقُهم فيها".
فعلى الأختِ المسلمة ألا تتسرَّع بالفتوى وتتجرأَ عليها؛ بل الورع الورع، فليس كل من قرأَت كتابًا هنا أو هناك أصبحَت أهلاً للفتوى.
ثمرة العلم العمل:
فكلُّ علمٍ لم يثمر عملاً، فإنما هو علمٌ يُلزم صاحبَه الحجةَ أمام الله عز وجل.
فالأصلُ في العلم هو العمل، وبالتالي فالعلمُ وسيلة وليس غاية، يقول الشاطبي: "العلمُ وسيلةٌ من الوسائل، ليس مقصودًا لنفسه من حيث النَّظر الشرعي؛ وإنما هو وسيلةٌ إلى العمل، وكل ما ورد في فَضل العلم فإنما هو ثابتٌ للعلم من جهة ما هو مكلَّف بالعمل به، فلم يَثبت فضلُ العلم مطلقًا؛ بل من حيث التوسُّل به إلى العمل"، ويقول أيضًا: "كلُّ علمٍ لا يفيد عملاً، فليس في الشرعِ ما يدلُّ على استحسانِه، ولو كان له غايةٌ أخرى شرعيَّة لكان مستحسنًا شرعًا".
• عن أُبي بن كعب قال: "تعلَّموا العلم واعملوا به، ولا تتعلَّموه لتتجمَّلوا به؛ فإنه يوشك إن طال بكم زمانٌ أن يُتجمَّل بالعلم كما يَتجمل الرجلُ بثوبه".
• وقال معاذ بن جبل: "اعلموا ما شِئتم أن تعلموا؛ فلن يأجُرَكم اللهُ بعلمٍ حتى تعملوا".
• وقال الحسن: "ابنَ آدم، ما يُغني عنك ما جمعتَ من حكمة الحكماء، وأنت تجري في العمل مَجرى السفهاء؟".
• وقال سفيان الثوري: "العلمُ يهتف بالعمل؛ فإن أجابَه وإلاَّ ارتَحل".
• ويُروى أن عيسى عليه السلام قال للحواريين: "لست أعلِّمكم لتعجبوا، وإنما أعلمكم لتعمَلوا، ليست الحكمةُ القولَ بها؛ إنما الحكمةُ العمل بها".
• وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يقول: "إنما أخشى مِن ربِّي يوم القيامة أن يدعوني على رؤوس الخلائقِ فيقول لي: يا عويمر، فأقول: لبَّيك رب، فيقول: ما عملتَ فيما علِمتَ؟".
• وقد بيَّن ابن القيم رحمه الله أن وجهًا من وجوه حرمان العلم عدمُ العمل به فقال: "إن العمل به يُوجب تذكُّره وتدبُّره ومراعاتَه والنظرَ فيه، فإذا أُهمل العملُ به نسيه، قال بعض السلف: كنا نستعينُ على حفظ العلم بالعملِ به".
• وقال أبو عمر رحمه الله: "قال بعض الحكماء: لولا العقلُ لم يكن علمٌ، ولولا العلمُ لم يكن عمل، ولأَن أدعَ الحقَّ جهلاً به خيرٌ من أن أدعه زهدًا فيه".
• قال ابن القيم: "للعلم ستُّ مراتب؛ أولها: حسنُ السؤال، ثانيها: حسنُ الإنصات والاستماع، ثالثها: حسنُ الفهم، رابعها: الحفظ، خامسُها: التعليم، سادسها - وهي ثمرته -: العملُ به ومراعاةُ حدودِه.
نسأل اللهَ عزَّ وجل أن يرزقنَا العلمَ النافعَ والعملَ الصالح، وأن يعلِّمنا ما ينفعنا وينفعَنا بما علَّمنا، والحمد لله رب العالمين.
المراجع بتصرُّف:
• تذكرة السامع والمتكلم؛ ابن جماعة.
• كتاب العلم؛ ابن عثيمين.
• حلية طالب العلم؛ بكر أبو زيد.
• مختصر منهاج القاصدين؛ ابن قدامة المقدسي.